نوفاليس..زهرةالأبديّة الزّرقاء



*جيل براستنيتزار/ ترجمة: أحمد حميدة

التّرتيلة الأولى أيّ مخلوق، وأيّ كائن مرهف، لا يتمنّى قبل أيّ أعاجيب تعمر الفضاء، تلك السّعادة الغامرة التي يمنحها النّور بألوانه وأشعّته وتموّجاته، وبحضوره الوثير والمطلق ساعة السّحر؟ إنّه الرّوح الحميمة للحياة، والنّفس الهائل الذي لا يستكين للنّجوم، والذي يمضي سابحاً، راقصاً في لجّته الزّرقاء. إنّه نفس الحجارة الوامضة والأبديّة للسّكون، والعشبة الحالمة وهي تمتصّ العصارة في ذهول، والحيوان الوحشيّ الغضوب ذو الأشكال المتلوّنة، وأكثر من كلّ هؤلاء، هو ذاك الغريب الرّائع بنظرته الحادّة، وخطواته المجنّحة، وشفاهه الطريّة المطبقة.. المترعة بالموسيقا. إنّه كملكة الطّبيعة الأرضيّة وراء تحوّلات لا حدّ لها تسري في العناصر، تعقد وتفكّ تحالفات لا نهائيّة، وتكلّل كلّ مخلوق على الأرض بصورتها السّماويّة، وبحضورها وحده تتجلّى في هذا العالم عظمة الممالك القصيّة.

و التفتّ لأنظر من حولي اللّيل المقدّس، المبهم والمحتشد بالأسرار، فإذا بالعالم يبدو بعيداً، جاثما في وهدة قبر عميق، في مكان ما منعزل ومقفر، ومن شرايين القلب ينبعث الحنين جامحا. إنّي أريد أن أتساقط كقطر النّدى لأمتزج بالرّماد، بأقاصي الذّكرى، بأمنيات الشّباب، بأحلام الطّفولة، بالفرح العابر وبالآمال العقيمة للحياة المديدة، حياة تمضي في لباس رماديّ وكأنّها بعد غروب الشّمس ضباب مسائيّ. أمّا النّور فقد ضرب فسطاط الفرح في مكان قصيّ آخر، أفينبغي له أن لا يعود أبداً إلى أبنائه، وهم ينتظرونه بقلوب خاشعة وبمُهجٍ مفعمة بالبراءة.
أيّ إحساس هذا الذي تدفّق فجأة من داخلي ليمتصّ النّفس العذب للحنين؟ فهل تقاسمنا نفس المحبّة أيّها الليل المعتّم؟ ما الّذي تخفيه تحت معطفك وتنسرب منه تلك القوّة الخفيّة إلى روحي؟ من راحة يدك يقطر بلسم ثمين فائح برائحة الخشخاش، وإنّك لتطلق أجنحة القلب المعنّى فتجعله محلّقا، وفي الهواء طليقا. ويجتاحنا شعور غامض ومبهم بالقلق، وبخوف ممزوج بالبهجة يتبدّى لي وجه رصين ينحني أمامي بعذوبة وخشوع، وتحت خصلات شعر كثيفة ومتشابكة أبصر الوجه الحبيب لأمّي نابضا نضارة وبهاء. كم يبدو لي النّور الآن ضحلاً وطفوليّا، كم هو مبهج ومباركٌ وداعُ النّهار.
هكذا ولأنّ اللّيل يبعد عنك المخلصين من عبادك، زرعت في الفضاء السّحيق الكواكب المضيئة لتعلن قدرتك الكليّة، وعودتك في ساعات الجفاء. أكثر سماويّة من تلك النّجوم الزّاهرة هي العيون اللاّنهائيّة التي يفتحها اللّيل بداخلنا، إنّها تلج أعماق القلب العاشق فتملأ الآفاق بنشوة لا توصف، وتجعلها تعلو وتتسامى. فلتتبارك ملكة اللّيل الرّاعية للمحبّة السّماويّة والتي بها تتجلّى العوالم القدسيّة، إنّها ترسلك نحوي يا محبوبتي الودودة ويا شمس ليلي المؤنسة. أنا الآن في حالة اليقظة، لأنّك أضحيت وكأنّك أنّي، وجعلتني أدرك أنّ الليل هو منية المتمنّي. فلتحرقي جسدي بلهيب الرّوح كيما ارتفع في الفضاء وأهبط فيك في تمازج حميميّ يديم أبديّاً ليلة الزّفاف.
الترتيلة الثّانيةأينبغي للصّبح دوماً أن يعود؟ ألن تنتهي أبدا سطوة الطّين القاهرة؟ إنّها لعناد محموم ينتهب النّفحات السّماويّة للّيل ! ألن تتوهّج أبديّا شعلة المحبة الأثيريّة.. وزمنها.. زمن النّور؟، في اللاّمكان واللاّزمان هي مملكة اللّيل، وأبديّة هي ديمومة الرّقاد. أيّها النّوم المقدّس ! لا تبخل بفيض من الغبطة على المولّهين باللّيل، ولا تسلمهم لعناء اليومي القاسي على هذه الأرض. وحدهم الحمقى ينظرون إليك بجحود، ولا يظفرون من النّوم بغير الظلّ الذي تلقي به علينا مشفقا، في غسق اللّيل الحقيقيّ. إنّهم لا يشعرون بك في سائل الكروم الذّهبيّ، في زيت شجر اللّوز المنعش، وفي العصارة السّمراء للخشخاش. إنّهم لا يعرفون بأنك أنت من يرفرف حول جيد العذراء العاشقة، وتجعل من ثديها.. الفردوس، إنّهم لا يدركون بأنّك كسليل الأساطير العتيقة تأتينا مهرولا ومشرعا أبواب السّماء، وبراحتيك مفاتيح بيوت السّعداء، بصمت رسول مكلّل بأسرار زمن لا بداية له ولا انتهاء.
مريدون في ساييسلفهم الطّبيعة، يتوجّب علينا تركها تتشكّل بداخلنا وفق منطقها الخاصّ، وأن ندعها تنمو حدّ بلوغها كمالها المطلق. وينبغي أن لا يحدّد سعينا إلى تلك المعرفة غير الرّغبة الجامحة والتّوق السّماويّ إلى تلك الكائنات التي تشبهنا، وتوفير كلّ الشّروط الضّروريّة كيما تنفتح أسماعنا، فنصيخ السّمع إلى نداءها، لأنّ الطّبيعة في مطلق وجودها لا يمكن فهمها وتصوّرها إلاّ كأداة تعديل وواسطة ذكاء لكائنات عاقلة، فالإنسان حينما يفكّر، إنّما يعود إلى الوظيفة الأصليّة لكينونته، إلى التّفكير الخلاّق، إنّه يعود إلى تلك النّقطة حيث يعانق الإبداع المعرفة، ليتفاعلا تفاعلا رائعا وعميقا، حتّى ينبثق الإبداع من إحساس بمتعة جوهريّة، من فكرة باطنة، عميقة وذاتيّة. وإن استسلم بعد ذلك تماما للتأمّل في تلك الظّاهرة الأساسيّة وانغمر فيها بكلّيته، لَََتَمَدّدَ أمامه مشهد متعالٍ، في زمن ومكان آخر، مشهد الطبيعة في بكارة خلقها وبديع تجلّياتها، وكلّ نقطة تتوقّف وتتثبّت في سيولة اللاّنهائيّ، تصبح كشفا متجدّدا لسحر المحبّة، زفافا جديدا بين الأنا والأنت، إنّ الوصف الدّقيق المستبطن لتاريخ العالم ذاك، هو التّاريخ الأصلي والحقيقي للطّبيعة. وبالتّواصل مع الذّات وإمعان النّزوع إلى عالم الرّوح، وبالتّناغم مع الكون، ترتسم في الذّات مجموعة من الخواطر، تكون الصّورة الدّقيقة للكون والتّعبير الجليّ عنه.
و في حضور تلك الحالات اللّطيفة الهادئة، وذلك التأمّل الخلاّق، يبقى الفنّ ممارسة صعبة وشاقّة، المعرفة فيها تستلزم بحثا رصينا وثابتا وانضباطا صارما للنّفس، عندها لن تكون المكافأة مجرّد تصفيق وتهليل الآخرين الذين يهابون صعوبة العوائق، وإنّما هي سعادة أن نعرف ونبقى على قيد اليقظة، سعادة تلك الملامسة الحميمة للكون.
إنهض وتأمّل تجلّيات الجلال
إنهض واستجمع همّتك !
إنّ الحياة تمضي نحو السّعادة الأبديّة
والرّوح تتوهّج وتومض
بشوق منسيّ.. دفين.
النّجوم على وشك التحلّل
لتسيل خمرا منعشة.. ذهبيّة،
خمرة نورانيّة سوف نرتشفها
كيما نلتمع في أحضان القبّة اللاّزورديّ.
لقد نضا الحبّ عنه كلّ المكبّلات وكلّ القيود،
وانصهرت، متوحّدة، في أفق الوجود كلّ القلوب
وغدت الحياة بحرا مديدا لا ساحل له
يتموّج ويتلألأ بلا انتهاء.
كلّ شيء غدا ليلا فائحا بهيجا،
كلّ شيء أضحى قصيدة ترنّ أجراسها في السّماء.
ولم تعد الشّمس، المنهمِر نورها على الأحياء،
سوى تجلٍّ للجلال الربّانيّ السّاطع البهاء.
بقى نوفاليس صورة مقدّسة في الأدب الألماني وأيقونة لألاءة لجوهر البراءة والنّقاء، وتبقى زهرته الزّرقاء التي تاه في البحث عنها عبر العالم مثلا أوروبيّاً أعلى مشحوناً بيوتوبيا مدهشة وباهرة. فأين تكمن أسرار هذا الوميض المنبعث منه؟ من يكون هذا المتأمّل، هذا المستغرق في أحلامه السّاحرة، الملهم للحاجّين إلى الشّرق والمتعطّشين للمحبّة الخالدة؟ من تراه يكون هذا الذي أضحى كائنا خرافيّا في الشّعر الأوروبي؟ إنّه صفوة الشّعراء الذي يعرف ويسير منجذباً نحو الأنوار القدسيّة.
انطفأ في سنّ التّاسعة والعشرين فانبعثت منه هالة فاتنة جعلته يشبّه بموزار، دون اعتبار للفرح، إذ لم تنجب الرّومنطيقيّة إطلاقا كاتباً بمثل هذا الصّفاء، ولا أعمالاً أدبيّة بمثل تلك النّعومة، وبمثل ذلك الغموض أيضاً.
لا فصل في سيرته بين أعماله وغراميّاته والتي بقيت في كلتا الحالتين غير مكتملة. وما تبقّى منه، «مريدون في ساييس، رواية هنري دفتردنغان، اللذان لم يكتملا، تراتيل للّيل، ألحان روحيّة»، مذكّرات مختصرة وبعض الرّسائل. غير أنّ أعماله ومواجيده العشقيّة، كما حضوره وموته، كان لها إشعاع عميق وتأثير سحريّ في الرّومنطيقيّة التي أضحى خلاصة نداها، هذا الذي كان نفساً متوثّباً نحو الأقاصي ونداء متصاعداً نحو الأعالي.
نوفاليس.. خلاصة الشّعرإنّه يمارس حضوراً وثيراً في لطافة ظلال الأشجار التي ترتجف من أجلنا، وما ذاك النّسيم الذي يهزهزها سوى روح من أنفاسه البريئة والطّاهرة، فنوفاليس في حياته كما في كتاباته كان تواقاً إلى الأسمى، إلى الأرفع، وتوثّباً جامحاً، عفيفاً نحو اللاّنهاية. من بساطة أبياته الشّعريّة الموشّحة بأزاهير مزهوّة ينبعث انسجام واهن وتامّ، وعلى غرار أورفيو عبر الحياة بمنتهى السّرعة.
كان اسمه الحقيقي فريدريش فيليب فون هردنبرغ، ولد في 2 مايو 1772 في القصر العتيق لأسرته، قصر تلفّه الشّائعات منذ القرن الثالث عشر، تتخلّله برك سوداء وأشجار موهوبة للرّيح. طفل هزيل، أخ لتسعة إخوة وأخوات، بدا من فرط مرضه المزمن وكأنّه لم يولد حقيقة إلاّ في سنّ التّاسعة. وفي سنّ الحادية عشرة، كان قد خبر أسرار اللّغتين الإغريقيّة واللاّتينيّة وانغمس في قراءة القصص والقصائد، فعبر حياته حالماً.
بدأ دراسته في مدينة إيانا سنة 1770، ثمّ تابعها في ليبزغ سنة 1771، ولكنّه لم يشرع حقيقة في تحصيل المعارف إلاّ عندما دخل جامعة فيتنبرغ. ومن المهم تبقى قصتان غراميّتان: الأولى مع صوفي فون كوهن «روح حياتي ومفتاح ذاتي» التي التقى بها سنة 1774 وفارقته بوفاتها سنة 1797، لتبقى معشّشة في خياله، أمّا الثانية فكانت مع جولي فون شربنتيي التي بدأت سنة 1798.
ورافقه خلال عبوره القصير موت أصدقائه وموت إخوته، أمّا هو، فبقدر ما ازداد شفافة كان يقترب من حالة الإنهاك، ورغم لقاءه مع جوته وشليغل، وتنامي صيته، فإنّه لم يعرف السّكينة، وسيموت بطريقة غاية في الهدوء والوداعة، حتّى ظنّ أصدقاؤه أنّهم يودّعون قدّيساً. طلب بعض الكتب، ومن أخيه العزف على آلة البيانو، ثم نام بهدوء ولكن للأبد، وهو القائل: «أريد أن أموت مبتهجاً كشاعر في مقتبل العمر».
هكذا بدأت أسطورته المضيئة التي تعزّزت بكتابته عن أورفيو ودود ورقيق. وعاش هذا الشّاعر الأكثر صفاء وطفولة، في العالم الغربيّ كواحد من أجمل أطيافنا، وقد كانت إحدى كتاباته مثيرة بشكل خاصّ لأنّها ترسم مسيرة إنسان، إنّها مذكّراته الشّخصيّة التي كتبها من اليوم 31 عام 1797 إلى اليوم 110 بعد وفاة صوفي، وفي ذلك الصّعود نحو التّجاوز نظفر بعمل هو من أكثر الأعمال الأدبيّة بذخاً.
نوفاليس ابن اللّيلنوفاليس هو ابن اللّيل والحبّ المتسامي والحنين إلى زمن البدايات التي كان الإنسان فيها قريبا من الآلهة.
راقبت الوقت وعرفت الليل.
أشعلَ عقلي نارا في اللاشيء.
كانت شموس غفيرة تملأ السماء.
كل شيء كان سماء.
كل شيء كان ملكي، سوى الآلهة في سعادة لا تبلى.
انتشيت طرباً في انسجام العوالم المتألق.
من نجمة إلى نجمة، إلى اللانهاية.
بعض العيون الميّتة
تستطيع في النهاية قياس ضآلة البشر.
من مجرة إلى مجرة، ذهبت الروح وراء المدى نحو السماوات
حيث لا شيء ينمو ولا ينتهي.
غنى الأزرق في سماء الليل
والعندليب فر من عتبة الوقت.
نادت التلال النجوم مع موسيقى هائمة.
مر الآيل الأبيض في سر الغابة الرطب،
وفي الظل استيقظ عريكِ.
وثانية تصبح الأرض رغبتي.
لحظات ليليّةما سرّ انجذاب الشعر الحديث لنوفاليس؟. إنّه تلك البراءة المطلقة التي يتشوّف إليها زمننا بحنين يبلغ حدّ التّيه، وكذلك لنفس نوفاليس المتجاوز للواقع الحسّي ولرؤية مخترقة للمستقبل يحدوها تعطّش حارق للأبديّة التي كانت تشعّ من كيانه.
«عندما ستتلاشى الأرقام والصّور
مفتاح كلّ الكائنات
وعندما سيصبح المتحابّون.. المنشدون
أكثر معرفة من أوثق العلماء
وعندما يستعيد العالم حرّيته
ويعود ليمنح نفسه للجميع
وعندما.. في إشراقة صافية وهادئة
سيزفّ من جديد الظلّ للنّور
وعندما نتعلّم من القصص والأشعار
سرّ الكون الفسيح
عندها سيتوارى بكلمة ساحرة
سوء فهمنا الكامل للحقيقة»
نوفاليس هو الصّورة النّاعمة للبراءة العميقة، إنّه يبهرنا كتمثال واضح الاكتمال. ويمنحنا شعوراً عميقا بالأبديّة التي ننشد. «نحو الدّاخل تتّجه طريق السرّ»، إنّه يحدو بنا نحو سراديبنا الدّاخليّة.
* عن ترجمة فرنسيّة لغوستاف رو/ الاتحاد 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *