خالد محمد عبده*
(ثقافات)
صدر الكتاب في سلسلة ميراث مكتوب التي يصدرها مرکز پژوهشی میراث مکتوب بتهران عام 2011م، ويحمل الكتاب عنوان: مناظره بحر العلوم سيد محمد مهدي بروجردي طباطبايي با يهوديان ذوالكفل (1212هـ.ق) تقديم وتصحیح زابینه شمیتکه ورضا پورجوادی وترجمة أحمد رضا رحیمي. ويقع الكتاب في 97 صفحة من القطع الكبير.
محققة الكتاب هي الباحثة الألمانية زابینه شمیتکه Sabine Schmidtke أستاذة الدراسات الإسلاميّة في الجامعة الحرّة في (برلين)، منذ عام 2000م وإلى اليوم. وهي أستاذة الدراسات التاريخيّة في معهد الدراسات العبريّة المتقدّمة في الجامعة العبرية في أورشليم، منذ عام 2002م وإلى اليوم. وهي واحدةٌ من المحرِّرين والمدوِّنين للمقالات الكلاميّة والفلسفيّة، في دائرة المعارف الإسلاميّة، بنسختها الثالثة (طبعة ليدن)، ومعاونة مدير تاريخ الفلسفة (الفلسفة الإسلاميّة). وفي مارس من عام 2006م تمَّت دعوتها، بوصفها أستاذة زائرة في المدرسة العلميّة للأبحاث العاليةفي باريس، للعمل على مشروع (التراث الإسلاميّ الجدليّ في مواجهة اليهوديّة) .
من تحقيقاتها ودراساتها في هذا الشأن كتابها: A Jewish Phiosopher of Baghdad. ‘Izz al ـ Dawla Ibn Kammuna and His Writings. Leiden: Brill, 2006, Xll ـ 247pp. Vol. 65 of Islamic Philosophy, theology and science. (فيلسوف يهوديّ من بغداد، عزّ الدولة ابن كمّونة وأعماله) بالتعاون مع رضا پور جوادي. عمدت شميتكه في هذا الكتاب إلى عرض تقرير تفصيليّ عن سيرة ابن كمّونة، وأعماله وأفكاره الفلسفيّة، وتأثيرها وتأثُّرها بين المسلمين واليهود.
A common rationality: Mutazilism in Islam and Judaism, Vol. 15 of Istanbuler Texte und Studien, Ergon Verlag in Kommission, 2007, 250p. (Series on Islamic Philosophy and Theology. Texts and Studies; 4).
وهو تحقيق حول المشتركات العقليّة بين الاعتزال في الدين الإسلاميّ والديانة اليهوديّة. كتبته شميتكه بالتعاون مع كاميلا أدانج وديفد إسكلار.
Badhl al ـ majhud fi ifham al ـ Yahud: Samaw’al al ـ Maghribi’s (d. 570/1175): the early recension, Wiesbaden: Harrassowitz, 2006, 71p; (facsims). (Abhandlungen fur die Kunde des Morgenlandes; LVII, 2).
وهو كتاب (بذل المجهود في إفحام اليهود) ، تأليف: صموئيل بن يحيى المغربيّ(570هـ/1175م). نشرته السيدة سابينه شميتكه بالتعاون مع رضا پور جوادي وإبراهيم مرازكا، على شكل استنساخه صورة مطابقة للأصل.
ويأتي تحقيق شميتكه لمناظرة السيد مهدي بحر العلوم مع يهودي في سياق اهتمامها بالنصوص الشيعية، والنصوص الجدلية في آن واحد، لذلك رأيتُ أن أعرض لهذه المناظرة حتى يتعرّف عليها جمهور العربية المعني بمثل هذه النصوص، وإن كانت معرفته به ستصبح تالية للمعرفة الغربية بتراث الإسلام كعادة اليوم، وهو ما يؤكد كلمة حسن قبيسي: “قرأونا قبل أن نقرأنا”!
مناظرة السيّد محمّد مهدي بن السيّد مرتضى بن محمّد بحر العلوم الطباطبائي مع يهودي في ذي الكفل ، من إملاء تلميذه السيد محمّد جواد العاملي، صاحب مفتاح الكرامة كما يظهر من آخر كتاب متاجره، وهو موجود عند حفيده السيد جعفر بن باقر بن السيد علي بحر العلوم وصاحب البرهان، ونسخة منه بخط المولى إبراهيم بن سعيد المخصص كتبها في كربلاء ٢٦ ج ٢ / ١٢٩٨ هـ ، عند السيد ضياء الدين العلامة الأصفهاني .
تبدأ المناظرة بذكر زمانها ومكانها على النحو التالي: “ذلك حين أنه سافر من المشهد الغروي قاصدًا إلى زيارة سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين عليه وعلى أيامه وأبنائه سلام الله، في شهر ذي الحجة الحرام من السنة الحادية عشرة بعد الألف و المائتين من الهجرة 1211.
وكان معه-يومئذ-جماعة غفيرة من تلامذته من الطّلبة المحصلين، فعبر بهم الطريق على محل ذي الكفل عليه السلام -وكان فيه يومئذ جماعة من اليهود زهاء ثلاثة آلاف نفس-فبلغهم مروره-رحمه اللّه تعالى-عليهم، وقد سمعوا ما سمعوا من شائع فضله، و بلغهم ما بلغهم من ساطع شرفه ونبله، وفيهم من يدّعي العرفان، ويظن أنه على بينة وصحّة ما هو عليه وبرهان.
فلحقه جماعة من عرفائهم للسير مجدين، ولأثره للمناظرة تابعين، حتى وصلوا الى «الرباط» الذي أمر رحمه اللّه تعالى ببنائه للزوّار والمترددين. فوردوا ثمة ساحة جلاله، وجلسوا متأدبين بين يديه وعن يمينه وعن شماله” .
ويصف راوي المناظرة اليهود بالخفافيش في الشمس إذ لا قرار لهم إلا في ظلمة الدمس، ورغم كون اليهود على هذه الحالة إلاّ أن الراوي يظهر سماحة السيد في الترحيب بهم والحديث معهم بلين القول (عسى أن يتذكر أحد منهم أو يخشى) .
ويُعيّن اثنان من الثلاثمائة يهودي، داود أحدهما والآخر: عزرا. يبدأ داود بالكلام مؤكدًا على أواصر الصلة بين اليهود والمسلمين وأنهم من أهل الوحدة والتوحيد، على عكس باقي الفرق، ويجمع مع المجوس والمشركين وعبدة الأوثان النصارى، وبرأيه (لم يبق على التوحيد سوى هاتين الطائفتين) المسلمين واليهود .
هنا يظهر السيد بحر العلوم، مجادلاً داود، مستحضرًا الرواية القرآنية عن اليهود عبدة العجل ، والرواية التوراتية عن عبادة الأصنام زمن يروعام بن نواط ويستطرد ذاكرًا رواية من العهد القديم عن سليمان وأحد غلمانه، حتى يصل إلى يروعام بن نواط الذي نُصّب عليهم ملكًا، وخاف على ملكه (فصنع لهم صنمين من ذهب، ووضعهما في (دان) و(بيت إيل)، وأمر الناس بعبادتهما والحج إليهما، فأطاعوه، وصاروا بذلك مشركين شركا آخر بعد عبادة العجل).
ومن خلال الرواية القرآنية المختصرة والرواية التوارتية يحاجج السيد بحر العلوم اليهودي قائلا: فكيف يا أخا اليهود تقول: إن اليهود ما اشركوا باللّه تعالى وما اتخذوا إلهًا غير اللّه تعالى، وإنهم كانوا موحدين، وعن غير اللّه مُعْرضين ؟!
وهنا يُقرّ اليهود –حسب راوي المناظرة- بشِركهم التاريخي، ويبدون دهشتهم وعجبهم من اطلاع بحر العلوم (على ما لم يطلع عليه أحدٌ من أمرهم).
ويكمل بحر العلوم سائلاً إياهم عن همّ سليمان عليه السلام بقتل يروعام قبل أن يكون جانيًا، وهذا غير جائز في شريعة موسى، وإن قلتم أنه كان جائزًا له بعد موسى فبذلك تقرّون بالنّسخ، وأنتم لا تقرّون به. ويظهر اليهود هنا بشكل أكثر سلبية، فلا يقول داود المتحدّث عنهم سوى: (كلامكم يا سيدنا على العين وفوق الرأس) .
ثم يسأل بحر العلوم ويجيب دون حضور لليهود إيجابي في المناظرة، عن الاختلاف بين فرق اليهود، ويذكر أن الاختلاف واقع في الكتب، ويؤكد اليهود صدقية كلامه، بأن كتابهم غير كتاب السامرة، لكن السيد بحر العلوم لا يذكر الإحدى وسبعين فرقة الأخرى التي خرجت من صُلب اليهود. ويكتفي بتوجيه سؤاله لهم مفحمًا (فكيف تنكرون الاختلاف، وتدّعون اتفاقكم على شيء واحد) .
ثم ينتقل السيد إلى نقد متن التوراة متخذًا من قصة العجل الذي بدأ مناظرته بها مثالاً على احتواء التوراة التي بين أيديهم على (أشياء منكرة ظاهرة القبح والشناعة) معتبرًا أن مثل هذه الأفعال والحكايات (دليلٌ قاطع وبرهانٌ ساطعٌ على أن التوراة التي عندكم محرفة، وأن فيها زيادة على التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام، لأن مثل هذا العمل لا يصدر من جاهل غبي، فكيف يصدر عن مثل هارون النبي عليه السلام) .
وللمرة الأولى يخالف اليهود السيد بحر العلوم، ولا يجيب داود وحده على سؤال السيد، بل كل من معه يقول: وأيُّ مانع من ذلك وقد أعان على ذلك أيضًا جبرئيل، وقصته مذكورة في التوراة كقصة هارون؟ ويجيب السيد مستندًا إلى التوراة منزّهًا جبريل والأنبياء.
ومن باب تنزيه الأنبياء عن (الشناعة والفظاعة) التي يُذكرون بها في التوراة، يتابع منتقدًا شرب النبي لوط للخمر، وما فعلته ابنتاه معه، ويعتبر ورود مثل هذه الشنائع دليلاً واضحًا على التحريف، مضيفًا: ولو أردنا تفصيل ما وقع في هذه التوراة من التناقض والاختلاف وما لا يليق بالبارئ عز وجلّ من الجسم، والصورة، والندم، والأسف والعجز والتعب، لطال الكلام ولم يسعه المقام.
ثم يتخذ السيد من موضوع الصلاة غرضًا من أغراض الجدل مع اليهود، فيسألهم عن آدائهم للصلاة، وتبدو معلومات السيد عن الصلاة دقيقة وتنبئ عن مطالعة جيّدة لأسفار العهد القديم والمشنا، إذ فرّق في حديثه بين الصلاة التي تحتوى على الركوع والسجود والقيام، التي تُسمى عند اليهود (تفلوت)، والدعاء الذي هو ابتهال إلى الله بالسّؤال والرغبة فيما عنده من خير ويسمى عندهم (تحنونيم) وقد ذكر السيّد أوقات الصلاة بأسمائها العبرانية .
بعدها يردّ أحد اليهود على السيّد، ويعقّب السيّد بمجموعة من الأسئلة الاستنكارية، فيتوجّه السائل للمرة الأولى بسؤال للسيّد يتعلّق بالإسلام: (ليس في القرآن تفصيلُ الصّلاة التى تصلّونها أنتم يا معاشر المسلمين، فكيف عرفتم ذلك مع خلوه منه)؟ فيجيب السيّد: (إن الصلاة مذكورة في عدة مواضع من القرآن، وقد عرفنا أعدادها، وقبلتها، وكثيرًا من أحكامها من القرآن، وعلمنا سائر أحكامها وشرائطها من البيّنات النبوية، والأخبار المتواترة. فلسنا-نحن وأنتم- في هذا الأمر سواء إن كنتم تفقهون). ثم يتحدث عن شرائع التوراة في أمور الطهارة وما يخص الرجل والمرأة ويطلب منهم العودة إلى التوراة، فيكرر اليهود جملة سابقة في بداية المناظرة تعقيبًا على كلامه: (نعم كلُّ ذلك حقٌّ، وكلامكم على العين وفوق الرأس) .
ويأتي السؤال الثاني من اليهود حاضرًا فيه القرآن: (كيف لا تحكمون -يا معاشر المسلمين- بحكم التوراة؟ وفي القرآن: «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْكٰافِرُونَ »؟ ويجيب السيّد: إنه لما ثبت عندنا-نبوة نبينا صلى الله عليه وآله، ونسخه للشرائع السابقة كان الواجب علينا اتباع هذه الشريعة الناسخة دون الشرائع المنسوخة، فهذا مثل ما وجب عليكم من اتباع شريعة موسى عليه السلام والعمل بما في التوراة، دون ما تقدمها من الأديان والشرائع والكتب وقد بقي جملة من أحكام التوراة لم تنسخ، كأحكام الجراح والقصاص وغيرها فنحن نحكم بها لوجودها في القرآن، لا لوجودها في التوراة) .
ويسأل اليهودي: ما معنى قوله: «مٰا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهٰا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهٰا أَوْ مِثْلِهٰا» و أي فرق بين النسخ والإنساء، وما الفائدة في نسخ الشيء والإتيان بمثله؟
فيجيب السيد: الفرق بين النسخ والإنساء: أن النسخ رفع الحكم، وإن بقي لفظه، و الإنساء: رفعه برفع لفظه الدال عليه وانساؤه: محوه من الخاطر بالكلية، والمراد بالمثل: هو الحكم المماثل للأول بحسب المصلحة، بحيث يساوي مصلحته في زمانه مصلحة الأول في زمانه، لا أن تتساوى المصلحتان في زمن واحد، حتى يلزم خلوّ النسخ عن الفائدة. وردُّ فعل اليهود هذه المرة يظهر على صورة الضحك والتعجب (من جودة جوابه وحسن محاوراته في خطابه) .
ثم تلا بحر العلوم عليهم نصيحة مطولة، لإتمام الحجة، وأوصاهم بوصية تنفعهم يوم الميعاد، وأمرهم بإصلاح عقائدهم وتصحيحها، فأمّنوا على كلامه كعادتهم في المناظرة (كلامكم على أعيننا وفوق رؤوسنا، ونحن طالبون للحقِّ راغبون في الصواب والصدقِ) .
وهنا يظهر عزرا وهو الشخصية الثانية من اليهود الذي ذُكر اسمه مع داود في بدء المناظرة، ويخبرُ بحر العلوم أنه سيوجّه إليه نصيحة ومقالاً، ويسأله السيد عن المقال، فيقول عزرا: (إن في كتابنا-وهو التوراة-مجيء نبي بعد موسى، إلا أنه من بني إسحاق، لا من بني إسماعيل).
وهنا يجيب السيّد قائلاً: هذه البشارة قد جاءت بها التوراة في الفصل الثاني عشر من السفر الخامس، وصورتها: إنه تعالى قال لموسى: “إني اقيم لهم-أي لبنى إسرائيل-نبيًّا من بني إخوانهم مثلك، فليؤمنوا به و ليسمعوا له” وإخوان بني إسرائيل هم بنو إسماعيل عليه السّلام، فالنبي الموعود به هو من ولد إسماعيل وهذه حجة لنا، لا علينا. فخجل عزرا! و تلوّن ألوانًا، و عضّ على أنامله، وما تكلّم بشيء بعد ذلك .
ولعلّ في مقولة السيّد (قد علمتم اطلاعي على كتبكم ومذاهبكم وعلمي بطريقة سلفكم وخلفكم، وإنّى أريد قطع معاذيركم بإزالة شبهكم فإن كان فيكم من هو أعلم منكم، فارجعوا إليه، واحصوا ما عنده، وآتوني به ولكم المهلة في ذلك إلى سنة كاملة، فارجعوا إلى الحق، ولا تتمادوا في الغيّ). ما يؤكد لنا أن من يجادلهم السيّد وينصحهم هم من غير المطّلعين على الكتابات الجدلية السابقة، لأن هذه المسائل والأغراض الجدلية كُتب فيها الكثير، وتكررت السجالات بين المسلمين واليهود والمسيحين ويكفي التذكير هنا بكتاب السموأل المغربي ممثلاً للجانب الإسلامي وإن كان يهوديًا سابقًا، وابن كمونه اليهودي في كتابه سالف الذكر.
ويؤيد ذلك ما يرويه السيد محمود الطباطبائي في كتابه «المواهب السنية» عن هذه المناظرة: ” قد تكلم جمع كثير من اليهود في «ذي الكفل» حتى استقل منهم بالكلام من فضلائهم اثنان يقال لهما: عزير وداود.فألزمهم بما نقله لهم من أسفار التوراة وأثبت وقوع التحريف فيها إلى أن انقطعوا عن المقال، فبالغ لهم في النصح، حتى اعترفوا بالعجز و طلبوا الإمهال… ” .
وتظل الأسئلة والجوابات بين اليهود وممثليهم والسيد بحر العلوم إلى أن يختم موجّهًا كلامه إلى كبيرهم قائلا: إني أسألك عن شيء فاصدقني ولا تقل إلا حقًّا. هل سعيت في طلب الدين، وتحصيل العلم واليقين من أول تكليفك إلى هذا الحين؟ فقال: الانصاف، إني-إلى الآن- ما كنت بهذا الوادي ولا خطر ذلك في ضميري وفؤادي، غير أنّي اخترت دين موسى عليه السّلام، لأنه كان نبيّنا ولم يظهر لنا دليلٌ على نسخ نبوته، ولم نفحص عن دين محمد صلّى الله عليه وآله حقّ الفحص ولم نبحث عما جاء به حقّ البحث، ونحن نتأمل في ذلك، وتأتيك أخبارنا فيما يحصل لدينا مما هنالك.
وعلى ذلك انطوى المجلس. وانقطع الكلام، والحمد للّه أهل الفضل والإنعام، والصلاة والسلام على محمد سيّد الأنام، وعلى أهل بيته الأئمة البررة الكرام.
* باحث من مصر