“خمر الموتى” لرومان غاري في الواجهة: وماذا لو كانت الحياة محاكاة ساخرة عن الموت؟


رلى راشد


“خمرُ الموتى” قديم رومان غاري وجديده على السواء. نص روائي يكفل في مئوية ولادة صاحبه بأن يعيد إحياءه، إنساناً استبدّ به اليأس إلى حدّ إفراغ رصاصات المسدس في فيه، وكاتباً استمتع بلغة التحايل، فقنص جائزة “غونكور”، الإمتياز الأرفع في السياق الأدبي الفرنسي، مرّتين، وبهويتين مختلفتين: رومان غاري وإميل أجار. ستنفث “خمر الموتى” نفساً في رئتيّ حكاية الكاتب المزدوج، وستطلعنا، وهي النص الروائي التأسيسي، على منابع غاري التأليفيّة. سأل المؤلِّف في شهريّة “كُتبِ فرنسا”، في منتصف الستينات من القرن العشرين، “ما هي أكبر مصيبة يحتمل أن تصيبني؟” ليجيب “ضياع مخطوط رواية منتهية”. والحال ان الرجل، الموزّع في كاتبين، عانى شيئا من هذا القبيل، فَتاهَ منجزه عن الطريق إلى نصه التخييلي هذا، ليعود إليه اليوم، من مسافة.

لا يزال رومان غاري فرنسيّا على حدة، في منطق الموسوعات الأدبية. صوتٌ جشعٌ إلى حدّ المجازفة بفقد ظّله، في غياهب التخفيّ. نسترجعه في 2014، من طريق دار “غاليمار” الفرنسية التي تتقرب من حكاية بنبرة فكاهية ظاهريا، تتقدم في وسط إحدى المقابر الواطئة، في العالم السفلي. تلفّ سوداوية طافقة عُنقَ النص من دون مقدّمات، فيتسلل إلينا الإحساس بالإختناق كأن النص الذي في متناولنا تنويع على “مولوا”، نص صموئيل بيكيت.
لكأن غاري يرسم العتمة أيضا، على قماشة شفّافة، مستخرجا أطيافا شيطانية، في مكان تستبدّ فيه الخشيةُ بالشخصيّة الرئيسية، توليب. ندنو في نص التأثيرات الأولى التي استدرجت الكاتب في يفاعه، إلى جوار فانتازيا ادغار الن بو، وإلى اللامعنى، في منطق لويس كارول، كما إلى هلوسة الفرنسي لوي فردينان سيلين، من حيث سَير النماذج المتصوّرة صوب حتفها. يترحّل توليب في وسط المثوى الأخير حيث يلتقي الأحياء – الأموات والعاهرت وقدامى العسكريين على إيقاع رقصة جنائزيّة.
ها هنا مثلاً، مشهد موغل في التململ النفساني المعطوف على التردد الجسماني. نقرأ في الرواية الآتية بهيئة الحكاية المديدة المفتقرة إلى نقطة استراحة: “تسلّق توليب بوابة المقبرة ليسقط دفعة واحدة، عند الناحية الثانية. لم يلبث أن وقف متذمّرا ثم ترنّح قبل أن يصطدم بصليب تمسّك به بشدّة، لكي يتجنب السقوط. “أنت تغشّ!”، قال فجأة صوت ذو بحة، على مقربة منه. استبدّ الذعر بتوليب، فترك الصليب واندفع في قفزة كبيرة في العتمة. “أنت تغشّ!”، كرر الصوت نفسه بغضب. “كيف؟ لماذا أغشّ؟”، ردّ توليب شاكياً. حلّت لحظة من الصمت. ثم عاد الصوت ليضيف بوضوح “أقول لكَ انك تغشّ. أتسمعني؟” “لا، لا، ثم لا! أنا لا أغشّ!”، صرخ توليب. هذه المرة دام الصمت فترة أطول. “ما كان هذا؟”، سأل الصوت الأول، حذراً. ليزيد: “ألم تسمع شيئاً، يا جو؟” أجاب صوت آخر غير مُبال: “ماذا تريده أن يكون، يا جيم؟. شخصا (…) أو شيئا ما؟ في كل حال، أنا لم أسمع شيئا!”. تملّك الرعب توليب فبات عاجزا عن التنفس، أو الإتيان بحركة. تأهّب شعر رأسه كالقنفذ، أما ركبتاه فكانتا ترتجفان في حين راحت أسنانه تصطكّ. عاد الصوت الأول، بعد برهة، ليقول مُندفعاً: “يا إلهي! أقول لكَ يا جو أنك تغشّ. إنه لأمر مقرف حقا!”. أجاب الصوت الثاني في هدوء: “يُحزنني حقا أن أسمعك تستسلم للسُباب يا جيم! كان الأمر غير مناسب البتة وأنتَ على قيد الحياة. فكيف بالحريّ الآن، بعدما توفّيتَ، بات الأمر مهينا حقا!” كاد توليب أن يصاب بالإغماء. صرخ بصوت ضعيف: “النجدة!” ثم هرول مُندفعا وفقد التوازن. تمسّك يتأكله الحنق، بشيء ما لا بدّ أنه سقط مباشرة، لأن الرجل انهار في نحيب مرعب وعصبي. سقط وارتطم رأسه، لكنه لم يشعر بالألم. وثب مباشرةً على ساقيه، ليمكثَ متقوقعاً بينما فتح فاه مستعدا للصراخ. كان المكان مضاء بالكاد، من طريق شمعة صغيرة، وُضعَت فوق ما يشبه الطاولة. تبدّى شكل الطاولة غريباً، بل مقلقا. فاجأ منظرها توليب إلى حدّ انه نسي مسألة الصراخ وراح يتفحّصها مشدوها بينما تدلّى فكّه وبرزت عيناه. اقتنع ان الطاولة ليست سوى غطاء أحد التوابيت، بلا ادنى شكّ”.
ولِدَت “خمرُ الموتى” في 1933، في حقبة كان لا يزال الكاتب خلالها يحمل إسمه الحقيقي، رومان كاتسيف، أي قبل أن يغدو رومان غاري، في 1945، في أعقاب إصداره “التربية الأوروبيّة”. للمفارقة، لم يستطع النص الحامل هويته الفعلية، وإن مع تعديل بسيط، ذلك انه جعل إسمه roman يصيرromain على الطريقة الفرنسية، أن ينال رضى الناشرين، فلم يرَ طريقه إلى النشر. أهداه غاري إلى صديقته التي ستعرضه بعد نحو نصف قرن للبيع، خلال مزاد علني، ليصل إلينا، بعد شيء من المغامرة.
يقرّ الكاتب بأنه بدأ نصه في عامه التاسع عشر، في أول أعوام دراسة الحقوق في مدينة أكس ان بروفانس، متكئا على احدى طاولات مقهى “دو غارسون”. والحال انه سيكمله، في باريس، في غرفة فندق صغيرة، في موازاة إهمال دروسه الجامعية، تدريجا. تنهمك الرواية بالثيمات وتقترح مقاربات عدة. البعد الفانتازي أولا، من طريق سلسلة من الحكايات المقتضبة المتداخلة، والنقد اللاذع للمجتمع البورجوازي ثانيا، وتحديدا بين الحربين الكونيتين الأولى والثانية، ويتبدّى ذلك من خلال عنوان الرواية الفرعي، “بورجوازية”، الوارد في مخطوطها الأول. يفرد النص مكانا لكل علل بيئة الحروب: الإنتقام والغيرة والفساد وغيرها. كان من شبه المستحيل أن تغيب الحرب وتبعاتها عن نص غاري الإستهلالي، وهو المولود في 1914، في عام إنطلاق الصراع الكوني الأول.
الكحول والعالم السفلي دافعان روائيان في “خمر الموتى” حيث أقساط من السخرية والعبث والإفتقار إلى المعنى. على ما يتراءى، استراح غاري في جوار توليب إلى حدّ جعله الشخصيّة المحورية في تجربته الروائية الثانية الصادرة في 1946، التي سمّاها “توليب” تيمّنا به.
في المحصلة ليست “خمرُ الموتى” سوى خدعة، محورها جملة تستدعي منا التدقيق في المسّمات. نقرأ بلسان غاري قبل أن يصير غاري: “وماذا لو كانت الحياة مجرد محاكاة ساخرة عن الموت؟”.


– النهار

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *