«داعش» يختطف إرثا يدعو للزهو والفخار


*كارل موث/ ترجمة: قاسم مكي

يشير حرف الشين في اسم داعش إلى سوريا. ولكنها ليست سوريا الدولة المتمتعة بالسيادة التي نعرفها اليوم. إنها سوريا القديمة أو بلاد الشام والتي كان معظم لبنان الحالي يشكل جزءاً منها (كل لبنان في الحقيقة إلى جانب فلسطين والأردن وأجزاء أخرى محيطة – المترجم.) لقد كانت هذه «السوريا» أو الشام واحدة من أكثر المناطق المتقدمة علميا في العالم في ذلك الوقت. ويحظى إرثها بإعجاب العديدين بمن فيهم كاتب هذا المقال. لقد قرأت الكثير عن الحروب الصليبية من منظور مسيحي وغير مسيحي خلال الأعوام العشرة الأخيرة. إحدى الحكايات التي علقت بذهني واحدة راويها نبيل شاب من أصول ساكسونية. وهي تحكي عن سيف أوروبي تفتت إلى أجزاء صغيرة حين اصطدم بنصل دمشقي صارم مما أدخل الرعب في قلب النبيل ودفعه إلى الانسحاب من المعركة. لقد اعتقد خطأ أن المعدن الذي واجهته جماعته من الخيالة أثناء القتال مادة لا مثيل لها توجد في ديار العرب.

ولكن ذلك المعدن كان في الحقيقة ثمرة تقنية الطرق والطَّي التي أوجدت ما نسميه الآن الأسلاك النانوية. وهي تقنية تمنح الأنصال صلابة استثنائية ولكن أيضا خصائص المرونة واللدانة الفائقة عند تعرضها للإجهاد. إن جماعة داعش ليست معنية على نحو خاص بتطوير التقنيات. فهي أقرب إلى البرابرة الذين نهبوا بغداد القديمة منها إلى التجار الذين بنوا سوق البازار الشهير في نفس المدينة. فهذه الجماعة تتشكل أساسا من جنود فاشلين وفُتوَّات أميين أو متبطلين وأعداء «مُتًصَحِّرٍي الخيال» لإبداعات أو «بدع» التقنية. ويعاني غِمارُهم أشد المعاناة في شرح «منطق» التقنية، حتى تلك التي تنتمي إلى القرن الثاني عشر (الذي شهد فناء البازار الشهير.) ولكن ذلك ما يجعل تبنِّي مفهوم سوريا القديمة والمتقدمة حضاريا (الشام) بمثل هذا القدر الكبير من الأهمية والسطوة. إنه النقيض لداعش. ولكنَّه مُكَوِّن مطلوب من مكونات أساطير داعش. والمشكلة هي أن الإنجازات العلمية الهائلة التي شهدتها سوريا خلال تلك الفترة تحققت على ذات النحو الذي تتحقق به منجزات العلوم اليوم. أي أنها تحققت بالرغم من التطرف وليس بسببه. إن محاولة داعش استعادة العصر الإسلامي الذهبي ( تقريبا من عام 700 ميلادي وحتى تقدم المغول عبر نهر دجلة) تفشل هنا والآن. لماذا؟ لأن سياستها الحالية تُضادَّ الأشياء التي قد تجعل من الممكن صنع عصر إسلامي ذهبي ثاني. ومن أجل أن تكون هنالك دولة إسلامية ناجحة على نسق الدولة الأولى يلزم توافر شروط عديدة لا يمكن أن توجد تحت ظل خلافة داعش. فالتقدم التقني الضخم وقتها في مجال الرياضيات التطبيقية وصناعة التعدين والسيراميك والمعمار والهندسة المدنية إلخ… لم يكن مُموَّلا بتمامه من جهات خاصة. لقد استثمرت السلطات الرسمية أو الحكومات بكثافة في المخترعين الأفراد والتعاونيات الحرفية. كما نفذت استثمارات ضخمة أيضا في المعدات الرأسمالية (بما في ذلك المسبك الأصلي في دمشق) وكذلك تأمين وتوزيع الملكية الفكرية (بما في ذلك إنشاء أول مكتبة هندسة فنية في العالم في طرابلس والتي ركزت على الهندسة المدنية والمعايير المعمارية.) وربما أن ما هو أهم، وكذلك ما لا يمكننا تصوُّر حدوثه في ظل داعش، ذلك الاستثمار المتواصل (الذي كانت قد شهدته الشام وسواها من ديار الإسلام) في التعددية الثقافية واللغوية وترجمة المفاهيم الأجنبية من أوروبا وآسيا. وشمل ذلك الترجمة الحرفية لكميات ضخمة من المعلومات إلى لغة عربية فصحى جديدة ( يجب عدم الخلط بينها وبين الفصحى المعاصرة.) وكان ذلك النظام المعرفي «مصدرا مفتوحا» على نحو مماثل لموسوعة ويكيبيديا الحالية على الإنترنت حيث كان يكرس علماءٌ أعمارهم بكاملها للجهود المعرفية. وقد ترجمت أعمال الفلسفة الأرسطية في معظمها إلى اللغة العربية. كما كان يتم الترحيب بالفلاسفة الصينيين لإلقاء أحاديث ترجمت ووزعت باللغة العربية. ووجهت الدعوات إلى فلاسفة يهود مثل موسى بن ميمون لزيارة المشرق العربي وترجمت مجادلاتهم الفلسفية ونوقشت في أماكن مثل بغداد والقاهرة ودمشق. وبعكس نظام التعريفات الجمركية اللصوصي الذي تفرضه داعش على النفط وأصناف البضائع الأخرى، فقد اعتمد العصر الإسلامي الذهبي (في اقتصاده) على المناطق التجارية الحرة التي لا يزال يوجد العديد منها حتى الآن (فمنطقة خور دبي الحالية يعتبرها العديدون من مؤرخي الاقتصاد أقدم منطقة تشهد ممارسة لم تنقطع للتجارة الحرة في العالم.) وعن طريق السماح بالتجارة المعفية من الضرائب (وتشمل تجارة أصناف تعتبر بخلاف ذلك محظورة بموجب القانون المحلي) انتقلت الثقافات الأجنبية وانجذب التجار الأغراب إلى أماكن ما كان لهم بغير ذلك أن يتَّجِروا معها. وأدى هذا التطور إلى تبادل الأفكار وتدفق أصحاب المواهب بمستوى لم يكن يخطر على البال قبل قرن من ذلك التاريخ.
كما توافرت بسبب ذلك إمكانية تأسيس أنشطة تجارية أجنبية في مناطق التجارة الحرة وأيضا مشافي (استوردت الفتوحات الصينية والهندية في مجال الطب) ومؤسسات أبحاث بما في ذلك جامعة القرويين الشهيرة والتي كانت أول جامعة في العالم تمنح درجة علمية وأول مؤسسة جامعية رسمية تؤسسها رابطة عالمية من ذوي الفضل والإحسان المهتمين بالفلسفة والمنطق والدين وإتباع المنهج العلمي (تأسست هذه الجامعة في فاس بالمغرب عام 859 م وتخرج منها رموز الفلسفة والدين والأدب العربي، إضافة لشخصيات أوروبية بارزة بمن فيهم سيلفستر الثاني، الذي شغل منصب البابا عام 999 كما حاضر فيها موسى بن ميمون الطبيب والفيلسوف اليهودي الشهير- المترجم.) إن الشام (سوريا القديمة) التي يشكل حرف شينها آخر حرف من حروف كلمة داعش (الاسم المختصر لجماعة الدولة الإسلامية في العراق والشام) هي حالة (حضارية) تستحق إحياءها من جديد. ويجب علينا جميعا أن نطمح في رؤية الشام وهي تنبعث مجددا قبل أن تنقضي أعمارنا. ولكنها حالة تشكل النقيض تماما للمجتمع الذي تعِدُنَا به داعش.
__________
عن جلوبال بوليسي/ جريدة عُمان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *