*شوقي بزيغ
المتابع لما يكتب عن الشعراء والفنانين والكتّاب الراحلين لا بد أن يلفته ذلك السيل المتدفق من المقالات والأعمدة والزوايا التي تشيد بهؤلاء لحظة رحيلهم، أو بعدها بفترة وجيزة . واللافت في الأمر أن الكثير من هؤلاء لا يظفرون في حياتهم بنزر قليل مما ظفروا به بعدها . لا بل إنني أعرف، ويعرف سواي بالطبع، أن بعض من امتدحوا الكاتب عند رحيله وأشادوا بمكانته الإبداعية المرموقة، هم أنفسهم من صوبوا باتجاهه، حيّاً، سهام النقد الجارح أو التجاهل المحبط . كأن شعار “مت لكي أمدحك” هو الشعار السائد والمعمول به لدى معظم المشتغلين بالصحافة الثقافية، باعتبار أن موت الكاتب يخرجه من ساحة المنافسة ويترك للأحياء فرصة احتلال المساحة التي أخلاها . ولعل الشاعر الراحل محمود درويش قد أشار غير مرة في قصائده إلى المفارقة المتمثلة بهجاء المبدع حيّاً وامتداحه عند رحيله، وهو القائل: “يريدونني ميتاً كي يقولوا/ لقد كان منّا وكان لنا” . وقد يكون امتداح الراحلين نوعاً من الشعور بالذنب إزاء تقصير معظمنا عن إيفائهم حقهم وهم على قيد الحياة، أو نوعاً من الالتزام الأخلاقي بتشييعهم إلى مثواهم الأخير بما يليق من كلمات الرثاء، على القاعدة المعروفة “اذكروا محاسن موتاكم” .
لن يكون الكاتب والشاعر اللبناني جورج جرداق، الذي رحل مؤخراً، استثناء من هذه القاعدة . فما إن أغمض الكاتب عينيه حتى هرع الجميع لامتداحه واعتباره علامة فارقة في الثقافة اللبنانية المعاصرة، تماماً كما رأوا سواه من الراحلين . على أنني في هذا المقام لن أذهب إلى الخانة المقابلة التي تغمط الراحل حقه من التقدير، كردة فعل احتجاجية على تسطيح النقد وإخضاعه لمعايير عاطفية وشخصية بعيدة عن الموضوعية والقراءة العميقة، دون أن يعني ذلك بأي حال الموافقة على اعتبار الراحل، وبخاصة في الجانب الشعري، قامة عالية من قامات الشعر العربي الكلاسيكي .
لا شك في أن جورج جرداق امتلك منذ نشأته موهبة حقيقية وذكاء لماحاً ونهماً للقراءة والاطلاع . وقد تجلت موهبته تلك في العديد من المجالات التي توزعت اهتماماته بعد ذلك، ومن بينها الصحافة والفكر والشعر والمسرح الغنائي والنقد على أنواعه والذين أعجبوا بجرداق لم يتفقوا على مصدر واحد لإعجابهم به .
كان الشعر، في نظري على الأقل، الحلقة الأضعف في نتاج جورج جرداق الموزع بين الفكر والفن والنقد وسوى ذلك . ليس فقط لأنه لم ينفتح على التغيرات الدراماتيكية المتسارعة التي نقلت الشعر العربي من طور إلى طور، بل لأنه لم ينقطع إلى تطوير تجربته الشعرية الكلاسيكية ودفعها بعيداً إلى الأمام كما فعل معاصروه من أمثال الأخطل الصغير والجواهري وبدوي الجبل وسعيد عقل وغيرهم . ومما يبعث على الدهشة حقاً هو أن تكون شهرة جرداق مدينة للقصيدة الوحيدة التي ذاع صيتها على المستوى العربي، وهي قصيدة “هذه ليلتي” التي لم تكن لتحظى لولا صوت أم كلثوم وموسيقى محمد عبدالوهاب بما حظيت به من اهتمام منقطع النظير . فالقصيدة تلك لا تحمل جديداً على مستوى الشكل، حيث إن تبدل القوافي في مقاطعها ليس سوى تكرار عادي لما فعله شعراء المهجر وشعراء النهضة بوجه عام . واللغة في القصيدة عادية تماماً، كما هي الحال مع الصور التي لا تخترق المألوف ولا يتوافر فيها عنصر الابتكار والمباغتة . أما الأفكار التي تدور حولها القصيدة، والمتعلقة بالدعوة إلى اعتناق الحياة واستنفاد ملذاتها وأطايبها قبل حلول الظلام، فهي مستقاة من مناخات عمر الخيام وأبي نواس وسائر الأبيقوريين من الشعراء . وليس صدفة أن يشير جرداق إلى ذلك في أحد أبيات القصيدة: “هل في ليلتي خيال الندامى/والنواسي عانق الخياما” . ورغم ذلك فإنه من الظلم الفادح أن يختزل جورج جرداق في قصيدة عادية لم تكن لولا الشهرة الأسطورية لأم كلثوم لتلفت أحداً من القراء أو النقاد . ومن الظلم أن تكون صدفة لقاء الشاعر بالمطربة الشهيرة هي وحدها التي وفرت لاسمه هذا القدر من ذيوع الصيت . وهل كان جرداق، يشير إلى هذه المسألة بالذات في قوله “صدفة أهدت الوجود إلينا/ وأتاحت لقاءنا فالتقينا”؟ مع كل ما يحمله البيت الشعري من لبس في الخطاب، مقصود أو غير مقصود، بين حبيبته المجهولة والمطربة التي وفرت له سبل الخلود .
_______
*الخليج الثقافي