*قاسم محمد مجيد
ليس محاولة لسرد تاريخي لكن الكتابة عن الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير (12 ديسمبر/كانون الأول 1821- 8 مايو/آيار 1880) تشبه رحلة في حقل شاسع من المتناقضات ومثالا واضحا عن الشخصية المعقدة والقلقة, والساعية إلى الانفصال عن العالم الواقعي والمكوث الدائم في عالم يقترب كثيرا من حضن أمه، من طفل مدلل تعلم القراءة والكتابة في وقت متأخر إلى كاتب قصص قصيرة وهو الفتى ذو الخمسة عشر ربيعا إلى ضحية نوبات غثيان وهوس جنون لا تحميه من الزلات الصبيانية والمسالك المحفوفة بالمخاطر عندما اعترف بحبه إلى اليزا شيلسنجر، وهي زوجة صديق العائلة التي تعرف عليهما إثناء سفرات العائلة لأحد المنتجعات ! ودون هذا الحدث في مذكرات اسماها “مذكرات معتوه”.
ولكن الرحلة داخل ذاته متضخمة مما يعكس صورة العلاقة مع مجتمعه التي تبدو عسيرة حتى مع من عشقته حد الجنون الأديبة الفرنسية لويزا كولكيت التي تعرف عليها في لقاء جمعهما بالصدفة في مرسم فنان صديق لهما، ولأنها الرومانسية ومن الطراز الخاص! فقد ودعته إلى القطار الذاهب إلى باريس والدموع تنهمر بغزارة في تعارف لم يمض عليه ثمان وأربعون ساعة لكنه استمر ثماني سنوات.
ألهبت كولكيت مشاعر فلوبير واستعبدته بشبقها الجنسي رغم انه كان يقاوم ويكره هذه العبودية ويخشى من افتضاح هذه العلاقة وخصوصا من زوجها معلم الموسيقى!
لكنه مثل جداف سفينة حكمت عليه الإلهة بالعمل بلا هوادة فيكتب الى كولكيت في ليال صيف 1846: “كل ماله صله بالحياة يثير اشمئزازي كم أتمنى لو إنني لم أولد وان أموت”.
هذه التشاؤم يحمل نذير هزيمة داخلية لأنه كان يقلقه كم من الناس لهم القدرة على فهمه حتى يصرخ في إحدى رسائله لها “إن الذي على قيد الحياة الآن هو إنا, لا يفعل ألبته سوى التفرج على الذي هو في عداد الأموات”.
فلوبير الذي وصفه سارتر بأنه “إبله العائلة” ينقب في منجم الكلمة وخصوصا وهو عاكف على انجاز رواية “مدام بوفاري” التي تمثل إيذانا بميلاد الرواية الحديثة والتي قيل عنها إن فلوبير موجود في كل مكان وليس منظورا في أي مكان لكنه فاجأ الجميع عن معاناته في كتابتها “إني اكتب هذا الكتاب مثل رجل يضع على رؤوس أصابعه كرات من رصاص ويعزف على البيانو”.
وظل دائما يبحث عن الوحدة ويكره التجمعات والناس وهو يقف مشدوها إمام الصورة الفردوسية التي حملها في ذهنه عن الحب؟ يكتب إلى كولكيت “تسألينني عما عانيت وعما وصلت إليه؟ لن تعرفي عن ذلك شيئا قط .. لا أنت ولا الآخرون”.
لكن رسائلهما خرجت عن الصمت، ويترنح الحب في جولة صراع استخدمت فيها كولكيت كل أسلحتها وأعدت متطلبات معركة، أفشيت فيها أسرار تحكيها عنه في الصالونات الأدبية، وتتسارع الأحداث لينتهي هذا العشق وينفصل الاثنان لكن كولكيت لم تنتظر طويلا لتبدأ علاقة مع الشاعر دي موسيه.
فلوبير ورغم عشقه لكولكيت وهيامه بأخريات لكنه كان أسير ليزا شليسنجر، فنيران الحب بدأت تشتعل من جديد عندما توفي زوجها فأرسل لها رسالة خاطبها فيها يا حبي الوحيد الأبدي. كل تلك السنوات لم تبدل من حبه الجارف لاليزا ولكن هذا اللقاء جاء متأخرا حين لم يكن هو سوى ذلك الرجل البدين وهي تلك المرأة العجوز البيضاء الشعر فكتب عن ذلك اللقاء الحزين في روايته “التربية العاطفية”.
اقترن اسم فلوبير بروايته الواقعية “مدام بوفاري” التي ظهرت عام 1851 ومثلت للسينما وقد شاهدها عشاق السينما في بغداد منتصف السبعينيات.
________
*ميدل إيست أونلاين