تراتيل فجائع الإسفلت


*سعيد الشيخ

( ثقافاات )

ولما جاء الجزّارون إلى مربعنا التنكي من الزقاق الضيّق، كان عليهم خلع البوابة الخارجية، ليخطوا خطوتين أو ثلاثاً للوصول الى غرفة أهلي، حيث بابها هي الأخرى لا يحتمل أكثر من ركلة بسطار عسكري لينفتح أمام الموت الكاسح. يصبح أهلي في مواجهة بلطات تلمع بأيدي القتلة. فيما غرفتي في الجانب الداخلي المواجه ظلت مغلقة علينا لسبب ما. تقول أمينة في ما بعد:
– لقد أعماهُم الله عنّا.
لحم أهلي يتمزق ويتوزع في المكان. لا أدري إن كان في مشاعري مساحة للحزن على أهلي أم أن كل مشاعري في هذه اللحظة مكتسحة بالخوف والرهبة. كنت أستطيع تأجيل الحزن على أهلي الى وقت آخر، إنما هذا وقت للحواس كلها أن تجترح طريقاً للنجاة. أن أحفظ روحي مع روحَي زوجتي وإبني اللذين يرتعدان خلفي. إبني لا يعي ما يدور حوله، لكنه يحس بنبضات والدته ورجفاتها فينتقل اليه الرعب فيعبّر عنه بالبكاء والزعيق.
وحدي أرى ما يجري خلف الجدار الصفيحي، وأعرف أن زوجتي تكابد وهي تحاول إخماد صوت رعبها الذي ينفلت منها، كلما تناهت الينا أصوات الرعب والألم الصادرة من أفراد أهلي وهم يتلقّون الطعنات، وبحذر شديد كان عليها إخماد صوت الصغير بخرقة من القماش حينما لا ينفع تلقيمه صدرها لإسكاته بإرضاعه. وتحاول قدر الإمكان أن لا تضغط على أنفاسه الى حد منع الهواء من أن يتسرب الى رئتيه الصغيرتين.
صراخ أهلي، وصراخ الضحايا من كل الجنبات، يغطي الفضاء، مما يشكل غطاء على بكاء عمر المتواصل وعلى لهاثي وشهقات أمينة. وكانت رشقات الطلقات النارية من بعيد تشقّ باطن الليل، أصوات القتلة المعربدة في المكان تضفي بأن تضيع أصواتنا ولا تتناهى الى سماع القتلة حيث يتعالى صراخهم الهستيري برطنات اللكنة اللبنانية بتداخل مع اللغة العبرية.
“وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون”، ألهث بكلام الله بتكرار والعرق يتصبب من وجهي، فأشعر بالجدار الصفيحي كأنه خرسانات مسلّحة بالحديد تحصّنني مع عائلتي الصغيرة.
لا لوعة في هذا الكون تضاهي لوعة إمرئ بأمه وأبيه وهما يُذبَحان مع إخوته أمام نظره وهو لا يدري أيضا في أي لحظة يأتيه الدور. لا أستطيع أن أصف كيف هو الشعور. أحتاج الى كل لغات الأرض وقد لا تفي في وصف شعور فقدان الوالدَين والاخوة بضربة واحدة وبظروف غير طبيعية. لا أتخيّل جحيما فوق هذا الكوكب تماثل هذه الجحيم.
الحوادث التي نصادفها في حياتنا قد نعتبرها من الطبيعة بعد ان نسلّم بأنها نتاج القضاء والقدر، الغيب المكتوب في سطور لا ندركه الا حينما تزفّ ساعة الحقيقة ويكون قد فات الاوان.
لكن هنا؛ هنا “صبرا وشاتيلا”، مخيمان على طول شارع يذرعه القتلة بأدوات الإبادة، بعدما أمّن سكان المخيمين بأن الحرب وضعت أوزارها، وبأن إتفاقات قد أُبرمت. لم نكن ندري أن الليل يخبئ لنا قتلنا، وأننا سنصير طرائد يصطادنا القتلة ونحن نيام تحت جنح الظلام.
كان المقاتلون الفلسطينيون قد ركبوا البحر الى منافيهم الجديدة. غادروا الميدان وتركوا المخيمين عهدة لدى دول عظمى تتشدق بحقوق الانسان. دول كانت قد وقّعت معاهدات دولية تنص على حماية المدنيين في زمن الحرب.
طوال شهور الحرب والناس يتنازعهم الهلاك، خلالها أهالت الطائرات ومرابض المدفعية والبوارج البحرية أطنانا من البراميل المتفجرة والقذائف المحرمة على مدار الليل والنهار. كان القاتل لا يمنح نفسه حتى إجازة نهاية الأسبوع. ولا يلتزم ما حضّ عليه دينه بأن يمتنع عن تسيير المركبات.
بيوتنا تطير، كنا نطير.
أشلاؤنا تتناثر مع تنك البيوت حين تلامسها أطنان الحديد المتفجر، والسماء تتلقف الأطفال وتمنحهم أجنحة يطيرون بها كالملائكة، أو هي ملائكة السماء تنحاز الى المخيم من شدة آلامه وشقائه، فتتجسد في أطفال مزّقتهم القذائف. كانت أرواحهم تطير أعلى من الطائرات لتدخل السحب البيضاء. ويصير هنا في المخيم؛ للموت فضيلة لا يفقهها القتلة.
لا مفر، القتلة يرابطون في كل الزوايا، طولا وعرضا، ورجال قنّاصة على سطوح البنايات العالية المحيطة بالمخيمين يرسلون رصاص بنادقهم نحو كل حركة يلمحونها في الشارع المضاء تحت قذائف التنوير المنطلقة من مرابض الجيش الاسرائيلي المنتشر في كل الشوارع المؤدية الى المخيمين، وكانت مجموعات أخرى إختصت باقتحام البيوت والناس نيام… نيام جاءتهم الفؤوس.
الضحايا الذين أحسّوا بالموت المقبل وفرّوا من بيوتهم بملابس النوم، قبل أن يصلها القاتل، كانوا يصلون اليه بأقدامهم حيث يلقون التقطيع بالآلات الحادة، أما الضحايا الهائمون خلف أرواحهم واستطاعوا ابتعادا طلبا للنجاة فكانوا يتلقون رشقات الطلقات النارية من الجنود الاسرائيليين الذين أغلقوا المنافذ بآلياتهم العسكرية. لا مفر.
شمس أيلول لا تزال تحمل في أشعتها حر الصيف، مما لا تطيقه الجثث الملقاة في الأزقة، فتأخذ بالإنتفاخ وإرسال رائحة الموت الى الفضاء القريب.
أمام الجثث المقطّعة إربا إربا، أقف ولا حياة في وجهي، أحاول جاهدا ان أستدل على جثة أختي جليلة اليافعة بسنيّها الست عشرة، فلا أعثر عليها بين أشلاء أهلي. هل فاتني أن أرى من الثقب أن يكونوا قد سحبوها معهم عند إنسحابهم؟ هذه يد أبي لا تزال تقبض على السبحة كأنه كان من خلالها يطلب الرحمة من ربِّ السموات والأرض. اليد مركونة بعيدا عن الجسد. أمعاء أُمي؛ وكأن يداً آثمة إمتدت اليها وسحبتها من بطنها كحبل لتمتد وتلتف حول رقبة أخي خليل المجزوزة، وقد رُكِلَ رأسه وانتهى في زاوية من زوايا الغرفة بعيدا عن جسده. أما رأس أخي فؤاد فكان مفلوقا بضربة فأس وفي جسده آثار لطعنات الخناجر.
تُوَلْوِل أمينة وهي تدور حولي وحول الجثث، والصغير في حضنها لا يتوقف عن الزعيق. تبدو كأنها تقوم بطقس راقص وهي في غاية الإندماج مع إيقاعات الأنين والتفجّع. على حين غرة أجد نفسي أهرع اليها لتناول الصغير من بين يديها وهي تنهار مغمى عليها. لا أدري هل هي دموعي التي تسيل على وجهها، أم كنت أرشّها بالماء؟
بعد دقائق تنتفض صاحية من غيبوبتها كأنها ممسوسة برؤيا كابوس، تقوم على قدميها وتهرع مترنحة الى الخارج وهي تصيح:
– يا ويْلي، ماذا أصاب أهلي؟
أردت أن أتعقّبها في اتجاه بيت أهلها المجاور، إلا أن قدميَّ لم تسعفاني. كنت منهارا بين الجثث، وزعيق الصغير بين يدي تنفطر له حتى أفئدة الأموات والجماد. جسده يلتهب بالحمّى، بين يدي يتقلّب بين الحياة والموت.
مشوّش الذهن وبنظرات زائغة أرى، أرى رجلا أبيض يظهر لي بهيئة مشعّة لرجل طاعن في السن، هالة بيضاء تتكئ على عصا طويلة، تقف في ركن من الغرفة بلا حراك. وبلسان ثقيل وجاف أتمتم:
– بسم الله الرحمن الرحيم…
تفتر من شفتي الرجل ابتسامة، أراه يبتسم في وجهي. حينها أحس بقوة تدبّ في جسدي وتدفعني للوقوف على قدمي، أحس أن حمّى إبني عمر تتلاشى رويدا، رويدا. وأخيرا أنتصب بالوقوف فيتلاشى الرجل ويختفي من مكانه.
في هذه الأثناء أسمع صراخ زوجتي يقترب من الزقاق وهي عائدة من بيت أهلها. على صوتها تقف الفجيعة كاشفة عن هول ما رأت في موت أهلها.
– يا ويلي، لقد ذبحوهم كلهم، لم يبقَ لي أحد!
كنا مخلوقات ضعيفة، أضعف من أن نصدّق ما نحن فيه، الفقدان الجماعي للأهل والأحباب. أي عقل يستوعب؟ الخرس في الألسنة، والعيون معبأة بالدماء والأشلاء. هل منا من بقي له عقل في مكانه يقوم بوظائفه أمام تفاصيل المذبحة من دون أن تلحقه لوثة وتصيبه بعطب ما؟ التفاصيل التي تتعبأ فينا ولا تترك بصيصا لرؤية حياة تمضي بشكل طبيعي على بعد مئات أمتار فقط من هنا. هل كنا عقلاء أمام هذا الموت؟ ألم يكن الجنون يخرج راقصا من أجساد البعض؟
لماذا بقينا على قيد الحياة؟ السؤال الأكثر مرارة، والأكثر إلحاحا أمام موت طازج، أمام نوم الأحبة الذي ليس من بعده يقظة. النوم الأبدي الذي بتنا نتمناه الآن بينهم، بينما هم سعداء لأننا أحياء، لأننا الدليل على أنهم كانوا هنا. وكانت لهم حياة تنضح بالأحلام والأمال. حلم أبي لم يكن يتطاول أكثر من أن يعود ويرى قريته المغتصبة، تلك الوادعة في قلب جبال الجليل على تخوم مدينة الناصرة. لم يكن يصدّق ان الإحتلال الإسرائيلي سوّى بيوتها بالأرض ومحا معالمها من الوجود بعد رحيلنا عنها. تقول أمي: هربنا من تحت قصف الطائرات التي استهدفت القرية، المرة تلو المرة، على أيام متتالية. دفعنا للهروب أيضا؛ إنتشار أخبار المجازر في القرى الأخرى المجاورة التي دأبت العصابات الصهيونية على إرتكابها.
يمحون القرى ليحلّوا مكانها مستوطنات يهودية جاؤوا بسكانها من كل جهات الأرض. أبي كان لا يصدّق وأنا أعيد عليه ما قرأت في دوريات كانت تصدرها فصائل المقاومة تحتوي على معلومات عن بلادنا. صفورية مُحيَتْ مع أكثر من خمسمئة وثلاثين قرية أخرى. لا يصدّق أبي ويقول: إنهم لن يقدروا على صفورية، لصفورية أولياء في تربتها يحرسونها، رَصَدٌ طاهر يطوف في أجوائها منذ أزمان بعيدة.
يغمض عينيه مثل كل مرة ويتنهّد وهو يقول: إنني أراها!
لكنهم أطفأوا النور في عينيه كي لا تتراءى اليه، ولكي لا يعود اليها أهلها الذين ظلوا يرابضون عند التخوم.
لم يمهلوه، لم يمهلونا أيضا نحن الجيل الطالع من رحم شقاء النكبة. يعرفون ان أحلامنا تشكل خطرا على وجودهم. كنت بمثل عُمْرِ إبني في شهر أيار من العام 1948، حينما وضعتني امي في خُرْجِ الدابّة وأطلقوا خطاهم في الهجيج عابرين الحدود. لكن القتلة لحقوا بنا الى المخيم بعد كل تلك السنين. يعرفون ان في المخيم حدائق مزدهرة بأحلام الحرية، وهنا يُربّى الأمل.
كم مرة حاولوا إستئصالنا، كم مرة؟
كنا نعرف أننا نموت لأننا فلسطينيون، ولكن لماذا يموت جيراننا اللبنانيون الذين يشاركوننا السكنى في المخيم. لماذا يموت معنا الفقراء الذين لم يجدوا سوى المخيم مأوى لهم؟
صبرا وشاتيلا يا تشابك الدم، يا انصهار الروح في بوتقة الكائن الإنساني، أيها المصير الدامس!
أيها الكوكب الماثل بالنور، هناك في آخر مشوار الدم، تلوّح للعائدين من الموت!
* * *

شاهد أيضاً

قصة “الظل” لإدغار آلان بو

(ثقافات) قصة الظل[1]. إدغار آلان بو ترجمة: عبد القادر  بوطالب                أنت الذي تقرأ ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *