وعي المجتمع ما زال مسكونا بالهاجس الديني


*مظاهر اللاجامي
لعلّ من المبكّر جدّا طرح هذا النوع من الأسئلة الإشكاليّة، فضلا عن الإجابة عنه، فالأحداث التاريخية الكبرى التي تشكّل منعطفا حاسما لمجتمع من المجتمعات لا يمكن التعبير عنها روائيا أو شعريّا أو حتى على المستوى المعرفيّ، ذلك أن وهج اللحظة ومتابعة الأحداث المتلاحقة يصنع حاجزا وجوديّا وعقليّا أمام تمثّل الحدث كما ينبغي، وكما يدلّ عليه في الفترة التاريخية، وما مدى تأثيره في العقل الجمعي وتداعياته على المستوى النفسي والاجتماعي والسلوكي، وهو الحقل الذي يشتغل فيه السّرد والشعر وشتّى أجناس الأدب.

أما هل ولّدت الانتفاضات أدبا نابعا من روح المرحلة، فلا ينبغي أن أكون متفائلا، ذلك أن تلك الانتفاضات لم تتزامن مع رؤية فلسفية وثقافية يمكن لها أن تشكّل قطيعة معرفيّة مع تاريخ الاستبداد السياسي والدينيّ في الإطار العربي، بل إن ما أنتجته لا يعدو كونه انفجارا هائلا للهويات الفرعيّة في إطار الوطن الذي غاب غيابا كليّا، مما يجعل الأدب لا يطرح رؤية جماليّة مختلفة، ينبغي أن تكون أول اشتراطاتها تحطيما للمألوف الجمالي السابق.

مثل هذه المراجعات موجودة بالفعل، ومنذ عصر النهضة العربية مع دخول نابليون بونابارت لمصر، وما قامت به الإرساليات التبشيرية في العالم العربي أسهم في تخليق أسئلة لمراجعة التراث العربي، والذي تم إيقافه في فترة النضال وحركات التحرر التي أعادت طرح التراث على نحو طوباويّ جوهراني، لكن تلك المرحلة أعقبت بمراجعات معرفيّة وجماليّة عميقة اتخذت من مدارس النقد الحديث وما يطرح في مجال الدراسات الإنسانية والدراسات النقدية التاريخية وفلسفة الفن أساسا لاشتغالها على تراثنا.

لكن كلّ ذلك لم يتأسس واقعيّا، ذلك أن الأطر الاجتماعية التي يمكن لها أن تحمل مشروع المراجعة لم تتوفر في مجتمعاتنا العربيّة -مع اختلاف نسبة التوافر بين مجتمع وآخر- وهو ما يسميه جورج طرابيشي بالحامل الاجتماعي لمشروع التحديث، والذي اتضح من خلال الأحداث الأخيرة؛ الهوة الشاسعة وحجم الافتراق بين الدراسات وما يطرح معرفيّا وجماليّا وبين وعي المجتمع الذي ما زال في غالبه مسكونا في العمق بالهاجس الديني وإن افترق عنه على مستوى الظاهر.

يمكن أن أشير إلى أن الظواهر الثقافيّة التي غزت الساحة هي ذاتها الظواهر التي ما زالت تشغلنا منذ تأسيس الدولة العربيّة، وما زال سؤال المرأة والمجتمع المدني والديمقراطية ومدى حاكميّة الدين في المجال السياسي والاجتماعي وقوانين الأحوال الشخصية حاضرا، رغم أنه طرح منذ مدة زمنية على يد قاسم أمين والطاهر الحداد وشبلي الشميل وفرح أنطون، لكن كل ذلك لم يزل حالة مفارقة لوعي الإنسان العربي الذي يستمدّ ثقافته من منابر هي بالضدّ تماما من هذه الأسئلة التي تشكّل وأساس عملية التحديث وسيرورة التغيير.
لعلّني أتوقف مطوّلا أمام تعبير قفزة نوعيّة ذلك أن كثيرا من القفز غير الواعي يؤدي لكسر الرقبة أو الرجل أو العمود الفقري، فهل هناك بالفعل قفزة معرفية نوعية في ثقافة الشارع، والتي يمكن الحديث فيها عن مواجهة حقيقية مع ما أسميته بالعناصر التقليدية الكهلة للثقافة العربية، أم أن من تمتّع في الوعي العربي حتى فترة قريبة بصفة من الصفات التي تقطع مع العناصر التقليدية أصبح منضويا بشكل أو بآخر في مشروع التقليدية، فلاذ بالطائفيّة أو العرقيّة أو المناطقيّة كتعبير عميق عن فشل مشروع الحداثة والتحديث والتنوير الذي ما زال صوتا خافتا وسط علوّ النبرة التقليدية التي تعبّر عنه الفضائيات والصحف العربيّة، ومواقف كثير من المثقفين العرب الذين أسبغت عليهم ذات لحظة صفات من قبيل تقدّمي أو حداثي أو علماني أو غير ذلك من الأوصاف البرّاقة التي تخفي خلفها تخلّفا تقليديّا في الوعي.
__________
*العرب

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *