فصول من السيرة الذاتيّة لـ”كولن ويلسون”- القسم العاشر


*ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي


توفّيت جدّتي بينما كنتُ مُنغمساً في كتابة (اللامنتمي) و شعرْتُ بأسفٍ عظيم لفقدانها لأنّها كانت امرأةً فاضلة كما القدّيسين وكان لها ذات المزاج الهادئ الطيّب الّذي كان لدى جوي . وبعد وقتٍ قصير من وفاة جدّتي وقعت والدتي فريسةً للمرض و كانت ورثت مزاجها الطيّب عن والدتها المتوفّاة وكانت ثمّة رابطةٌ وثيقةٌ تشدّني نحو والدتي – على نحوِ تلك الرابطة الّتي شدّت دي. إج. لورنس إلى والدته – مشفوعةً بنفورٍ عميق من والدي الّذي اعتاد الإساءة إلى والدتي وكان يعامِلُها على الدوام كأنها خادمةٌ في المنزل ليس إلّا !! . عانت والدتي من ألمٍ ممضٍّ في معدتها و تأكّد لاحقاً أنّ السبب وراء أوجاعِها هو زائدةٌ دوديّةٌ ملتهبة ، و بعدما انفجرت الزائدة اضطرّ الأطبّاء إلى إجراء جراحة عاجلةٍ لها لعلاج التهاب الاغشية البريتونيّة المحيطة بجوْفها البطنيّ ولم تتكلّل العمليّة بالنجاح و راح الأطبّاءُ يجرون لها العمليّة بعد العمليّة من غير نجاحٍ يذكر ، و لمّا كنتُ مرتعِباً من فقدان والدتي قبل نشر (اللامنتمي)، فقد اتّخذتُ قراري بالسفر إلى ليستر و المكوث هناك لرعاية والدتي العليلة و كنتُ آنذاك كتبْتُ نصف (اللامنتمي) الّذي كان عنواني المقترح لمخطوطته الأوّليّة ( عتبةُ الألم The Pain Threshold ) ، وقبل أن أستقلّ القطار المُغادر إلى ليستر ذهبْتُ إلى مقرّ الناشر غولانز وسألتُ السكرتيرة إن كان بإمكاني إيداعُ ما أنجزْتُهُ من الكتاب لديهم ثمّ إكماله لاحقاً بعد عودتي المرتقبة من ليستر فأخبرتْني السكرتيرة أنّ السيّد غولانز لم ينظر من قبلُ في أيّ كتابٍ قبل أن يكون مكتملاً و في صيغته النهائيّة المنقّحة و المعدّة للنشر ونصحتْني بأخذ الكتاب معي إلى ليستر والعمل على إكماله هناك ثمّ إرساله إليهم و حينها كان لزاماً عليّ أن اخبرها بأنّني قد أمكثُ بضعة شهورٍ في ليستر ورجوْتُها أن تُبقي المخطوطة غير المكتملة عندها فوافقت بعد تردّد . عندما وصلْتُ ليستر ذهبْتُ من فوري لرؤية والدتي الّتي بدت بغاية النحول و الإنهاك ولم يكن لديّ الكثيرُ لأقدّمه لها و لكن لحسن الحظّ تحسّنت حالتُها الصحّيّة بعد العمليّة الخامسة الّتي أجرِيَت لها لكنّها ظلّت تبدو أكبر بما لا يقلّ عن عشر سنواتٍ من أعوامها الثلاثة والأربعين ، و عندما زال الخطر عن والدتي إلى غير رجعةٍ عدْتُ إلى لندن على الفور و كنتُ سعيداً للغاية عندما وجدْتُ رسالةً بانتظاري من الناشر غولانز يخبِرُني فيها أنّه قرأ ما أنجزْته من العمل واتّخذ قراره النهائيّ بنشر العمل بعد أن يكتمل الكتاب ، وأضاف في رسالته أنّه يطلبُ رؤيتي بشأن الكتاب ، و هنا راح القلق يراودُني عند مباشرتي لكتابة النصف الثاني من الكتاب بشأن إمكانيّتي في الحفاظ على ذات المعيار الذي كتبْتُ به نصفهُ الأوّل ، وما الّذي عساه سيحصلُ لو لم ينلْ ذلك النصفُ إعجاب غولانز ؟ كان الوقتُ آنذاك منتصف حزيران و أراد غولانز مخطوطة الكتاب كاملةً مع منتصف أيلول و كان هذا يعني بالضرورة ثلاثة أشهرٍ من العمل المُتواصل من غير فسحةٍ لالتقاط الأنفاس ، و لم يكن ثمّة متّسعٌ من الوقت أمامي لكتابة النصّ بخطّ اليد ثمّ استنساخه على الآلة الكاتبة و هنا وجدْتُ أنّ الحلّ ربّما يكمنُ في إملاء النصّ على شخصٍ يجيدُ استخدام الآلة الكاتبة كما يجيدُ بذات الوقت مبادئ الكتابة الاختزاليّة shorthand ، و حالفَني الحظّ بالعثور على فتاةٍ في المقهى الّذي أعملُ فيه ممّن تتوفّرُ فيها هذه المتطلّبات و أذكرُ عندما رافقتْني إلى غرفتها الواقعة جنوب لندن لعمل بروفة اختباريّة لها على سبيل التجربة : فعندما قلتُ ” هذا هو الفصل السابع و سيكون عنوانه ( التركيب العظيم ) ،،، أكتبي العنوان بالأحرف الكبيرة و ضعي بعده صفّاً من النقاط ” ، و من الطبيعيّ أنّني كنتُ أعني صفّاً من النقاط توضعُ تحت العنوان و لكنّ مساعدتي الفتاة أساءت فهم الأمر و كتبت العنوان هكذا ( التركيب العظيم ….. ) و الغريبُ أنّني لم أكلّف نفسي عناء تصحيح الأمر و أبقيْتُ الحال كما هو و لازال عنوان الفصل السابع يظهرُ على هذه الهيئة في كلّ طبعةٍ من طبعات اللامنتمي الكثيرة و بمختلف اللغات ، و اندفعْنا للعمل أنا و مساعدتي الفتاة و راح الكتابُ ينسابُ بسهولة فائقة و كنّا ننجزُ ما يقاربُ عشر صفحاتٍ ( 2500 كلمة ) يوميّاً . 
بالعودة إلى المتحف البريطانيّ علمْتُ أنّ آنغوس ويلسون Angus Wilson المسؤول عن مكتبة المتحف كان قرأ الجزء الاوّل من مخطوطة ( طقوسٌ في الظلام ) و راقت له كثيراً ، و عندما أخبرْتهُ أنّ الناشر غولانز كان مهتمّاً بنشر الكتاب اقترح عليّ أن يُلقي ناشرُهُ فريد واربورغ Fred Warburg نظرةً على الكتاب ، و عندما عملْتُ بنصيحة أنغوس بدا واربورغ ضجِراً بعدما ألقى نظرةً أوّليّة على المخطوطة و لكن بعد أربعٍ و عشرين ساعة فحسب اتّصل بي ليُخبرَني موافقته على توقيع عقدٍ معي و منح مقدّمٍ ماليّ أوّلي عن الكتاب و لكنّني فضّلتُ عدم اتّخاذ أيّ قرارٍ بشأن الناشر المستقبليّ للكتاب و راقتْني فكرةُ أنّ ماحصل عزّز شعوري بأنّ كتابي الآخر ( اللامنتمي ) سيكونُ له تأثيرٌ مباشرُ و صادمُ فور نشره ، و قبل سنتيْن لاأكثر كنتُ أعدّ العدّة لأنال التقدير و الاعتراف المستحقّيْن مع بلوغي الخمسين و رأيْتُ أنّ من غير المجدي انتظاري الطويل حتّى ينال كتابي الاوّل التقدير اللازم و من ثمّ الشروع في مهنتي الكتابيّة و رأيْتُ أنّ من الأفضل الشروعُ على الفور في كتابة دزينةٍ من الكتب و الاحتفاظ بها في خزانتي حتّى إذا جاء النجاح و الاعترافُ يكون لي حينها تحت اليد العديد من الكتب الجاهزة للنشر ، و لكن مع القبول السريع لكتاب ( اللامنتمي ) بدا لي زُهدي الرواقيّ القديم غير ضروريّ أبداً . حصل قبل أعياد الميلاد تلك السنة أن عملْتُ بدوامٍ جزئيّ في مقهى آخر بشارع نورثمبرلاند و مضيْتُ في الوقت ذاته أعملُ على مخطوطة ( طقوسٌ في الظلام ) من جديد ، و أعلمَني غولانز حينها أنّه قبِل مخطوطة كتاب (اللامنتمي) بأكملها مقترحاً تعديل العنوان الأصلي الّذي كان ( عتبة الألم ) و جعلها ( اللامنتمي ) و منحني خمسة و عشرين جنيهاً كمقدّمة و وعدني بخمسين جنيهاً أخرى بعد نشر الكتاب . كان غولانز هو منْ دعاني لتناول وجبتي الغالية الأولى في مطعم فاخر و تناولْنا حينها السالمون المدخّن – الّذي صار وجبتي المفضّلة منذ ذلك الحين – كما كرعْنا الكثير من أحد الأصناف الممتازة من النبيذ الأحمر ، و عندما كنّا في طريقنا إلى المطعم توقّف غولانز فجأة و حدّق فيَّ ثمّ سألني ” قل لي بحقّ السّماء كيف نجحْتَ في قراءة كلّ تلك الكتب ؟ ” ، و بعد عودتي من الغداء في المطعم كتبْتُ على الفور لوالدتي أخبِرُها بشأن ما حصل و أكّدْتُ في رسالَتي على قوْلَ غولانز لي ” أظنُّ أنّني أرى فيك رجلاً عبقريّاً ” . 
دعاني أنغوس ويلسون مرّةً برفقة جوي لتناول الغداء في مطعمٍ بساحة الدلافين Dolphin Square و بدا لنا الأمرُ حينذاك أقرب إلى معجزة : أن نتناول الطعام مع كاتبٍ ذائع الشهرة ، و تبادلْنا الحديث معاً بشأن كُتّابٍ كثيرن من أمثال سومرست موم ، سي. بي. سنو ، و ستيفن سبندر ،،، و كان من الغريب أن يطلب آنغوس نصيحتنا بشأن ترك العمل في المتحف البريطانيّ و العمل ككاتبٍ متفرّغ ، و لو كنتُ حينذاك أعلمُ عن خفايا الحياة الادبيّة بالقدر الّذي أعلمه اليوم لنصحْتُهُ بلا تردّد بأن يبقى تحت مظلّة الأمان الماليّ الّذي يوفّره له عمله في المتحف !! . ثمّة أمرٌ رائعٌ وجدته في أنغوس و ربّما كان غريباً بعض الشيء أيضاً : كان آنغوس واحداً من أكثر الناس الّذين قابلتهم في كلّ حياتي ذكاءً و تحضّراً و كياسةً و ربّما لم تُتِح لي خلفيّتي العمّاليّة مقابلة الكثير من الأشخاص الأذكياء من أمثال أنغوس ، و مع أنّ بعضاً من أصدقائي المُقرّبين – من أمثال بيل هوبكينز – كانوا رفيعي الذكاء لكن لم يكن أيٌّ منهم مهووساً بالقراءة مثلما كنتُ أنا و من هذه الخلفيّة انبثق شعوري العميق بالراحة و الاسترخاء كلّما كنتُ ألتقي آنغوس ، فقد كان رائعاً على الدوام أن أكون قادراً على الكلام بحرّية و تلقائيّة عن أيّ كاتب منذ عهد هوميروس و حتّى سارتر و أنا واثقٌ تمام الثقة أنّ آنغوس يدركُ تماماً ما أقوله ، و قد جعلَني آنغوس أشعرُ بمدى سوء الحظّ الّذي لم يتُحْ لي قبل سنواتٍ الالتقاءَ بأشخاصٍ يماثلونه ذكاءً و تحضّراً ، و من المؤسف معرفة أنّ ما تسبّب في تدميره هو عشقه المفرط للحياة الأدبيّة الراقية مع كلّ ما يتعلّقُ بها : محاضرات ، رئاسة لجانٍ أدبيّة ، سفرات خارجيّة ،،،، و لم تكن روايات آنغوس الّتي تشعّ ذكاءً و ألمعيّة لتحقّق أعلى المبيعات أو تجذب صنّاع الأفلام أو القيّمين على شؤون الميديا ، و تحكي مارغريت درابل Margaret Drabble في السيرة الّتي كتبتْها عن حياة آنغوس بأنّ مبيعات أيّة روايةٍ من رواياته قلّما حقّقت رقماً يتجاوزُ الثمانية آلاف نسخة و لم يكن سعر النسخة منها ليتجاوز الجنيهيْن ، و إذا علمْنا أنّ الرجل كان يستغرقُ بضع سنواتٍ في كتابة كلّ رواية من رواياته لعرفْنا على الفور أنّه كان يعيشُ حياة ضنكٍ تكادُ تلامسُ خطّ الفقر إلى حدّ دفع الرجل – بغية الاقتصاد في مصروفاته – إلى أن يلتمس الإقامة في فرنسا و قد آذاه هذا الفعلُ كثيراً لانّه قطع صلاته مع أصدقائه البريطانيّين كما تسبّب له في خفوت جذوة ثقافته الأدبيّة البريطانيّة ، و عندما مات عام 1991 بتأثير التهابٍ دماغيٍّ حاٍّدّ تكفّل الصندوق الأدبيّ الملكيّ بدفع نفقات المستشفى الّتي كان يُعالَجُ فيها .
دُعيت في آذار 1956 إلى حضور الحفلة الأدبيّة الأولى لي بمناسبة نشر الرواية الثانية للكاتبة آيريس مردوخ Iris Murdoch و التي كانت بعنوان ( الهروبُ من السّاحر The Flight from the Enchanter ) و هناك قابلْتُ آيريس الّتي كانت لا تزالُ في أواسط الثلاثينات من عمرها و راقت لي على الفور : امرأة ذاتُ وجْهٍ دائريّ و على شيءٍ من الخجل المُحبّب و صعقتْني جاذبيّتها الجنسيّة الهائلة ، و أذكر أنّني أعلمْتُها في تلك الاحتفاليّة برغبتي في العيش لثلاثمائة سنة كما اقترح شو في ( العودة إلى ميتوشالح ) و ردّت هي من جانبها بسؤالي عن مدى رغبتي في الالتحاق بأكسفورد و الحصول على شهادة جامعيّة منها !! و راح ذاك السؤال يتردّدُ على لسانها كلّما التقيْتها في المناسبات اللاحقة . التقيْتُ أيضاً في الحفلة ذاتها الكاتب ( إلياس كانيتي Elias Canetti ) الّذي كان يقطنُ في شقّة عبر الشارع المحاذي لقاعة الاحتفال و رأيْتُ فيه رَجلاً ضخم الجثة بوجْهٍ مربّع و شارب كثيف الشعر و كان يتحدّث بلغةٍ إنكليزيّة مشوبة بلكنةٍ ألمانيّة مميّزة .
________
*المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *