منى أبوشرخ *
(ثقافات)
هذا ما كان يحدث غالبا قبل كثير من السنوات لا أذكر عددها:
أستيقظ باكرا، أرتدي بنطال الجينز الأزرق الباهت والبلوزة الحمراء التي اهدتني اياها أختي العام الماضي بعد أن ابتاعتها لخطيبها واكتشفت أنها ليست مقاسه، وبختها أمي بشدة ذلك اليوم، فالمرأة الذكية لا تجلب هدايا قماشية لزوج المستقبل قبل أن تلمس بيديها أكتافه وتتمكن جيدا من جميع تفاصيله. استمعتُ جيدا لحوارهما النسائي السطحي دون أن أتدخل بينهما، ثم أمسكت البلوزة وارتديتها فأدركت منذ الوهلة الأولى أنها لي لا محال، ومنذ ذلك اليوم أرتديها كل أول يوم خميس من كل شهر.
لماذا؟
لن أخبركم فهذا سري ، ولن أبوح به لأحد مهما حصل!
لا تحدقوا بي هكذا.. فمهما فعلتم لن أخبركم .. لدي الكثير من الاسرار الأخرى التي لا مانع لدي من كشفها أماكم.. ربما لا تكون أسراري الخاصة ولكنها أسرار على أي حال.. وأعلم أنكم تحبون الأسرار كما تحبون أولادكم.. وإلا فماذا ستخبرون أحفادكم عندما تكبرون وتنضب جميع قصصكم السخيفة عن التحرير والاستقلال وطرد المحتلين، عندها لن تتحدثوا بالتأكيد عن كتاب لأمين معلوف قرأتموه أثناء حرب أو قصف عشوائي للحي، ولن تخبروهم عن كاتب اغتالته مجموعة من الشبان الجاهلين بسبب كتاب، أؤكد لكم أنكم لن تجدوا سوى أسراري تدفؤوا بها برودة حياتكم العفنة وتغطوا بها عورة قصصكم المزيفة.
السر الأول:
غزة السوداء
قبل أن أصبح كاتبا كنت أعمل نادلا في مطعم أقيم أمام شاطىء غزة في الناحية الشمالية من الميناء، لم يكن الميناء حينها مكانا سياحيا يأتيه السياح من كل مكان في فلسطين والعالم مثل الآن، كانت الحروب المتتالية قد أكلت المدينة وأرهقتها حتى أصبحت مثل سمكة الرجل العجوز في رواية همنجواي ، مجرد هيكل عظمي ملقى على الشاطيء،. كان عمري حينها عشرون عاما، وكنت في أزهى أيام عمري دون أن أدري، كنت فخورا بغمازة في خدي الأيمن مثل طبيب يتفاخر بشهادة طب نالها من ألمانيا، لم أكن أصلعا، بل كان لي شعر كثيف ناعم يميل للون الأسود الغامق، وبشرة صافية، ولا تسألوني كيف أصبحت بشرتي باهتة وغامقة، واعتبروها واحدة ضمن التغيرات البيئية التي تصيب الكرة الأرضية، أضيفوا على ذلك كله أنني لم أكن أعرف معنا للطموح أبعد من نظرة امرأة تشتهيني. هذا ما كنته، ولن يهمني إن سقطتُ من أعينكم، فأعينكم هذه لم ترى يوما شيئا صائبا لتهمني في شيء.
ذات يوم، ليس الخميس الأول من الشهر، دخلت امرأة سوداء البشرة، واسعة العينين، ترتدي الحجاب بطريقة مزركشة لم أكن معتادا على رؤيتها في شوارع غزة، اه، نسيت أن أخبركم أن ذلك الزمن لم يكن زمنا جيدا لتكون المرأة امرأة حقا، كان عليها أن تقدم الكثير من الأعذار عن ارتكابها جرم الأنوثة هذا، وكانت الشوارع تمتلئ بالنساء المحجبات والمنتقبات، ربما لن تستطيعوا فهم كلامي جيدا، ولن أُتعب نفسي كثير في الشرح، اذهبوا لمن ظل حيا من أجدادكم المتحذلقين واسألوهم ، فأنا لدي ما هو أهم لأخبركم به: الحياة في غزة تلك الأيام يا أعزائي كانت تشبه رجلا أعمى وأعرج لا يسمع ولا يجيد لغة واحدة مفهومة، يلعق لعاب كلب اسمه العالم. الحياة في غزة كانت مثل رجل عجوز بين الحياة والموت مُلقى في مزبلة على ناصية الطريق، جميع المارين يسمعون أنينه لكن أحدا لا يلتفت عليه، لأن لوحة مكتوبة بلغة مفهومة جيدا، لا تقربوه !
كنت أرتدي قميصا أبيض لامعا، بذلتْ أمي مجهودا جبارا لتجعله بهذا البياض لأن قوت أسرة من 8 أشخاص كان متوقفا على بياض هذا القميص، كنت ارتكز على يدي الاثنتين في انتظار أحد يدخل المطعم لاستقباله، فبعد أن لاحظ مدير المطعم البدين وسامتي وضحكات الفتيات معي، كلفني استقبال الزبائن، النساء خاصة، أنا شخصيا لم أمانع أبدا، فقط عجبتني الفكرة كثيرا بما أنها تنسجم مع شخصيتي المحبة لتوزيع الابتسامات البلهاء والنفاق. كانت أشعة الشمس تلقي كومة من أشعتها فوق وجه المرأة السوداء التي دخلت توا، فجعلته ذهبي اللون مع نزعة من السحر التي لا نراها إلا في أفلام هيولوود الأمريكية، هل كنت حقا أراها ساحرة، أم هي البشرة السوداء الشفافة، هل يكون الاسود شفافا؟ لا أعلم، لكني وجدتها كذلك ذلك اليوم. لم أنتبه إلا بعد أن خرجتْ من بقعة الضوء إلى أنها ناهدة بشكل ملفت وربما أكثر مما توقعت من شكل وجهها الصغير الممتليء بنعومة، أعجبني صدرها المنتفخ مثل هيفاء وهبي، حلم الرجل العربي. هل أصابتكم القشعريرة الآن، لا تخافوا، لن يصيبكم ما أصابها، لن تُحرقوا في برميل من الزفتة السوداء، هل كانت تستحق ذلك؟ لا أنكر أبدا أنني شعرت باحترام عميق اتجاه هذه المرأة لأنها جعلت من لون ملابسها الداخلية خبرا مهما على صفحات الأخبار في بلد كان يموت فيه كل يوم أكث من 100 إنسان!
ما سحقني فعلا هو بنطالها الجينز الضيق جدا ولونه الأحمر ، لم أكن أتوقع أبدا مشهدا بهذه الروعة، امرأة سوداء جميلة وأيضا ترتدي بنطالا أحمر ضيقا! وأنا المكلف رسميا بالاعتناء بطلباتها، وعلى وشك أن أنظر لعينيها مباشرة، يا إلهي أنصرني على القوم الظالمين.. !
عندما اقتربتُ منها كانت تلقي بكل أفكارها في البحر، التفتتْ التفاتة ساحرة أو هكذا بدت لي، ولن تصدقوا ما حدث بعدها ابدا، لقد ابتسمت وأظهرت اسنانا بيضاء مثل لا شيء أستطيع وصفه، وغمزت بعينها اليمنى وأمسكت بيدي وقادتني للمخزن وعرتني تماما من جميع ملابسي !
هل صدقتكم؟؟
حمقى..
لا بالطبع لم تفعل ذلك
فلنجرب مرة أخرى:
عندما انتبهتْ لوجودي التفتتْ بسرعة ، فوجدتُ فوق خدها الأيسر أثار دمعة حزينة، مسحتَها بسرعة وأخبرتني أنها تريد أي شي تشربه لأن حبيبها قد تركها و يحبذا لو كان سُما يخلصها من عذابها الأبدي! أشفقت عليها حتى ذرفتُ دموعا أكثر من دموعها واحتضنتها بين ذراعي وقبلتُ جبينها ووعدتها أنني لن أتركها!
من الواضح أنكم لم تصدقوني أيضا..
الأن لن أخدعكم .. سأقول لكم الحقيقة، ولا تنسوا أبدا أنني أخبرتكم يوما في واحدة من قصصي السابقة التي لا أذكرها أن للحقيقة أحيانا وجه بشع، هل انا من قال ذلك أم أن أحدا غيري قد قاله وقمت بسرقته أو تأثرت به، لا أعلم، لكني أؤكد لكم عن تجربة شخصية أن الحقيقة أبشع من كل أفلام الرعب التي تشاهدونها، فهذه المرأة الجميلة الجالسة أمام النافذة قبل كثير من عشرات السنين لم تكن سوى فتاة لم تتجاوز الثامنة عشر من عمرها أتت لترى رجلا لم تقابله يوما لتقضي معه ليلة مقابل مبلغ من المال دون سبب، فهي لم يكن لها طفل مريض ولا أسره جائعة، ولا حتى والد مدمن. لم تكن سوى فتاة مراهقة ولدت لتكون بغيا!
صدمتكم؟
وربما الأذكياء القلائل منكم يتساءلون كيف عرفتَ ذلك!
لن أخبركم كيف عرفتُ، عليكم أن تثقوا بكلامي فقط دون أسئلة سخيفة!
وان لم تصدقوا هذه القصة الآن لا تكملوا القراءة واغربوا عن وجهي!
هيا… اغربوا جميعا فلا أحد تسبب في بلائي مثلكم أنتم!
السر الثاني:
قبلتي الأولى
لم تكن لي قبلة أولى أو ثانية أو ثالثة، فأنا بعد أن عشت في هذه الأرض كل هذه السنين، حتى أنني نسيت وجه أمي ، لا أذكر أنني قبلت امرأة حقا كما ينبغي، لذلك فأنسوا أمر هذا السر، أو اعتبروه سرا في ذاته، فهذا الكاتب العجوز الذي حاز شهرة بعد اندحار جميع أزهار عمره دون أن يعرف سبب انحسارها في سنوات العز، هذا الكاتب لم يقبل امرأة أو حتى رجلا في حيات المديدة!
هل يبدو سرا سخيفا لكم؟ حتى وان بدا لكم سرا سخيفا، فأنا حزين بالفعل لهذا الاكتشاف.
هل انسحب المزيد منكم الآن؟
أود بشدة لو أعرف كم عدد الباقين أمام الورق حتى اللحظة!
السر الثالث:
لا زلت حيا يا أبي
اعلم أن قلائل منكم قرأ تاريخ هذه المدينة، وقلة منكم أيضا من يطرح الأسئلة عن الماضي، فالجميع يهربون من الإجابات حتى أنكم توقفت عن السؤال، وحتى أولئك الذي تمكنوا من الإجابة فأنا متأكد أنكم لم تصدقوا قصصهم البطولية عن بقائهم أحياء، أما أولئك الذين صدقوا، عليهم أن يصمتوا الآن صمت غزة عند انقطاع الكهرباء، وما أدراكم عن صمت غزة في ظلمة الليل، فهي لم تكن سوى قبر جماعي لمجموعة من الأموات الذين يعتقدون أنهم لا زالوا أحياء. يستدلون على حياتهم بالزواج والإنجاب وقتل بعضهم البعض في انتظار حرب تأتي لتقتلهم جميعا، لا تصدقوا أجدادكم عندما يخبروكم عن مجتمع مثالي، فنحن لم نكن سوى مخيم اعتقال جماعي استبدلنا الزنازين الأسمنتية بقلوب صوان، لا تصدقوهم وصدقوني فأنا وأجدادكم لم نبق أحياء بعد كل ما مضى إلا لأننا الأسوأ من بين الجميع.
في واحدة من الحروب التي لم يكن يفصل بينها سوى أعوام قليلة، كنت قد جاوزت الخامسة عشر من عمري بقليل، وكان والدي لا زال يعمل نجارا في دكان بسيطة بجانب المنزل، كنت أقف أنا وأخي الأصغر مني بعامين أمام باب المنزل عندما بدأت غارات جوية عنيفة على الحي، هاج الناس في الشارع حتى أنني نسيت والدي في المحل المجاور وقد نزلت عليه قذيفة، التصقتُ بالحائط، غطيتُ وجهي بعيني، وكانت قدماي ترتجفان، لم أفتح عيناي إلا بعد أن سمعت أخي يصرخ. لا أعلم كيف أو متى نزلت القذيفة بجواره وعلق في صخرة حفرتْ عميقا في الأرض بجانبه فأخذتْ معها قدميه وظل نصفه الأعلى يصرخ بي، يصرخ بي، يصرخ بي حتى أنني أسمع صراخه كل ليلة، تجمدتُ في الحائط حتى أصبحتُ جزء منه، نزلت قذيفة أخرى بالقرب منه فنزعت رأسه الصارخ، وقذفت به تحت قدمي. صرختُ وركضتُ في الشارع تحت القذائف دون أن تصيبني واحدة منها. لماذا لم تصبني قذيفة وتنتهي الحياة دون أن أضطر لرؤية رأس أخي يتدحرج تحت قدمي؟ لم أخبر أمي كيف مات أخي، أخبرتها أنه مات سريعا، دون أن يشعر، أخبرتها أيضا أن القذيفة نزعت رأسه وهو يبتسم ويخبرني واحدة من نكته السخيفة. صدقتني. فأمي هي الوحيدة في هذا العلم التي تصدقني بسهولة دون أن أضيف عناصر تشويق أو حبكة درامية لقصصي.
السر الرابع :
أمي
لقد نسيت وجه أمي !
* قاصة من فلسطين