صفية أنطون سعاده
يحتم علينا مسار الأحداث المدمرة في دول «سوراقيا» العودة إلى الجذور الفكرية الأميركية التي أسست لحروب دينية طائفية ومذهبية تحت عنوان «صراع الحضارات»، إذ كان من الواضح لنخبة المفكرين الأميركيين والذين كانوا يرفدون الإدارة الأميركية بالخطط، أن السيطرة الاميركية تتطلب تحطيم الدول الممانعة لهذه الهيمنة عبر اثارة التعصب الديني.
ينطلق صموئيل هنتنغتون في نصه الشهير «صراع الحضارات» الذي نشره عام 1993، كما تلميذه فوكوياما من النقطة المفصلية ذاتها: سقوط الاتحاد السوفياتي والهيمنة الاحادية للولايات المتحدة الاميركية على العالم أجمع.
وفي نشوة الانتصار يقدم هذان المفكران الأميركيان استشرافهما للمستقبل، فيعتبر فوكوياما بأن التاريخ قد انتهى ولا مجال لمقارعة جبروت الولايات المتحدة الاميركية على الصعد كافة، بينما يرسم هنتنغتون خريطة طريق لما ستؤول اليه الامور بعد السيطرة الاميركية الشاملة. ولقد دعم هنتنغتون هذا الموقف بارتكاز بحثه على مسلمتَين غير قابلتين للنقاش:
أولاً، لا إمكان لنشوء دولة تستطيع منافسة الولايات المتحدة الاميركية.
ثانياً، مع انهيار الدول تتحول المواجهات الى «صراع حضارات».
فرادة الامبراطورية الاميركية
إن رفض تصور إمكان بروز قوى أخرى تستطيع منافسة الولايات المتحدة الاميركية يُظهر بشكل جلي الغطرسة والشعور بالاستعلاء والتفوق بين البحاثة الاميركيين، وبالتالي وقوعهم في خطأ علمي يفترض درس الاحتمالات والفرضيات كافة، كما أنه يلمّح الى وجود مفكرين هم بمثابة حاشية الادارة الاميركية (وبخاصة في أوساط المحافظين الجدد) يكتبون ما ترغب بسماعه تلك الادارة بدلاً من الدراسة الموضوعية للامور.
لقد استنتج كل من هنتنغتون وفوكوياما أن لا مجال في المستقبل القريب أو البعيد لوجود قوة تضاهي الولايات المتحدة الاميركية، ما يفترض أن القوة الاميركية نابعة من وضع «استثنائي» غير متوافر لأية دولة أخرى قديماً أو حديثاً. تؤمن بهذه الاستثنائية النخبة السياسية كما أسهبت هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الاميركية السابقة، ما استدعى رداً على صفحات «نيويورك تايمز» من فلاديمير بوتين رئيس جمهورية روسيا. أن تؤدلج نخبة حاكمة لسرد من هذا النوع شيء، وأن يتبنى أساتذة ومثقفون كبار هذا الطرح فشيء آخر تماماً، لأنه يفترض أن دراساتهم الموثقة توصلت الى هذه النتائج وهذا ما لم يحصل. يعتبر هنتنغتون إذاً أن لا أفول للامبراطورية الاميركية، ولا امكان لنشوء شبيه بها لا اقتصادياً ولا عسكرياً. بناء على هذا المنطق، سارع تلميذه فوكوياما الى اعلان «نهاية التاريخ»، وهو اعلان ساذج لأن التاريخ هو سجل الزمن، والزمن لا يتوقف الا بانتهاء الحياة على هذا الكوكب.بالاضافة الى ذلك، لا يأخذ هنتنغتون بالحسبان أن تتكوّن جبهة مؤلفة من مجموعة من الدول تقف في مواجهة الطغيان الاميركي كما يحصل حالياً مع دول «البريكس»، أو مجموعة شانغهاي، فتضامن بعض الدول الكبرى يؤدي الى تفوقها على الولايات المتحدة الاميركية ومنعها من احتكار المقدرات العالمية.
التفسير الاكثر عقلانية لتطور الاوضاع على الساحة الدولية قدمه زبيغنيو بريجنسكي في كتابه الذي نشره منذ عامين: Strategic Vision*، حيث يرى، خلافاً لهنتنغتون وفوكوياما أن الولايات المتحدة الاميركية وصلت الذروة بعد الحرب العالمية الثانية وهي في حال انحدار، ويتوقع نهايتها كما انتهت أمبراطوريات كثيرة قبلها، إنما مع فارق أن لا إمكان لبروز امبراطوريات جديدة لأن شعوب العالم كافة قد أصبحت مسيسة وتريد أخذ القرار بيدها لا أن تبقى رهينة الآخرين.
يعكس فكر هنتنغتون وفوكوياما شعوراً بالنشوة المفرطة جراء سقوط الاتحاد السوفياتي، وتفسير الوضع على أنه انتصار نهائي وأزلي! ولقد دعّم هذا الموقف الادارة الاميركية آنذاك فأخذت تصول وتجول في حروب عسكرية عالمية من كوسوفو الى أفغانستان فالعراق وأخيراً سوريا وأوكرانيا معتمدة على مقولة أن لا غريم أمامها، لكنها أضعفت نفسها في خوض المعارك في أكثر من دولة، وها هي اليوم تفتش عن قوى تحارب عنها ولمصلحتها، فما وجدت الا نظرية «صراع الحضارات» وهي آخذة بتطبيقها.
صراع الحضارات
النقطة الثانية التي يشدد عليها هنتنغتون أنه بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ستأخذ الصراعات شكل حروب ليس بين الدول التي لم تعد ذات شأن بعد العولمة الاميركية، بل بين الحضارات، ولا امكان لحل هذه الصراعات الا من خلال الحرب التي ينتصر فيها فريق على آخر.
يعتبر هنتنغتون أن الصراع الدموي حتمي بين الحضارات للاسباب التالية:
أولاً، مع انهيار الدول القومية-الوطنية في العالم الثالث، وخصوصاً في العالم العربي، لا يبقى أمام هذه المجتمعات الا العودة الى تجمعات ما قبل الدولة الوطنية، أي الاثنية والطائفية.
ثانياً، يسمي هنتنغتون هذه التجمعات الاثنية والدينية بالحضارات التي لن تلبث أن تشتبك بحروب دموية فيما بينها خاصة ضمن نطاق دول أصبحت إدارتها المركزية ضعيفة،
وهو لا يناقش فكرة أن تكون حضارة ما نتاجاً مشتركاً للعديد من الاثنيات والمذاهب كما هي الحال في سوراقيا.
ثالثاً، يدعم برنارد لويس مقولة صراع الحضارات ويؤكد أن الدين الاسلامي يحارب الحضارة الغربية المرتكزة على الارث اليهودي-المسيحي.*
يرتكب برنارد لويس مغالطتين: الاولى «أن ارث الغرب يهودي-مسيحي»، اذ إن هذا الغرب المسيحي الكاثوليكي هو الذي حارب اليهودية لقرون طويلة ونبذ اليهود، لا بل طردهم مع المسلمين خارج اسبانيا رغم أن اليهود هم اسبان وكذلك المسلمون، بعد أن استقروا فيها لأجيال مديدة، وظلت أوروبا تضطهد اليهود حتى نهاية الحرب العالمية الثانية بناء على نظريات عنصرية لطالما زخر بها الارث الاوروبي.
والمغالطة الثانية هي في اعتبار أن الاسلام يحارب اليهودية والمسيحية. ومن المؤكد أن برنار لويس يعرف أن هذه ليست الحقيقة وأن الاسلام اعترف منذ البداية «بأهل الكتاب»، وبأن انبياءهم انبياؤه.
لا يستطيع المسلم أن يحارب اليهودية والمسيحية كحضارتين مختلفتين، لأن اسلامه مكمّل لهاتين الديانتين، أي أن الديانات التوحيدية الثلاث هي ضمن حضارة توحيدية واحدة نابعة من مركز جغرافي واحد. من يريد التأكيد أن هذه الديانات في حال حرب ليس الاسلام، بل مفكرون كهنتنغتون وبرنارد لويس لأن هذين المفكرين كما غيرهما يريدان اظهار الصراع
العربي-»الاسرائيلي» وكأنه صراع حضارات ديني المنشأ لا صراع مع دولة استيطانية تقتل السكان الاصليين الفلسطينيين لتحل مكانهم، فيخصص هنتنغتون «اسرائيل» مركزاً للحضارة اليهودية المنسجمة مع التراث الغربي ويؤكد أنه لن يحصل أي صراع بين «الحضارة الاسرائيلية» والحضارة الغربية بل فقط مع الحضارة الاسلامية. «حرب المسلمين ضد الغرب» التي يطرحها هذا الثنائي يتوخى منها اخفاء حقيقة الاستعمار الغربي لدول المنطقة، فهو الذي يعتدي على المشرق العربي بمسلميه ومسيحييه، كما أنه يحاول حماية «اسرائيل اليهودية» على أنها جزء من التراث الغربي.
اللافت للنظر هو الفرضية التي ينطلق منها هنتنغتون ألا وهي فرضية حتمية الصراع بين الحضارات، فالادلة التاريخية تظهر عكس ذلك تماماً. الحضارات بما فيها الثقافات والاديان لا حدود جغرافية لها، وهي انتقلت ولا تزال تنتقل، منذ بداية التاريخ بشكل سلمي وعبر التبادل التجاري وتواصل المجتمعات. لم تقم منطقة الهلال الخصيب بإعلان الحرب على أوروبا الوثنية باسم المسيحية التي انطلقت من فلسطين، بل إن المسيحية تسربت وانتشرت في اوروبا عبر التبشير، والدين ليس المظهر الوحيد للحضارة، فالعديد من الخصائص الحضارية كالعلوم والموسيقى والادب انتقلت الى الغرب وتبناها هذا الاخير بشكل طبيعي وأقبل عليها لأنها كانت متفوقة في المعرفة.
الوقائع والاحداث منذ الحرب العالمية الاولى تظهر من دون أي لبث أن أساسَي الصراع هما استعمار الغرب وسيطرته على دول العالم الثالث، وهو لا يمت الى صراع الحضارات بأي صلة، بل بالدفاع عن النفس أمام التوسع الغربي الذي يستعمل في هذه الحرب أدواته العسكرية والثقافية ومنها مقولة «صراع الحضارات».
يبدو إذاً أن هنتنغتون وضع نظريته بناء على المسار التاريخي للحضارة الاميركية التي نقل اليها الاوروبيون جرثومة العنصرية فقامت على إفناء «الهنود الحمر»، واستعباد «السود» لاختلاف لون بشرتهم عن الرجل الابيض الذي يرمز لونه الى تفوقه الحضاري، ورفْض كل وجود ليس على شاكلتها، وبالتالي لا يستطيع هذا المفكر، أو لا يريد، تصور نموذج التمدد السلمي للحضارات كما عرفته العديد من الحقبات التاريخية.
الفكر التكفيري
يلتقي الفكر التكفيري ونظرية «صراع الحضارات» في النقاط التالية:
ــ الدين هو العامل الاساس في تحديد الحضارات لا الثقافة أو التقدم الاجتماعي أو التقني أو الاقتصادي.
ــ لا تداخل بين الحضارات، أي لا تداخل أو التقاء بين الاديان كما لا التقاء بين الطوائف على قواسم مشتركة.
ــ لا خيار بين الاديان والطوائف الا الاقتتال في ما بينها.
الحقيقة هي أن الحضارات لم تتوقف لحظة عن التواصل، وهذا التواصل هو من أهم أسباب تقدم الحضارات، فمثال القبائل المنزوية كالتي وجدت في أدغال الامازون تُظهر أنها ظلت بدائية ولم تتطور لعدم اتصالها بثقافات أخرى تحفزها على النمو. فالاقتباس أساسي في تقدم المجتمعات، لذلك نرى حالياً انتشار التجسس التكنولوجي لمعرفة التقدم الحاصل في حضارة ما لأخذه والبناء عليه.
من المؤسف أن نجد بعض المثقفين عندنا يمارسون التكفير الفكري فيرفضون أن نناقش أو نأخذ بمفاهيم تفيد مجتمعنا فقط لأنها كما يقولون «غربية». قد تمثّل هذه الافكار حلولاً لأوضاعنا الاجتماعية-السياسية، الا أنه يتم منعها من التداول، أي منع حوار الحضارات ومنع تبادل الافكار، ما ينقل المجتمع الى «تكفير» حرية الفكر، ورفض استعمال المنطق والعقل لقبول أو دحض تلك المفاهيم، فيلتقي هؤلاء المثقفون مع التيار السلفي التكفيري في منعنا من التطور.
من المهم الانتباه إلى ان الفكرة التي تنتقل ويقتبسها مجتمع ما تصبح ملكاً لهذا المجتمع. الاسلام في اندونيسيا مثلاً هو ملك الاندونيسيين بعد تبنيهم لها، لا ملك الجزيرة العربية، كذلك تبني الغرب للمسيحية جعلها مسيحية تمثل الغرب لا فلسطين، وبالتالي القول بأننا لا نأخذ هذه الفكرة أو تلك لأنها «غربية» خطأ، والاصح مناقشة جدوى الفكرة وهل تفيد مجتمعنا في حال تطبيقنا لها، كما أن التطور عبر الزمان يرغمنا على إهمال أفكار وتبني أخرى تتلاءم مع التحولات المجتمعية، والا لما كنا نأنف اليوم من ممارسات الدولة الاسلامية في قطع الرؤوس، لأنها طريقة اتبعها الشرق والغرب سابقا، لكن المجتمعات الحديثة لم تعد تتقبل هذا النوع من الاحكام.
لم يخجل الغرب من تبني النظم التي ابتكرناها في القرون الوسطى؛ أخذها وطورها وأصبحت جزءاً من تراثه الفكري القيم، ولم يحجم عن اقتباسها لأنها «مستوردة»، فنبذ الفكر يعني البقاء ليس في الفضاء الديني أو المشرقي بل الفناء في الجهل والتخلف. لا يُبرز هذا الموقف الا ضعف المثقف العاجز عن مواجهة التحدي، فيلجأ الى التقوقع ضمن شرنقته الضيقة، لا بل يؤازر موقف السلفي التكفيري الذي هو أيضاً يمتنع عن الاجتهاد بحسب الزمان والمكان فيعلن الحرب على الفكر والعقل.
لجأت الكنيسة الكاثوليكية كما تبلورت في القرون الوسطى الى سلاح التكفير والهرطقة للقضاء على كل من يخالف رأيها، فعمت محاكم التفتيش الدينية مدن أوروبا، واعتبرت الكنيسة نفسها الوحيدة المخولة البحث في الشؤون الثقافية والعلمية، فأرغمت غاليليو على القول ان الشمس تدور حول الارض، كما حرّمت الحديث عن نظرية التطور واعتبرتها منافية للدين المسيحي الذي يؤمن بخلق العالم في سبعة أيام. ولقد بقي رفض نظرية داروين سائداً في الكلية الانجيلية السورية (الجامعة الاميركية في بيروت) في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، من قبل المبشرين البروتستانت، وبخاصة من قبل رئيس الكلية آنذاك دانيال بلس الذي منع منعاً باتاً أي تداول لكتاب داروين في النشوء والارتقاء تحت طائلة الطرد. استطاع بعض الطلبة السوريين من الاطلاع على مضمونه خفية، فنتج من ذلك ثورة في المفاهيم قلبت المعايير التقليدية وبرزت أفكار جديدة عن تطور المجتمع وامكان تغييره.
لم تتحرر المعارف في الغرب الا بإلغاء دور الكنيسة المهيمن على الفكر، وابعاد الدين عن كل ما يختص بالمعرفة الانسانية.
من الغريب أننا تبادلنا والغرب الادوار، ففيما كنا متحررين في القرون الوسطى في النتاج الحضاري المبني على فصل العلم عن الدين، وازدهار المعرفة، أخذ الغرب هذه الميزة منا وفقدناها نحن!
شتان ما بين هذا النموذج والاسلام المنفتح الذي نما وترعرع في سوراقيا، وفتح المجال واسعاً أمام العلوم لتنتشر وتتقدم، ولطلب العلم «حتى في الصين»، ففصل ما بين العلوم الدينية والعلوم الوضعية التي ليست من اختصاص الدين.
الفكر السلفي التكفيري
إن أشد المذاهب الاسلامية تطرفاً هي الوهابية التكفيرية لأنها مدرسة تحارب الفكر، وكل أشكال الحرية الفكرية بما فيها الدينية، وهذا الموقف غريب عن التجربة السوراقية، وقريب من مسار أوروبا القروسطية. المشكلة في الفكر الديني التكفيري أنه يحارب حتى المنتمين الى مذهبه، ويفرض عليهم نظرته الضيقة والمتحجرة التي لا ترى مستقبلا الا في العودة الى الماضي البعيد؛ فالعصر الذهبي بالنسبة له هو «في البدء»، وكل ابتعاد من البداية يؤدي الى الانحراف عن الدين الصحيح، لذا لا مكان للعقل والاجتهاد فهما سيفسدان النص الاصلي، وعليه يتم اللجوء الى مقولة «البلا كيف» الشهيرة في قراءة النصوص القرآنية.
استعمال العنف هو الوسيلة الوحيدة المتاحة أمام التيار الديني التكفيري لأنه يريد عبثاً أن تتوقف الساعة عن الدوران؛ هو رهاب من سمة الحياة الاساسية والتي من دونها لا حياة، الا وهي التحول الدائم.
الفكر السلفي التكفيري يساهم في مؤازرة ودعم المستعمِر لأنه يدمر كل النتاج الثقافي والعلمي للمجتمع الذي يحيا فيه، فهو يريد محو كل أثر للحضارة كما تطورت عبر القرون، وهو يشرذم المجتمع لأنه يقوم بقتاله فيضطر هذا الاخير لمواجهته بدلاً من مواجهة العدو الحقيقي الذي يريد الاستيلاء على الارض، كما أنه يمنع المجتمع من الحصول على المعارف الاساسية التي تسمح له بالنهوض أو حتى امكان المجابهة. فالدولة الاسلامية مثلاً ألغت المدارس في دير الزور السورية بعد أن استولت عليها مؤكدة «أن كل المعرفة تخص الخالق، لذلك يجب عدم تعليم حتى جدول الضرب» (جريدة «السفير»، 8 تشرين الثاني 2014).
لم يُنتج الاسلام الذي نشأ في سوراقيا ما يوازي الكنيسة الكاثوليكية التي كانت تقرر من هو مسيحي ومن هو زنديق فتعلن هرطقته ان عصي اوامرها، وتحرّم عليه دخول الجنة. ترك الاسلام السوراقي الباب مفتوحاً للقرار الاخير بيد الله، وبعد الممات. هذا هو السبب الرئيس في التنوع الديني الهائل الموجود في هذه المنطقة رغم اشتداد التطرف الديني بين الفينة والاخرى، ودائماً كنتيجة دخول عناصر خارجية كانت مختلفة ومتخلفة بمفاهيمها. ففي القرن التاسع الميلادي، أدّى دخول العناصر التركية الآتية من آسيا الوسطى الى سيطرتها على الجيش والتغلغل في الفكر السوراقي وشله تماماً كما تفعل «الدولة الاسلامية» عبر التدمير المنهجي لكل مظاهر ثقافتنا.
بنت الدولة الاموية ومن بعدها الدولة العباسية الاولى صرحاً حضارياً ضخماً تميز بالنقل والاقتباس والاجتهاد والابداع، وتُرجمت الكتب الفلسفية الى اللغة العربية، وأنشئت المدارس تعلّم وتوائم بين النظريات الفلسفية والاسلام. نتج من التفاعل مع الحضارات الاخرى الى تقدم العلوم، ولم يخشَ الامويون والعباسيون من «التقاط فيروس غريب» يقضي عليهم كما يتوهم بعض مثقفينا، فتركوا لنا تراثاً بديعاً متفوقاً في كل مناحي الفنون والاختصاصات وصولاً الى بناء حضارة مميزة في الاندلس.
لقد اشتهر عهد الخليفة العباسي المأمون بنهضة كبيرة وبدعمه لتيار المعتزلة السني وهو فرقة كلامية اعتمدت على العقل في فهم القرآن واعتبرت أن التشريع محدود بالزمان والمكان لذلك من الواجب تطويره بشكل دائم. ومن المؤسف أن نجد أن أخ المأمون، الخليفة المتوكل انقض على هذا التراث العقلاني جراء تأثره بجيشه التركي والذي كان أخاه المعتصم بالله قد أحضر عناصره من آسيا الوسطى، كما تأثر الاثنان بوالدتهما التركية.
قضى الخليفة المتوكل على المعتزلة ولاحق أئمتهم وقتلهم، فانحسر دور العقل والاجتهاد، وتم احراق الكثير من الكتب العلمية، وقد يعود السبب في هذا الموقف الى أن الجنود الاتراك أتوا من بيئة لا تزال بدائية للغاية وغير مثقفة مقارنة بالمستوى المتقدم للعاصمة بغداد آنذاك، كما أنهم لم يكونوا ملمين باللغة العربية، ومن الاسهل لهم حفظ القرآن غيباً من دون الاخذ بالشروح. يظهر ذلك جلياً في تذمر أهل بغداد من تصرفات الجند والطلب من الخليفة اخراجهم من العاصمة.
فيما بعد، ورغم أن عدداً متزايداً من المثقفين يحاول ابراز ايجابيات السلطنة العثمانية التي حكمت المنطقة، الا أن النهضة الفكرية توقفت تماماً ولمدة خمسة قرون. راح الفكر في سوراقيا في سبات عميق لم يستيقظ منه الا مع بداية القرن التاسع عشر حين اضطر لمواجهة الفكر الغربي والنظم الغربية المبنية على الدولة القومية والثورة الصناعية، فنتج من ذلك نهضة فكرية جديدة جراء ترجمة المعارف الحديثة الى اللغة العربية، واضطرار العديد من المفكرين الدينيين والعلمانيين إلى مواجهة واقعهم المتردي ومحاولتهم البحث عن الحلول المناسبة للقيام بمجتمعاتهم.
الدين والدولة
أسباب عديدة تدفع بنا الى عدم ايجاد حل لانتظام المجتمع ضمن سوراقيا الا بفصل الدين عن الدولة، بدءاً بإلغاء الطائفية السياسية فتطبيق مبدأ فصل الدين عن الدولة في المشرق العربي لا علاقة له بالمسيرة التاريخية للغرب كما يحلو لبعض المثقفين العرب التشديد عليه للاستنتاج بأنهم يرفضون المقولات الغربية من قومية وعلمانية. هذا الفصل إلزامي في سوراقيا اذا أردنا تحقيق مبدأ العدالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لأن سكان هذه المنطقة لا ينتمون الى مذهب واحد أو طائفة واحدة، فإلزام الجميع بدولة دينية يخلق عدم مساواة وغبن بين المواطنين، والسماح لكل طائفة دينية بتمثيل نفسها على الصعيد السياسي وبالتالي الاجتماعي والاقتصادي يؤدي الى تناثر المجتمع الى «مجتمعات» كما هي الحال في لبنان.
النظر الى الآخر ضمن الوطن يجب أن يتمحور حول الاختلاف في النظرة للمستقبل، أو حول تعارُض في البرامج السياسية، أو الاقتصادية، وتعمل الانتخابات كسياج يحمي قرار أكثرية المواطنين والمواطنات من خلال التصويت، فتتجه الحكومة الى تنفيذ القرارات التي تغطيها غالبية السكان. أما في حال النظر الى الآخر ليس على أساس اختلافه الفكري معنا، بل على أساس دينه وطائفته ومذهبه أو اثنيته، حينئذ نلج الى الانقسام العامودي بين الطوائف والاثنيات وهو تمييز عنصري ظالم لأن الانسان يرث دينه واثنيته من أهله، فالاسود لا يستطيع أن يصبح أبيض اللون، لكن من الممكن للاثنين الاندماج معاً ضمن الوطن بما أن مصيرهما مشترك كونهما يتشاركان الحياة على أرض واحدة.
تلعب الاحزاب القومية الوطنية التي تمنع حصر أعضائها باثنية أو طائفة معينة، دوراً بالغ الاهمية في عملية اندماج المجتمع وتحوّله نحو ايجاد حلول لمشاكله بدلاً من الخصام الدائم حول هوية موروثة لم يتم اختيارها، لكن لا تتحمل الاحزاب القومية الوطنية المسؤولية وحيدة بل يجب أن تتضافر مؤسسات الدولة أيضاً في بناء مجتمع منسجم مع نفسه وأهدافه عنده المناعة الوطنية الكافية لرفض تكفير بعضه بعضاً، والوقوف في وجه «صراع حضارات» على أرضه.
* Samuel Huntington‚ “Clash of Civilizations”. Foreign Affairs (summer‚ 1993).
Bernard Lewis‚ “The Roots of Muslim Rage”‚ Atlantic Monthly‚ v. 266 (September‚ 1990).
Zbigniew Brzezinski‚ Strategic Vision. America and the Crisis of Global Power. New York: Basic Books‚ 2012.
* باحثة وأستاذة جامعية
– الاخبار اللبنانية