زهرة المارغريت / قصة قصيرة


*ناصر الريماوي


( ثقافات )
على “جسر ميرابو” … قبيل منتصف الليل بقليل، تطوقني بباقة أزهار “المارغريت” وحدها، لتغمس ما تبقى من غلّة الورد في صفحة النهر، قبل أن تنثرها هناك. 
على انعكاس ملامحها الوافرة تواصل سرد اسطورة النهر الوحيدة، لتبدأ من حيث انتهت…، حدثتني عن “عذراء أورليانز”، عن رماد بلّوري لجسد قدّيسَه، نثروه في “السين” …عن اختلاط أمسيات تدلّت بعد ذلك، ليغمسها وجد السهارى في صفحة الماء، عن صبية غامضة، لا تدركها الا عيون السّهارى ومرتادي جسور “نهر السين”، بعد أن يوغل الليل تأخذ مكانها هناك، تنثر ورد الغرباء لتضيء نجمتها على اشتعال الرماد، فيطيب للسهارى نسج الحكايات حتى يطلع الصباح، مع كل نهار جديد كانت تترك لهم أثرا، أو حفنة من رماد جديد، تنثره ثم ترحل، تحدق بي مليا… ربما لترى أثر الحكاية، ابتسم لها فقط ثم نواصل المسير. 
في أزقّة “الحي اللاتيني” … تتوعدني بتتمة الحكاية وبالمزيد ، قبل أن نفترق. 
استعين بأصص إضافية لباقة “المارغريت” الجديدة، الى جانب أخريات تناثرن على ارفف غرفتي الصغيرة… وأحاول أن أنام. 
اللقاءات العابرة تحت هذا الجدار أوجعت حلق نافذتي الشرق أوسطية، فاعتراها الصرير، فانوسها العتيق الذي التهمه الصدأ، لازال يتلصص وحيدا على الدرب، ثم يسيل مرغما بين شقوق العتمة في المساء.
في “الحي اللاتيني” بباريس، كل الدروب ضيقة وتليق بعاشقين…، همستْ لي بهذا، قبل أن نفترق آخر الليل تحت ظل النافذة.
ولم أنم، جذبتني صحوة الليل إلى برد الطريق، فأذعنتُ للسير بمفردي، شرفتها المجاورة لم تنم، هي الأخرى تشاكس الطريق، متى تنامين ليسكن الليل على أسطح البيوت؟ 
ايقاع نغم “بيانو” شجي، ماطر… يتسرب من حلق نافذة قريبة لا تستقر على جدار، تتقافز ولا تترك أثرا على زجاجها لأناس يعبرون على عجل، شرفة على الجانب الآخر تغتسل من إثم ملامح باهتة لعاشقين تدثرا بعتمة المساء… وحدها أعمدة الإنارة، تصغي بعلو، لغيم يعد الميادين بالبلل…، ثم لا يهطل المطر!
وحده الصوت ينساب دافئا ورخيما في غنائية على وقع انغام “عود” شرقي بلكنة عربية:
“ليلة شرقية تُطلُ من نافذة الليل المقعد، ونكهة المساء البالية
قدح القهوة مهجور… وزيت قنديل المساء مرهون
لطلعةِ الشمس التالية”
صوتها الدافيء المنبعث بوتيرة هادئة، يحول بيني وبين اللحاق بأكشاك الوجبات السريعة المتناثرة على نواصي الازقة ككل مرّة، كل المحال الصغيرة تغلق أبوابها ايضا لتبثني وحشتها الثقيلة، أرتد وحيدا اتبع سيل الضوء تحت فانوس نافذتي، يحتويني مدخل الزقاق الفاصل بيننا، أتجرأ للمرة الاولى وأطرق باب حجرتها المجاورة، تأسرني الدهشة…، 
حجرة شرقيّة صغيرة تعبق بكل هذا السحر! تحوي مجلساً “مغربيا” يتسع لشخصين، تناثرت عليه وسائد مزخرفة بمفردات تراثية، بساط عربي وستارة وحيدة داكنة، مصباح تراثي تدلى من السقف لينثر ضوءه الخافت فوق جدران مطلية بالازرق الملكي، وأخرى مطعمة “بالأرابيسك”، نحاسيات مثبتة عليها وأخرى موزعة بانتظام بين الزوايا. 
ولم أمكث طويلا، تدفق الليل من شرفة مشرعة على قمر باريسي خجول، أفضت لي – ساهمة- بأن نجمتها الوحيدة، الضائعة هنا… بانتظاره ليكتمل، ليهب لها الضوء باعتدال ومن خلال رغبات كونية، بلا غواية.
ألفتُ عاداتي الجديدة…، وأنا أترك خلفي أرصفة بيع التذكارات الباريسية والدكاكين وأكشاك الكتب وأروقة المقاهي على ضفاف “نهر السين” كل مساء، لتحتويني ساحة الكاتدرائية في قلب النهر على جزيرة “إيل دو لا سيت” … يجذبني النغم الشرقي لآلة “العود”، وعذوبة الصوت بلكنته العربية الفصحى، وقعهما يتجدد كأول مرّة التقيتها فيها، في الركن المعتاد يتجمهر البعض من حولها لوقت أطول في الاستماع والبعض الآخر يتأهب، وحين يفتقد الجميع لقبّعة النقود، كان كل واحد منهم يضع لها وردة أو زهرة على كتف الكرسي أو حافة الركن قبل أن يمضي، انتظر حتى يخلو المكان منهم تماما لأحتفي بظلّ ابتسامة ساحرة، تجمع غلّة النهار في باقات ورقيّة ثم تدفعني باصرار لنقصد الجسر، محطتنا الأخيرة. 
قالت: ربما لا تعلم بأنكَ العربي الوحيد الذي جذبه “العود” يوما إلى هنا! 
ثم استدارت تودع الشمس في شرود، ولم تكترث لردي، واصلتْ باهتمام: يؤرقني البحث عن وسيلة ما، لنقل عدوى تعلقي بهذا “العود” للآخرين، سكتت، ثم استدارت نحوي: وربما تتسع الفرص وقتها لأعثرعلى نجمتي . 
على جسر “ميرابو” … قبيل منتصف الليل بقليل، تطوقني بباقات من أزهار “المارغريت” وحدها، لتغمس ما تبقى من غلال الورد في صفحة النهر، قبل أن تنثرها هناك وتمضي.
ولم يكتمل بها الوقت، حين طوتها الأيام… والشهور، تماما مثلما طوَت ذات يوم أنفاس حجرتها الشرقية وأودعتها حقائب الرحيل، أذكر أنها أفضتْ وبكل برود: الدائرة (19) … يفترض بي أن أكون قريبة من “معهد الموسيقى الشرقية”… عملي الجديد. 
– سيفرغ “الحي اللاتيني” من كل شيء بعد رحيلكِ عنه، قلتُ هذا وأنا ارى الضيق يتوعد أيامي المقبلة…
ثم القيتُ بما يجول في صدري دفعة واحدة : ربما احببتكِ أكثر مما يجب…!
– لا تدفع بقلبكَ نحو عواصف الغربة كي لا تظلم به غيركَ، ورود الغرباء التي يهبونها لنا عن طيب خاطر، قد تشعل الرماد، ولكنها لن تضيء لنا نجمة في هذه السماء!
وصارت حكايا المتعبين نزهة مسائية، تزدحم بها الطرقات ثم تنتهي تحت نافذتي، تتسلل منها خفيه، باقات زهر “المارغريت” تلك التي غرَسَتْها على أرفف غرفتي هناك… نبتت على ضلع الجدار هنا، تسلقته، تعربشت على حلق النافذة الوحيدة، ثم طوقتها بالصرير، الليلة ومن خلال نافذتي الشرق أوسطية، حيث النجوم طفح شحيح يرشق جلد السماء الداكنة بالبثور، لمحتُ نجمتها الوحيدة وهي تصحو في كسل، بعد أن تدثّرت باحضان قمر باريسي خجول، لمحتُها تتسلل، لتُطفيء السراج عن شرفته ثم تغادر…! 
نجمات أخريات، كثر… رأيتهن يسبحن في فضاء عزلتهن، يخرجن من بين ركام المجرّات، يتسابقن لرجم قمر أنهكته الغواية، كي يعتدل، أو ليهب الضوء بلا رغبات كونيّه… 
وحين تَعِبْنَ، استفاق …فأغلق دونهن نافذتي ورحل.
_________________________________
*قاص من الأردن

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *