*ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي
مضيْنا ، أنا وزوجتي جوي ، في قضاء أوقات العطل الأسبوعيّة معاً وكنّا نستعينُ أحياناً بخدمات التوصيل المجّانية لرؤية أماكن محدّدة : كامبردج ، ستراتفورد ( الّتي كنتُ أعرفها جيّداً منذ أيّام مراهقتي ) ، تشيتشيستر ، آرنديل ، بريكون ، و حصل في أحد الأيّام ، وبينما كنتُ منغمساً في كتابة الفصل الرابع من ” اللامنتمي ” ، أن قرّرنا أنا و جوي الانطلاق نحو كانتربري و مررْنا خلال الطريق بقريةٍ تدعى تيلبري Tilbury و قضيْنا فيها وقتاً ممتعاً في التنقيب بين أكوام الكتب في محلّ يبيعُ الكتب المستعملة.
وهناك عثرْتُ على كتابٍ أنثولوجيٍّ عن التصوّف الدينيّ بعنوان “سنةٌ من النعمة A Year of Grace” كان محرّره هو الناشر فيكتور غولانز بذاته فاشتريْتُهُ على الفور ، و بينما كنّا نتجوّلُ في كاتدرائيّة كانتربري العتيقة خطر ببالي أنّ غولانز ربّما سيجدُ اهتماماً بموضوعة كتابي “اللامنتمي” فقد كان واضحاً لي أنّ الرجل يتّفقُ مع الثيمة الأساسيّة لكتابي . كانت الخطوةُ التالية في مسعاي لنشر اللامنتمي تتطلّبُ طباعة ما كنتُ كتبته حتّى ذلك الحين بخطّ اليد و لحسن الحظّ تصادف أنّني كنتُ أعملُ آنذاك في عملٍ صباحيّ بالإضافة لعملي المسائيّ في المقهى : فقد جاء صديقي موريس ويللوس Maurice Willows إلى لندن ذات مرّة و وجد عملاً في متابعة المكالمات القادمة لمكتب مقاول بناء ولم يرغب في العمل فعرض عليّ قبوله فقبلْتُه على الفور بعد أن وجدْتُ العرض مناسباً و بخاصّة عندما علمْتُ بوجود آلةٍ كاتبة بجوار الهاتف لذا كان بإمكاني المضيُّ في طباعة اللامنتمي على الآلة الكاتبة ، ثمّ سرعان ما انفجرت النزاعاتُ بيني وبين مسؤولي في العمل الّذي كان لا يتعبُ من تذكيري على الدوام بأنّني أحصلُ على نقودٍ لقاء لا شيء !! كما تعمّد إخفاء الآلة الكاتبة إحدى المرّات في سرداب المبنى الّذي أعملُ فيه ، ولم أتمكّن ذات صباحٍ من ضبط أعصابي فقلتُ له ” اذهب إلى الجحيم ” و كانت النتيجة الحتميّة طردي من العمل ، ولكن لحسن الحظّ كنتُ آنذاك أكملْتُ طباعة الفصول الأربعة الأولى من كتاب اللامنتمي ، فمضيْتُ بلا تردّد في كتابة رسالةٍ طويلة إلى الناشر غولانز أرفقْتُها بملخّصٍ للكتاب مع بعض الصفحات الكاملة المنتخبة منه و جاءَني جوابه مستعجلاً أبدى فيه رغبته في إرسال النسخة الكاملة من الكتاب إليه و أضافَ أنّ ثمّة احتمالا قويا في أنّه سَينشره .
يمكنني القولُ اليوم أنّني عندما أتفحّصُ كتاب اللامنتمي برؤيةٍ استرجاعيّة فثمّة انتقادٌ جدّيّ واحد أستطيعُ تأكيده بشأن الكتاب : الإفراطُ في النزعة الرومانتيكيّة القائمة على مزاج رافض للعالم إضافة إلى النفور المشمئز من الحضارة وربّما ترسّخت هذه السمات لديّ آنذاك بفعل سنواتٍ مرهقة من مُكابدتي الطويلة ، ولكنّ الأمر برمّته يبدو لي اليوم مُغالِياً وراديكاليّاً إلى حدودٍ منفّرة !! . كنتُ في طفولتي متديّناً للغاية و اعتدْتُ أن أصلّي في سرّي وأنا أعبرُ الشارع أو أمشي لمسافاتٍ طويلة و بخاصّة في تلك الأوقات الّتي كانت فيها والدتي مريضةً أو مهمومة قلقة بسبب همٍّ ما ، ثمّ حلّت فترة العدميّة الّتي أعقبت طفولتي ووضعت حدّا لتديّن الطفولة الّذي حرصْتُ عليه و لكن عندما قرأتُ في فترةٍ لاحقة للشعراء المحبّبين إلى روحي : شيللي ، كيتس ، إيليوت ،،،، أدركْتُ أنّ عظماء الشعراء هم متديّنون في دواخلهم بصورة أساسيّة و يروْن أنّ ثمّة قوّة كونيّة سحريّة تقودُ الكون و أنّ هذه القوّة تعملُ لأجل الخير في كلّ الأحوال ، و هنا بدا لي أن النزعة الإنسانيّة Humanism – بتأكيدها على مقولة أنّ الإنسان وحيدٌ في هذا الكون – هي محضُ هراء سخيف و أردْتُ من اللامنتمي أن يكون حجّة لتعضيد الحسّ الدينيّ المبشّر بالخير الكونيّ في مُقابل النزعة الإنسانيّة الّتي تقودُ للتخاذل و السوداويّة . يبدو لي اليوم أنّ التمييز الّذي خلقْتهُ بين الدين والنزعة الإنسانيّة هو تمييزٌ خدّاعٌ : فأنا أتعاطفُ إلى أبعد الحدود مع إيليوت واتّفقُ معه في أنّ ” الحضارة لا يمكنُ أن تحيا من غير الدين ” و أعلمُ أيضاً أنّي أضيقُ ذرعاً بالنزعة الإنسانيّة المدرسيّة المُتعالية المُصابة بفقر الدم المعرفيّ و الّتي تحكي عنها كاثلين نوت Kathleen Nott في كتابها ( ثياب الإمبراطور The Emperor”s Clothes ) و الّذي تشنّ فيه هجوماً كاسحاً على إيليوت ، و غرين ، و المُدافعين عن القيم الدينيّة و لكنّ الحقيقة هي أنّ وجهة النظر الأساسيّة لكتاب اللامنتمي تنبعُ من نزعةٍ إنسانيّة محضة !! : فقد كنتُ على توافقٍ ذهنيّ تامّ مع الدين الحركيّ للقدّيسين ( إذا جازت لي استعارة مفردات الفيلسوف الفرنسيّ بيرغسون Bergson ) و هو ببساطةٍ الدين الّذي يبتغي الاتّحاد مع الله باعتباره القوّة السحريّة المحرّكة للكون من غير أيّة تفاصيل إضافيّة . و لكن من جانبٍ آخر لم أجد في نفسي يوماً ما تعاطُفاً مع الدين الستاتيكيّ الّذي تمثّله المؤسّسات الدينيّة ولم أكن بطبيعتي ومزاجي ميّالاً للانضمام إلى أيّة جماعةٍ دينيّة كما آذاني كثيراً الموقفُ التشاؤميّ للطبقة الدينيّة المثقّفة : إيليوت ، غرين ، مارسيل ، بيرنانوس ، كيركيغارد الخ.. وكنتُ في الوقت ذاته أستاء كثيراً من موقف الماديّة الضحلة الّتي كان ممثّلها الأكبر هو ( برتراند راسل ) و ( أي. جي. آير ) و لم اتردّد أبداً في تفضيل الموقف الدينيّ على الموقف الماديّ الهشّ الذي عبّرت عنه النزعة الراسليّة Russellism . كانت هفوتي الكبيرة آنذاك هي افتراضُ ضرورة أن يكون لي موقفٌ في الاختيار من بين هذين الإتّجاهيْن : فقد كان لي الكثيرُ من المُشتركات مع كيركيغارد كما كان لي العديدُ من المُشتركات مع راسل ، و مضيْتُ في سؤال نفسي آنذاك السؤال المهمّ التالي : هل سيكون من شأن توسيع رؤيتي الفلسفيّة بحيثُ تتضمّن الرؤى الدينيّة إثبات أنه مسعى أقلّ مشقّة من سعيي لأنسنة الدين ؟ و كان الجوابُ واضحاً تماماً : أن امضي في طريق تعميق نظرتي الفلسفيّة لتحتوي الرؤى الدينيّة ، و مرّ بخاطري على الفور موقفُ واحدٍ من أكثر الفلاسفة الذين احبّهم و أعجبُ بهم و هو وايتهيد Whitehead الّذي كان له ذات الموقف ، و رفضْتُ آنذاك رؤية كيركيغارد الّتي تقودُ إلى نهايةٍ تشاؤميّة سوداويّة قاتلة و وقفْتُ إلى جانب النزعة البرناردشويّة الإرتقائيّة المدهشة .
كان ثمّة مؤثّرٌ آخر عظيم الأهمّية في كتابة اللامنتمي : إنّه صديقي ستيوارت هولرويد الّذي كان أحد مُريدي ألفريد رينولدز : اليهوديّ الهنغاريّ الّذي أجبِرَ على مغادرة ألمانيا أيّام سطوة النازيّة فيها وهاجر إلى إنكلترا ، و أخبرَني ستيوارت القليل جدّاً عن ألفريد و وصفه بانّه طيرٌ صغيرٌ هادئٌ ، و لكن عندما قابلْتهُ وجدْتهُ شخصاً مفرط الذكاء و اقترحْتُ عليه أن أقرأ يوماً ما مقتطفاتٍ من الأدب المفضّل لي في واحدٍ من اللقاءات الّتي كان يديرُها ووافق الرجل على الفور ، ومضيْتُ فعلاً في اختيار تلك الأجزاء من الأدب الّتي تصفُ موقفي الفلسفيّ ورؤيتي الوجوديّة في كون الطبيعة الإنسانيّة تحملُ نزعة تطوّريّة ارتقائيّة أبعد بكثير من تلك المديات المعقْلنة المفترضة ، و أنّ هذه النزعة التطوّريّة ستأخذُ منحىً عنفيّاً حتماً ما لم يتمّ التعبيرُ عنها بصورة مناسبة ، و كانت المقاطع الّتي اخترْتُ قراءتها في اللقاء تتضمّنُ قراءاتٍ منتخبة من أشدّ النصوص هولاً لأعمال : تي. إي. لورنس ، دوستويفسكي ، نيتشه ، تولستوي ، فان كوخ ، بليك ، ،، و علمْتُ لاحقاً أنّ ستيوارت يجاهدُ في الكتابة لكسب قوته مكتفيا بكتابة مقالاتٍ قصيرة لمجلّة شعر مغمورة و كانت زوجته هي من تديمُ حياة عائلتها من خلال مرتّبها البسيط ككاتبة على الآلة الطابعة حتّى ذلك الحين ، ووجدْتُ ستيورات يختزِنُ معرفةً عظيمة ممّا ينبغي معرفته عن الشعر و لكنّ خزينه المعرفيّ في ميادين أخرى كان ضئيلاً إلى حدّ مخيف لذا عرضْتُ عليه قراءة أعمال دوستويفسكي ، وكتاب ويليام جيمس ” أنواع التجربة الدينيّة Varieties of Religious Experience ” ، و أدبيّات الوجوديّة ، و أعمال هسّه ، و ريلكه ،،، و صار ستيوارت متحمّساً للغاية تجاه أعمال ريلكه و بخاصّة عمله ( مراثي دوينو Duino Elegies ) و طلب إلى مجلّة الشعر الّتي اعتاد نشر أعماله فيها كتابة مقالةٍ يقارِنُ فيها تلك المرثيّات مع عمل إيليوت ( الرباعيّات الأربع Four Quartets ) ، و أمضيْتُ عصر أحد الأيّام مع ستيوارت و أنا أضعُ مخطّطاً للأفكار اللازمة لكتابة هذه المقالة و حصل ستوارت في نهاية جلستنا تلك على كمّية ضخمة من المواد حتّى أنّه أقنع المجلّة بتجزئة المقالة المتّفق عليها إلى ثلاث مقالات : واحدة عن ريلكه ، و ثانية عن إيليوت ، و الثالثة في المقارنة بين عملي الشاعريّن ، و عندما قراتُ المقالات المنشورة لاحقاً شعرْتُ بغيرة عظيمة لرؤية أفكاري مطبوعةً تحت اسم آخر غير إسمي ، و بعد وقتٍ قليل من نشر تلك المقالات أخبرَني ستيوارت أنّه ينوي توسيع فكرة المقالات إلى كتابٍ كامل يختصّ بموضوعة الشعر والدين وهذا ما تحقّق لاحقاً و نُشر كتاب ستيورات تحت عنوان ( الانبثاقُ من الفوضى Emergence from Chaos ) في بريطانيا من قبل الناشر غولانز كما نشرتْه دار نشر هيوتن ميفلين في أمريكا ، و كانت رغبتي في نشر كتاب اللامنتمي قبل أن ينشر كتاب ستيوارت واحدةً من الأسباب الّتي دفعتْني لكتابة الكتاب بسرعةٍ مذهلة و غير مسبوقةٍ لدي..
____
*المدى