د.جمال الشلبي: المشروع النهضوي العربي فكرة لا تموت


حاوره: حسين نشوان*

 يرى الباحث والأكاديمي الأردني د.جمال الشلبي أن الدولة القطْرية العربية تواجه طريقين لا ثالث لهما، إما الانهيار والتفكك، أو القيام بالإصلاح الحقيقي والجاد.
ويقول صاحب كتاب «الأردن: ثوار بلا ثورة»، إن المثقف العربي لم يجد أمامه في ظل حالة الاستبداد العربي سوى ثلاث طرق يمارس من خلالها طقوسه الفكرية والثقافية والمعرفية: فهناك المثقف المهرج، والمثقف الصامت، والمثقف العضوي.. لكن كثيراً من المثقفين سقطوا في ظل ما يسمى «الربيع العربي».
ولا يتردد الشلبي في اتخاذ موقف واضح مما يسمى «الربيع العربي»، مستشهداً بأحداث من التاريخ، ووقائع راهنة، تؤكد أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن «الربيع» ليس «ربيعاً»، وأن الأمر لا يتعدى تنفيذ المخطط الغربي في إطار ما سُمّي «الفوضى الخلاّقة».
تالياً حوار مع الشلبي الذي فاز مؤخراً بجائزة عبدالحميد شومان للباحثين العرب (في مجال الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية والإدارية)، وكان فاز قبلها بجائزة اليونسكو-الشارقة للثقافة العربية (2006). 

• ماذا بعد «الربيع العربي»؟ وكيف يمكن قراءة المشهد الفكري في ظل المشهد السياسي المعقد؟


– لست مؤمناً ولا مقتنعاً بما يسمى «الربيع العربي»، وقد عبرتُ عن هذا الموقف منذ بداية «التمرد العربي» في بداية العام 2011، لأنني أعتقد أن الطريقة التي انطلق منها في تونس، وأسلوب تعاطي الدول العظمى والإقليمية إزاءها -ربما ليس في الدقيقة الأولى- مثل الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبعض دول الخليج العربي وتركيا، كان موضع شك وريبة. 
هذا لا يعني أنه لم تكن في العالم العربي بذور التمرد حاضرة على نظم سياسية بالية؛ شرّدت الإنسان وانتهكت حقوقه، وسرقت الأمل من شعوبها منذ استقلال دولها في منتصف القرن العشرين الفائت. لكن كل ذلك، لا يعطيي التبرير كمواطن أو إنسان أن أُسقط الدولة ومشروعها وفكرتها، بخاصة أن النتائج كانت كارثية على جميع الصعد.
اليوم نرى جسداً عربياً من الدول والمجتمعات مغمورة بالدماء والدمار، والقتل لكل ما هو حي بحجة «الحرية والحقوق»: أيّ حرية تبرر ما قمنا به؟ أين قادة هذه الثورات الآن -هذا إذا كان لها قيادات- ألم يكن يجدر بهم أن يفكروا بـ «ماذا بعد إسقاط الأنظمة»؟ أم إن المهم إسقاط النظام فقط؟! ألم يكن حرياً بهم السعي للإصلاح بدل «الثورة الكاذبة»؟ 
وفكرياً: هل يعقل أن يقع المفكر والمواطن والإنسان رهين الاختيار بين أنظمة قمعية جاثمة على صدورنا جميعاً، وبين منظمات تكفيرية إرهابية تدّعي القدسية وامتلاكها الحقيقة المطلقة؟ 
سياسياً، في نهاية المطاف، من المستفيد من كل ما جرى وما يجرى في العالم العربي؟ أليست «إسرائيل» والغرب بشقيه الأوروبي والأميركي؟

• كأني بك تشير إلى فكرة «الفوضى الخلاّقة»؟


– صحيح، ولكن هذه الفكرة «الملعونة» لم تكن لتجد طريقها للتنفيذ إلا بسبب وجود «تربة خصبة» لتنمو بها؛ غياب الديمقراطية وما تمثله من فرص للحرية والمساواة والعدالة، فقر مدقع يدب بقوة في مجتمعاتنا العربية بما نسبته 30-35%، وبطالة تزيد على 17%، وأمية قاتلة تسمم شعوبنا من المحيط إلى الخليج بنسبة تزيد على 19%، وصراع طبقي واضح ليس بين مواطني الدولة الواحدة وأحيائها التي تعكس ذلك، بل بين الدول العربية في ما بينها: ما العلاقة بين اليمن والصومال وجيبوتي وقطر أو البحرين السعودية؟
لا شك أن كل هذه المعلومات لدى صاحب القرار الغربي وليس العربي –للأسف-، وبناءً عليه عبّرت السيدة كونداليزا رايس في العام 2006 عن هذه الرغبة في التغيير، ولكن بما يخدم المصالح الغربية ونفوذها. وتم الاستعداد لذلك عبر برامج أُطلق عليها «برامج إصلاحية» مثل: تأهيل بعض الشباب في شرق أوروبا، وإنشاء محطات فضائية تدعي سعيها لتسليط الضوء على الفساد والمطالبة بالحريات والحقوق مثل «الجزيرة» و»العربية» وما على شاكلتهما، وإنشاء ما يسمى «منظمات المجتع المدني» من أجل المساعدة على دمقرطة المجتمع والدولة، في حين أنها -في أغلبها- ليست سوا عين على الدولة والمجتع، ولا تقدم إلا خدمات للدول الكبرى التي تستحوذ على حصة الأسد في إدارتها. وقد أثبتت الأيام والتجارب أن المستفيد الأول والأخير من هذه المنظمات هم أصحابها الذين أصبحوا بفضلها رجال أعمال ونفوذ في مجتمعاتهم!

• هل يمكن فهم بروز ثقافة العنف وفق مظاهر التاريخ العربي؟ وهل هو عنف ذاتي أم خارجي؟ وهل يمكن مقايسة ما يجري وفق مرحلة التاريخ الإنساني الذي جرى في أوروبا قبل النهضة؟


– للأسف الشديد، إن كتب التاريخ لدينا مليئة بالمغالطات والمبالغات السلبية والإيجابية إزاء أنفسنا. ومن النادر أن تلمح أيّ إشارة إلى أعمال عنف وقتل شابت حياتنا الاجتماعية والسياسية؛ وكأن أمتنا العربية كانت تعيش في مجتمع ملائكي لم تسقط منه أي نقطة دم، أو يسقط فيها أي جثة، وهذا غير صحيح البته!
الواقع يقول إن الصراع على السلطة كان مكلفاً على الأمة منذ الاختلاف على الخلافة بين الخليفة علي بن أبي طالب ومنافسيه أبو بكر وعمر بن الخطاب، وما معارك الجمل والصفين إلا ارتدادات لهذا الصراع السياسي الذي أُلبس غطاءً دينياً. 
حتى في ظل الدولة الأموية، نعرف تماماً أن «السيف» كان الفيصل في الصراع على السلطة، ناهيك عن كيفية تبرير العباسيين لكرههم للأمويين بنبش القبور، وحرق العظام. وهكذا، نجد أن تاريخنا مليء بالصراعات الدموية القاتلة التي لم تُقرأ بشكل جدي من جانب النخب الفكرة أو السياسة لكي لا تقع فيها مرة أخرى. ومن المؤكد أن الغرب يغذّي الصراعات الاجتماعية والسياسية في بلادنا ليحقق أهدافه واستراتيجيته بعيدة المدى في عالمنا العربي الفقير في كل شي سوى القادة الحكماء!
وربما تكون هذه المرحلة المظلمة مهمة في تاريخ الشعوب، كما حدث في النهضة الأوربية بين القرنين الثالث عشر والسابع عشر لكي تحقق نهضتها وتؤكد تفوّق العقل على السليقة البشرية القاتلة، وهذا ما نتأمله في نهاية هذا النفق المظلم والخطير في تاريخ أمتنا العربية الجريحة حالياً.

• السؤال الذي يطرح نفسه: أين المثقغ العربي من هذا المشهد السياسي؟وكيف يمكن فهم العلاقة بين المثقف والسياسي؟

– في ظل حالة الاستبداد العربي، لم يجد المثقف العربي أمامه سوى ثلاث طرق يمارس من خلالها طقوسه الفكرية والثقافية والمعرفية؛ فهناك «المثقف المهرج» الذي يرقص في حضرة السلطة، ومبرراً لها طول مخالبها، ومغنّياً مواويلها، وكل ذلك بأجر: سلطة ثقافية تدور في ركب السلطة السياسة. 
أما الصنف الثاني فهو «المثقف الصامت» الذي اختار أن يغلق فمه، متجهاً نحو القضايا العامة الفضفاضة، التي لا تمس رأس الهرم للسلطة، وبالتالي، يضمن عدم تعرضه للأذى والملاحقتين المادية والمعنوية، حتى ولو خسر مجتمعه الذي كان ينتظر منه الكثير بصفته مثقفاً. 
أما الصنف الثالث، فهو ذاك المثقف الذي أطلق عليه المثقفُ والمناضلُ الإيطالي « غرامشي»: «المثقفَ العضوي»، فهو إما في السجن لمواقفه الشجاعة والصادقة، وإما يعيش حالة الانعزال الاختياري المؤقت أو الدائم، أو الهجرة لخارج البلاد؛ وهذا شكل من الانتحار البطيء، بعكس أولئك الذين يختارون أحياناً كثيرة «الانتحار المباشر» كما عبّر كتاب المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري «انتحار المثقفين العرب».
في ظل ما يسمى «الربيع العربي»، كثير من المثقفين سقطوا في فخ هذا «لربيع»، لأن المثقف العربي انحاز من جديد للسلطة الجديدة بعدما كان مؤيداً للسلطة القديمة، وبالتالي، عاد هذا «المثقف المتبدل» للانحياز لسلطة تمارس طقوس السلطة القديمة نفسها، بالقتل والتدمير للإنسان وأحلامه وطموحاته؛ ويبقى المثقف العربي من دون تأثير سوى على نفسه!


• هل نستطيع أن نتحدث عن صراع بين المثقف والفقيه؟ وهل هو صراع سياسي أم فكري؟ وما نتائجه؟


– لا يوجد صراع بين المثقف والفقيه، بل يمكن القول إن هناك تقاسماً للأدوار، وبخاصة في ظل ما يسمى «الربيع العربي»، لأن هذا الحراك العارم والمفاجئ كان بحاجة لكلا الشخصين: المثقف لكي يبرر ما يسمى «الثورة» وفقاً لما يرون، وربما يمثل ذلك برهان غليون الأستاذ الجامعي في «السوربون»، وصاحب الإرث الكبير في الإنتاج الثقافي المتجه نحو الديمقراطية والحرية ومحاربة التبعية. أما الفقيه فيعطي للحدث السياسي رؤية شرعية دينية تأتي من السماء تقود الحدث للحقيقة، الأمر الذي تحقق من جانب الدعاة للنزول للشوارع والمطالبة بالاعتصامات والمظاهرات، بل والمطالب بإسقاط الأنظمة كما حدث مع الشيخ يوسف القرضاوي الذي وصل به الأمر بالمطالبة بقتل القذافي، والعصيان العسكري والمدني في سورية، وقتل المتعاملين مع النظام سواء كانوا مدنيين أو عسكريين.
وهكذا، نجد أن النوعين من المثقفيين وقفا جنباً إلى جنب لتحقيق الثورة؛ الاختلاف بينهما في كيفية توزيع الغنائم الثقافية والمادية، وإن كان المثقف الديني أصبح «نجماً» أكثر، ربما لأن مجتمعاتنا العربية تتسم بنزعتها الدينية أكثر من نزعتها نحو المثقف الذي تنقصه هذه الشرعية!
وبالنسبة للنتائج قصيرة المدة، من الواضح أن هناك «نجمنة» للمثقف بشقّيه الفكري والديني من جانب وسائل الإعلام المختلفة، وبخاصة الكبيرة منها («الجزيرة» و»العربية» و»الميادين»)، ولكن على المديين المتوسط والبعيد، هناك سقوط كامل وعميق للطرفين: فم يعد هناك ثقة بعد اليوم بالمثقف لأنه ساهم بأفكاره وكلماته وأشعاره وتبريراته وصوره الملتقَطَة، في سقوط الأمة تحت حجة تحقيق الثورة، ويمكن أن نجد هذا النموذج مع عزمي بشارة ومن يدور حوله، وهناك سقوط مدوٍّ لرجل الدين الذي انحاز للسلطة؛ أيّ سلطة وكل سلطة، على حساب الأمة وعلى حساب الحقيقة والدين، وهذا أمر ستكون له نتائج وخيمة على الأمد البعيد على الأمة ومسقبلها.

وماذا عن فوضى الاجتهاد الفقهي في ظل غياب المؤسسة وانعكاساتها على العقل العربي؟

– في العالم الغربي تسيطر الفلسفة على دفة إدارة الفكر والعقل، وفي عالمنا العربي يسيطر -وبشكل واضح وجلي- رجل الدين على المشهد الاجتماعي، وإلى حد ما على المشهد السياسي، بخاصة في ظل الأزمات التي تعيشها الأمة. 
تاريخياً، كانت السلطة الدينية وسيلة وأداة لتحقيق أهداف السلطة الزمنية (السياسية) عبر وزارات الأوقاف التي تعدّ أحد أذرع السلطة الزمنية التي تقوم بدور التعبير وتحقيق الاستراتيجية للدولة والسلطة تحت غطاء ديني. 
في ظل العولمة، لم يعد الفقية-المثقف بحاجة لموافقة هذه السلطات الدينية ليعبّر عن فكره وأيديولوجيته، بل يستطيع عبر وسائل الإعلام الحديثة، من محطات فضائية ومواقع الكترونية وصفحات التواصل الاجتماعي، أن يعبّر عما في خلده من دون رقيب أو حسيب وبشكل واسع وسريع وغير مكلف. 
هكذا، تولّد لدينا الكثير من «فقهاء الفضائيات» الذين أصبح لديهم دور تجاوزَ دور المثقفين والمفكرين التقليديين والفقهاء التابعين للسلطة، لذلك أصبح صراع الفتاوى حول صدقية فتوى أو شرعيتها؛ وهكذا دخل العالم العربي في نقاشات وجدالات بيزنطية ساهمت الأنظمة في إيجادها بسبب إغفالها دورَ الحرية في صناعة الحوار والنقاش البنّاء بشكل انسيابي؛ الخاسر الأكبر من كل ذلك هو الإنسان العربي، وعقله المشتت ببين تيارات متصارعة فكرياً ومذهبياً وإنسانياً.

• هل نستطيع القول إن هذا هو زمن موت الأيديولوجيات والتاريخ والإنسان؟ وما مرجعيات فكرة الموت للمفاهيم؟


– الأيديولوجيات لا تموت، قد تغيب وقد تُحجب، لكنها تبقى موجودة لأنها ليست إلا رموزاً عقلية وغير موجود إلا في داخل هذا الحيز الصغير من الجسد، ويمكن استحضارها عندما يريد الإنسان ذلك. 
لهذا، من الصعب قبول فكرة نهاية الأيديولوجيات والتاريخ كما نظّر لها كارل ماركس في القرن التاسع عشر، أو فرانسيس فوكاياما في حقبة التسعينات من القرن الماضي، والسبب هو أن الأيديولويجات مرتبطة بالإنسان ذاته، وبالتالي، ما دام الإنسان حياً على الأرض فإنه سيولد أيديولوجيات جديدة تسير على قطار الحياة لتترك أثراً في التاريخ والجغرافيا. 
صحيح أن هناك أفولاً لبعض المفاهيم وبروز بعضها الآخر، وصحيح أن هناك قوى تضْعف مثل بعض الدول الأوروبية المعروفة تاريخياً بقوتها وهيمنة أيديولوجياتها (فرنسا، وبريطانيا)، وحتى الولايات المتحدة الأميركية؛ وتصعد دول أخرى مثل دول البريكس (الهند، والصين، وروسيا، وجنوب إفريقيا، والبرازيل)، إلا أن المحرك الاقتصادي أصبح هو الأساس لقيام الدول وقوتها، وليس الأيديولوجيا البحتة، وبالتالي، الإنسان باقٍ بأيديولوجية أو من دونها.

• بين صراع الهويات وبروز الإثنيات، كيف يمكن الركون للهوية الجامعة؟


– لقد أدى انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين في العام 1989، إلى فتح ملف «الأقليات والهويات» في العالم بعدما حاولت الأيديولوجيات تجميد هذا الملف أو إلغاءه. 
ويمثل الاتحاد السوفياتي وتفككه إلى 15 دولة دليلاً على أنه لا يمكن اختصار الهويات والإثنيات المختلفة بدولة واحدة وهوية واحدة وفكرة واحدة، وكذلك الحال بالنسبة ليوغسلافيا السابقة التي تشظّت إلى 5 كيانات عرقية ودينية ولغوية مختلفة. 
هذا التشظي الذي أصاب أوروبا والعالم في حقبة التسعينات، عاد ليطرق باب العالم العربي من باب ما يسمى «الربيع العربي». وهكذا، فوجئنا بحجم الاحتقان العرقي والديني في بلادنا (سورية، والعراق، ومصر، والسودان)، ورأينا كيف يهجَّر المسيحيون والأزيديون والأكراد وغيرهم. بالمقابل، هناك رغبة لدى بعض هذه الجماعات بالاستقلال والتحرر من وطأة الدولة الوطنية العربية التي فشلت في إدارة الاختلافات وصهْر الجميع في بوتقة المواطنة، ودولة القانون والمؤسسات، وقيم العدالة والحرية والمساواة، وهذه القيم الأخيرة هي مفاتيح الحل الممكن والمتاح، ولنا في المجتعات التعددية في كندا، وهولندا، والولايات المتحدة وأستراليا، نماذج حية لنجاح فكرة الانصهار في دولة متعددة الهويات والأعراق والأديان. 
ربما نحتاج في العالم العربي إلى «إناء» أكبر من الدولة، يمكنه استيعاب كل هذه الاختلافات الموجودة في عالمنا، ويمكن أن يكون ذلك عبر الأمة العربية الواحدة، ومشروعها الوحدوي والإنساني العميق.

بعد قرن من الزمن، لم يعد أحد يتحدث عن «المشروع النهضوي العربي»: أعقْمٌ في العقل؟

– المشروع النهضوي العربي فكرة قديمة متجددة باستمرار؛ قد تنمو وتكبر وقد تضعف وتتراجع، لكنها لا يمكن أن تموت لأنها فكرة، والفكر لا يموت. الذي يضعف هو النظام الذي يعبّر عن هذه الفكرة، وهذا ما حدث مع النظام المصري في ظل الزعيم الراحل جمال عبد الناصر الذي أراد أن يجعل من دولته ونظامه تجسيداً لهذا المشروع النضهوي وتعبيراً عنه، ولكن، وللأسف الشديد، وُوجه هذا المشروع بتحالف أعدائه في الداخل والخارج من ناحية، وبضعف الانضباط الفكري والتنظيمي داخل معسكره السياسي من ناحية أخرى.
بالنسبة للعقل العربي، فهو سياسياً غير موجود، حتى لا أتساءل مثل الصديق المفكر هشام غصيب: «هل هناك عقل عربي؟».
وربما ساهم المال والإعلام العربيان بشكل كبير في تشويه العروبة والقومية وفكرها تحت حجج الفشل الذريع الذي أصابها، بخاصة بعد هزيمة 1967، وانتكاسة مفاهيم حقوق الإنسان والحريات العامة في الدول المؤمنة بهذا المشروع. 
مع ذلك، أنا مؤمن بأن ما يسمى «الربيع العربي»، وما صاحبه من انهيار الدول القطْرية الهشة أصلاً أو تحويلها إلى دول فاشلة، إضافة إلى ولادات تنظيمات تكفيرية وإرهابية دموية، كل ذلك قد يسهم في إعادة وهج الفكرة القومية ومشروعها السياسي بقناعة أكبر، وحس إنساني أعمق، ورؤية واقعية منطقية نحول المستقبل.
وقد أحسست بهذا الأمل بعد قراءة كتاب المثقف الشركسي العربي محمد أزوقه وكتابه الرائع «بدون طلقة رصاصة واحدة» المنشور في العام 2014.

• من الواضح أن الدولة القطْرية تعاني من حالة تفكك وفشل: إلى أين تتجه بناءات الدولة؟
– تواجه الدولة القطْرية العربية طريقين لا ثالث لهما، إما الانهيار والتفكك كما حصل مع مجموعة من الدول العربية التي حاصرها ما يسمى «الربيع العربي»، مثل ليبيا، واليمن، وقبلهما السودان الذي انقسم إلى شمال وجنوب، والعراق الذي يحاول المحافظة على وحدته من دون جدوى؛ فالدولة الكردية شبه جاهزة لإعلان استقلالها، وتنتظر شهادة الولادة الدولية، وسورية تواجه أعتى تحالف دولي لإسقاطها من معادلة السلم والحرب في المنطقة تحت ذرائع لم تعد تنطلي على أحد حول حقوق الإنسان والديمقراطية وذرائع أخرى لم يعد لها معنى سوى التفكك والتفتت. 
وبالنسبة لمصر وتونس، سيستمرون في المعاناة من مواجهة التيارات التكفيرية الإرهابية، الأمر الذي قد يحرفهما عن تحقيق التنمية والقوة السياسية المطلوبة. 
والطريق الثاني هو القيام بالإصلاح الحقيقي والجاد بتحقيق العدالة الاجتماعية، والسعي لإيجاد حياة سياسية حقيقية يكون عمودها الفقري أحزابا قائمة على أفكار وأيديولوجيات تخدم الدولة والأمة، وأعتقد أن الأردن والمغرب يمكنهما أن يذهبا في هذا الاتجاه، وفُرَص نجاحهما أكبر من سواهما لطبيعة النظام المنفتحة نسبياً في كل منهما. 
وقد تتأخر بعض دول الخيلج في تحقيق الإصلاحات المطلوبة لأسباب مثل: الانقسام الحاد الموجود بين عدد من دولها، ووجود صراعات على الحكم بسب كبر سنّ بعض زعمائها، ناهيك عن فتح بعض دول الخليج جبهةً فكرية وسياسية وحتى عسكرية لمواجهة الإخوان المسلمين، الأمر الذي قد يؤخر قرارها السياسي في الإصلاح المطلوب والضروري لبقائها واستمرارها. 

• ما مستقبل الإسلام السياسي في ظل التحولات العولمية والقطب الواحد؟



– من الصعوبة التنبؤ بمستقبل الإسلام السياسي ككل؛ فالإسلام السياسي منقسم بين إسلام سياسي جهادي حركي يستخدم العنف للوصول إلى أهدافه مثل «القاعدة» (الأم)، وجبهة النصرة، وداعش، وهذه ستواجه بقوة وبعنف موازٍ لعنفها من جانب الدول جميعاً، ورفض رسمي يسهم برفض شعبي حتى ولو كان هناك تعاطف هنا أو هناك لأسباب سياسية أو اقتصادية.
وبالنسبة لحركات الإسلام السياسي (الوسطي)، مثل جماعة الإخوان المسلمين، فستعاني من الرفض في المشاركة السياسية -إن وُجدت حقاً- والضعف الوجودي، ولكنها لن تختفي تماماً؛ فهي منغرسة في ثنايا المجتمع بفضل دعم الدول القطْرية لها في الخسمينيات والستينيات من القرن المنصرم، لمواجهة التيارات الاشتراكية، والناصرية، والبعثية. وبالتالي، من الواضح أن هذا التيار بدأ يفقد توزانه بشكل واضح، وربما تبرهن الانتخابات التونسية التي جرت مؤخراً على صدقية هذا المنطق. 
على المستوى الدولي، يمكن القول إن الإسلام السياسي برز مع وصول آية الله الخميني إلى الحكم بثورة إسلامية في العام 1979، وما صاحب ذلك من اجتياح الاتحاد السوفياتي السابق لأفغانستان وقيام الولايات المتحدة الأميركية بتجييش الدول العربية وشبابها لمجابهة «الخطر الشيوعي الأحمر»، الأمر الذي ساهم في بروز «القاعدة» بعد 20 عاما؛ أي في العام 1998. 
وهكذا، برز الإسلام السياسي كفاعل سياسي على الساحة الدولية، بخاصة بعد 11 أيلول 2001 وما صاحب ذلك من تشكل تكتلات دولية سياسية وقانونية لمواجهة «الإرهاب» القادم من الإسلام السياسي. 
وقد جاء «الربيع العربي» في العام 2011 ليبرز بعض التيارات الإسلامية على السطح في مصر وتونس وليبيا، بيد أن عدم وجود «خبرة سياسية» لدى هذه التيارات ساهم في تضييعها السلطة، وجعلها عرضة للنقد والهجوم، ما أدى إلى سقوطها كما حدث في مصر مع محمد مرسي، أو في ليبيا، وان كان التيار برز كتيار ذكي ومرن في تونس بقيادة راشد الغنوشي الذي يسيطر على جبهة النهضة الإسلامية، تلك التي سقطت نوعاً ما في الانتخابات الأخيرة.
باختصار، سيشهد العالم العربي أفول «نجومية» التيارات الإسلامية سياسياً وبالتدريج، مع وجود بعض الاستثناءات المرتبطة بحركات التحرر والمقاومة كحزب الله، وحماس، والجهاد الإسلامي. 

• كيف يمكن قراءة العلاقة العربية مع الغرب بعد أحداث نيويورك 11 أيلول؟ 


– لقد شنت الولايات المتحدة الأميركية حربين مدمرتين في أفغانتسان (2002)، والعراق (2003)، وقد كلفت حروبها بحسب دراسة أجرتها جامعة هارفارد 6 ترليون دولار، الأمر الذي انعكس على الدين العام لهذا البلد الذي وصل إلى 17 تريلون دولار.
هكذا، نلاحظ أن حروب أميركا تتجه نحو العالم العربي والإسلامي، الأمر الذي ساهم في زيادة بروز الجماعات الدينية المتطرفة تارة للدفاع عن الأمة أمام هذا العدو المساند لإسرائيل، وتارة من أجل بناء أمة وخلافة إسلامية تستطيع أن تفعل ما يفعله الغرب. 
هنا يجب التمييز بين الموقف الرسمي للدول العربية من الغرب بشقيه الأميركي والأوروبي، وبين الكثير من الشعوب التي ترى في أميركا من الناحية السياسية «عدواً لدوداً» لدورها في تقوية إسرائيل ومساعدتها في احتلال الأرض العربية، وبناء المستوطنات، ودعمها مالياً ومعنوياً. 
وجاءت فكرة «الحرب على الإرهاب» لتزيد الطين بلة في علاقة الدول المؤيدة لأميركا في حربها على الإرهاب، كي لا نقول التابعة، بوقوع «الربيع العربي» كتنبؤ توقَّعته أميركا للعالم العربي تحت شعار» الفوضى الخلاقة»؛ ما يعنى سياسياً تخلي الغرب عن حلفائه السياسيين مثل: محمد حسنى مبارك، وزين العابدين بن علي، وعلي عبد الله صالح.. وربما غيرهم في المستقبل!
إنها علاقة غير متوازنة قائمة على التبعية، وعلى انقسامها بين الرسمي والشعبي، والمصالح المتحركة باستمرار لصالح الغرب بشقيه الأميركي والأوروبي. وجاء «الربيع العربي» ليفضح هشاشة العلاقات العربية مع الغرب وضعفها؛ فالغرب قادر على بيع حلفائه بسهولة ولمن يدفع أكثر، وهذا ما حدث في مصر، واليمن.

بالمناسبة، أين وصل قطار الحوار العربي الأوروبي؟

– قطار العلاقة العربية الأوروبية، متوقف في محطة «الاتحاد من أجل المتوسط» الذي بادر لتأسيسه رئيس فرنسا السابق نيكولا ساركوزي في العام 2008، والسبب ببساطية يعود إلى سقوط ركائزه الأساسية: الرئيس المصري حسني مبارك، والرئيس التونسي زين العابدين بين علي، وخسارة ساركوزي للانتخابات الرئاسية في فرنسا لصالح فرانسوا هولاند في العام 2012؛ لقد كان هذا المشروع مشروعاً «ساركوزياً» أكثر منه مشروعاً فرنسياً أو أوروبياً، بل يمكن القول إن بعض الدول كانت تتحفظ على قيامه (مثل: ألمانيا وبريطانيا) لأنها رأت فيه «حصاناً أورومتوسطياً» يريد فرنسيٌّ أن يمتطيه وحده.
على العموم، فإن «الحوار العربي الأوروبي» كان وباستمرار مبادرات أوروبية تجاه العرب وليس العكس، وبالتالي، هم الذين يحددون طبيعته وأهدافه وغاياته، وساعة الصفر لتفكيكه وإيقافه. وقد وجدنا ذلك بالحوار العربي الأوروبي الذي انطلق في العام 1973، والذي كان عبارة عن «حوار طرشان» بين من يريد المصالح الاقصادية (النفط والأسواق) بالنسبة لأوروبا، وبين من يريد دعماً سياسياً أوروبياً للقضية الفلسطينية بالنسبة للعرب. وقد توقف هذا المشروع بعد الحرب العراقية الإيرانية التي دامت 8 سنوات لينطلق من جديد تحت اسم جديد وبمبادرة أوروبية جديده («مؤتمر برشلونة» في العام 1995)، وكان يستهدف دمج دول المنطقة بما فيها إسرائيل وتركيا، لينهي بذلك أي فكرة مشروع توحد عربي. 
الملاحَظ أن المبادرات الأوروبية تكون بعد الأزمات التي تؤثر على مصالحها؛ فالأولى كانت بعد الصدمة النفطية، والثانية بعد غزو صدام حسين للكويت في العام 1991. وهكذا. ناهيك أيضاً عن تقاطيع المشاريع الغربية لاستغلال المنطقة؛ ولذلك نحن أمام مشروعين للهيمنة على العالم العربي، أحدهما قادم من راء الأطلسي تحت شعار «الشرق الأوسط الكبير والجديد» وتقوده أميركا، وآخر يوازيه وينافسه هو» الاتحاد من أجل المتوسط». والسؤال: أين العرب من كل هذه المشاريع؟ 

• ماذا عن البحث العلمي في الوطن العربي عموماً، والأردن خصوصاً؟


– لو كان لدينا بحث علمي» حقيقي» لما وصلنا إلى حالة التخلف والجهل والتفكك التي تعيشها مجمل دولنا العربية. إسرائيل تكرس ما نسبته 5% من دخلها للبحث العلمي، في حين أن العالم العربي يكرس 0,5% فقط من دخله القومي لهذا الغرض، وقد انعكس ذلك على موقع كل من العرب وإسرائيل على الخريطة الأكاديمية العالمية في مجمل المعايير والمقايس؛ فمن بين 500 جامعة لا يوجد أي جامعة عربية، في حين أن هناك 7 جامعات إسرائيلية، رغم أن جامعاتها لا تزيد على 10 جامعات!
البحث العلمي ليس رغبة شخصية أو ترفاً مؤقتاً، بل هو سياسة واستراتيجية دولة وعلى أعلى المستويات؛ وهذا غير موجود للأسف في عالمنا العربي. الأردن كان من أفضل الدول العربية في التعليم والتعليم العالي والبحث العلمي قبل عقود، ولكن مع دخول البنك الدولي ومؤسسات المجتمع المدني على خط التعليم، بدأ التراجع والضعف. وقد زاد التراجع في ظل حالة الركود الإداري والمالي، وغياب الإرادة والإدارة السياسية من أجل إخراجه من هذا النفق المعتم: الدولة كلها على المحك إن لم يتم تدارك هذا الخطر القادم من التعليم والتعليم العالي والبحث العلمي.


* عن الرأي الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *