«كسّارة الجوز» يطهّر «أبو ساعة» من آثامه


*عبد الحليم أبو دقر

( ثقافات )

صام “أبو ساعة” رمضان، واظب على الصلاة في المسجد، أحضر أجود التمور إلى المصلين ليفطروا عليها، وفي آخر يوم من أيام رمضان، وعند إعلان قاضي القضاة تمام الشهر الفضيل، وجد “أبو ساعة” نفسه أمام الخمارة القريبة من مسكنه، يرفع مع صاحبها باب الخمارة الحديدي الثقيل وغير المزيّت الذي لم يُرفع منذ 29 يوماً، أبدى الباب امتعاضا، وأطلق قرقعات، وأحرن، إلا أنه لم يصمد في النهاية أمام اندفاعة “أبو ساعة” وصاحب الخمارة، كان مع “أبو ساعة” صندوق مشروب فارغ أراد استبدال آخر غير فارغ به.
أصابت “أبو ساعة” حالة من الحزن الشديد على ما اقترفه من إثم، فانهال على كفيّه يأكل فيهما نادماً على ما فعل، كان يخاطب نفسه: “أنت تافه، لم تصمد، هزمتك الزجاجة الخضراء، بطحتك، كانت تعرف حقيقتك، فظلت تظهر لك حتى وأنت تصلي، يا حقير، لو أن أباك موجود لعرف كم حبة جوز تستحق أن تُكسر على رأسك من دون أن يهتم ببكائك، بولولتك.. إذا لم يبصق في وجهك، يدعس على رأسك، لن تحرّم المشروب الذي سيفضحك ويقضي عليك قريبا…”. هنا داهمت “أبو ساعة” فكرة أن يجد شخصاً يعاقبه بتكسير الجوز على رأسه كما كان يفعل أبوه حتى يتخلص من الخمرة إلى الأبد. 
في الساعات الأولى من صباح اليوم التالي خطر لـ”أبو ساعة” خاطر، أن اذهب إلى الحسبة وستعثر على “كسّارة الجوز” هناك. تجوّل “أبو ساعة” في الحسبة يقلب نظره في العتّالين، استوقفه أحدهم بأكفّه السميكة التي تشبه أكفّ والد “أبو ساعة”، وقدّر أنه كان “طوبرجياً”. توقف عن مزاولة مهنته لسبب ما، هتف “أبو ساعة”: “هذا هو (كسّارة الجوز) الذي سيعاقبني على كل ذنوبي”. كان “كسارة الجوز” عملاقا، دميم الخلقة، وجهه منتفخ شديد التغضن، عيناه جاحظتان، أنفه محطم، أسنانه الأمامية أُسقطت، يتحرك بين مجموعة من العتّالين يفرغون برّاد فاكهة في أحد المستودعات من دون أن يردّ على ما يتلقاه منهم من رفس وبصق ولعن، كانوا يتفننون في السخرية منه، وعندما ينسونه ويستغرقون في شغلهم يتحول إلى مهرج، فيعودون إلى التحرّش به من جديد وهو يحتسي القهوة من كأس بلاستيكية وكفه ترتجف، وسيجارته لا تنطفئ.. اندفع من المستودع شاب وسيم أمسك به، وأبعده عن البرّاد وعن العتاّلة، وأعطاه مبلغاً، تغير كل شكله وهو يقبض على النقود بكفّه الضخمة التي كفّت عن الارتجاف. غادر “كسارة الجوز” الحسبة على عجل، وتبعه “أبو ساعة”، وعندما وصل إلى وسط البلد دخل إلى خمارة مختفية في أحد الأزقة، أمضى بداخلها دقائق معدودة وخرج وقد انحنت قامته، يرتطم بالناس وبالبسطات وبأبواب المحلات، اسودّ وجهه وتكاثرت تجاعيده وتعمّقت واغمقّت، من يراها لا يصدق للوهلة الأولى أنها حقيقية، قعد على رصيف الشارع المقابل للزقاق شاداً بكفيه على أذنيه يئن من شدة الألم، بدا “كسارة الجوز” مثل لطخة داكنة تسربت من عتمة الليل إلى وضح النهار، علق بالرصيف، وفشلت كل محاولاته للنهوض. تتمهل الناس وهي تمرّ به، منهم من يتوقف ينظر إليه باشمئزاز، ومنهم من كان يبصق عليه أو يلعنه أو يدعو عليه، ومنهم من يقف حائرا مشدوها لا يدري ما هي ردة الفعل التي عليه اتخاذها، تدخّل “أبو ساعة” وأنقذه قبل حضور الشرطة التي كانت قريبة. تقيّأ “كسارة الجوز” في سيارة “أبو ساعة” الحديثة، وجعر مثل ثور مذبوح، وبكى مثل طفل أنهكه الجوع.
في مغسلة محطة الوقود أمر “أبو ساعة” عاملين، فحشرا رأس “كسارة الجوز” تحت رشاش الماء، ثم نشراه في أشعة الشمس، وأحضر أحدهما له فنجان قهوة مرة، وعندما عاد إلى السيارة ظل “أبو ساعة” يسأله: “أين تسكن؟”، وهو لا يجيب. وعندما وصلا جبل النزهة أصر “كسارة الجوز” على النزول من السيارة، تبعه “أبو ساعة” وهو يدخل إلى إحدى البنايات يدق الأبواب، يتسوّل، ينطق بكلمات مبهمة، ويقعد على الدرج بجانب الباب الذي لم يفتح له، يطلق أنّات موجعة، ولعنات مخيفة.
أعاد “أبو ساعة” “كسارة الجوز” إلى سيارته، دار فيه بشوارع عمان حتى أغفى، وعندما صحا سأله “أبو ساعة” عن السبب الذي جعله يضحك عندما حمله في وسط البلد، وفهم منه أن أمه في الصبح وهو يغادر الدار دعت عليه قائلة: “داهية تحملك..”. عرف “أبو ساعة” من “كسارة الجوز” أنه يسكن في الجبل الشمالي بالرصيفة، وعندما أوصله راقت له داره لأنها متطرفة، وسُرّ أكثر لأنه يقيم مع أمه وحيدَين، وهي عجوز شمطاء، سمراء، سمينة، قصيرة، مصابة بالضغط والسكري والزلال، وبماء أزرق في عينها اليسرى. قال له “أبو ساعة”: “إذا قمت بما أطلبه منك تكون طاقة فرج قد انفتحت لك. الشغل معي ليس له إلا شرط واحد، لا تحاول أن تعرف من أكون”.
أحضر “أبو ساعة” معه إلى دار “كسارة الجوز” كيساً كبيراً من حبات الجوز، أخرج عدداً منها، وطلب من “كسارة الجوز” تحطيمها على رأسه، وشرح له الطريقة مقلداً ما كان يفعله والده مع كل حبة جوز يكسرها على رأسه، وما كان يوجه له من صفعات مباغتة، وركلات مؤلمة، وبصقات متتالية، ومسبّات مشينة، أثناء سير عملية تكسير الجوز على رأسه وبعدها.عندما انتهى “كسارة الجوز” من تحطيم حبّات الجوز على رأس “أبو ساعة”، وأدّى كلّ الطقوس المرافقة على أكمل وجه، مدّ يده في الكيس، وأخرج عدداً آخر من حبات الجوز وحطمها على رأس “أبو ساعة”، لم يعترض “أبو ساعة” و قال لـ”كسارة الجوز” وهو يبكي، ويقرّط كفيه، والدموع تملأ عينيه، وحبات الجوز المهشّمة تنتشر في كل مكان: “لو تعرف من أنا”.. صار “كسارة الجوز” يرجو “أبو ساعة” أن لا يقول له من يكون، حتى إنّه انهال على قدميه يستعطفه أن لا يتجاوز الاتفاق المبرم بينهما، وقال له: “لا أريد أن أعرف من أنت، أكره أن أعرف، لو سألتني من عدوك الحقيقي، لقلت لك أن أعرف”.بعد مغادرة “أبو ساعة” أمسكت أم “كسارة الجوز” به، بطحته أرضا، قعدت على صدره، بصقت في وجهه، نتفت شعر رأسه وهي تصرخ فيه: “كيف تركته يغادر قبل أن تعرف من هو؟! سأقضي عليك إذا لم تعرف لي من هو”. كان “كسارة الجوز” يبكي ويقول لأمه: “أول ما صار عندي شغل أحبّه، أعشقه، أموت عليه، فقدت عقلك.. أنت بنت حرام، طماعة، أنت وكل إخوانك وكل أولادك وبناتك طماعون، أولاد حرام..”. أمسكت به أمه وانهالت عليه بالضرب من جديد وهو يصرخ: “لن تبني عمارة بحبات الجوز التي أكسرها على رأسه”.
عرفت أم “كسارة الجوز” أن الشخص الذي يكسّر ابنها الجوز على رأسه تاجر مهم تتوزع نشاطاته على قطاعات عدة، نزلت إلى أحد محلاته التي أُخبرت أنه موجود فيها الآن، طلبت منه مبلغاً كبيراً، هدّدته إن لم يدفع لها ستفضحه في كل السوق، وعند أقاربه وزوجته. قال لها “أبو ساعة”: “خسارة أنك تفكرين بهذه الطريقة بعد أن صار ابنك كسارة جوز حقيقية، كسارة جوز آدمية، يكسر حبة الجوز على رأسي بضربة واحدة”. قام “أبو ساعة” بأداء حركة تكسير الجوز بضربة واحدة مطلقا صوتا من سقف حلقه (طق)، وتنفلق حبة الجوز فلقتين. نادى “أبو ساعة” على ثلاثة موظفين، ارتعبت المرأة، قالت لـ”أبو ساعة”: “ابني يعرف أني عندك، وإذا تأخرت ستحضر الشرطة”.سأل “أبو ساعة” الموظفين: “أنا، أمس أين كنت من الساعة 9 إلى 11؟”. أجابوا: “عند (كسارة الجوز) ابن هذه المرأة”.
– السبب؟. 
– حتى يكسر الجوز على رأسك عقاباً لك.. على… 
أشار لهم أن اخرسوا. طلب منزله، ردت زوجته، وضع سماعة الهاتف على الصوت المسموع، سأل “أبو ساعة” زوجته: “أمس من الساعة 9 إلى الساعة 11 أين كنتُ؟”.
– عند “كسارة الجوز” حتى يكسر الجوز على رأسك عقاباً لك.. 
قاطعها بسؤال آخر: “الطوشة الأخيرة بيننا، لما ضربتك، وحردتِ عند أهلك، ما هو الشرط الذي اشترطته عليّ حتى ترجعي؟”.
– تراجع طبيباً نفسياً.
أغلق الخط، وطلب من أحد الموظفين أن يحضر له من الشارع أي شخصين، وعندما أحضرهما سألهما “أبو ساعة” السؤال نفسه فأجابا: “عند هذه المرأة”. “وما كنت أفعل؟”، فقالا له كما قال الجميع. قال “أبو ساعة” للمرأة: “كنت أفكر أن أزوركم اليوم”. واستعرض أمامها عدداً من الأكياس المحشوة بما لذّ وطاب من الأطعمة والأشربة، فهجمت عليها المرأة، صدّها الموظفون، هي تشدّ، وهم يشدّون إلى أن دخل عليها ابنها “كسارة الجوز” وأيقظها من النوم، طلب منها إعداد القهوة، فقد حضرت الدجاجة التي تبيض لهما ذهباً.
كان “أبو ساعة” يقول لـ”كسارة الجوز”: أحضرت معي كيس جوز ومكسرات نخب أول، وهدايا، وبزر وفستق لم يمضِ على تحميصهما ساعة، كل ما تقع عليه عيناك الآن هو من عندي، من أحد محامصي، أنت تستحق هذا وأكثر، فالمهمة المطلوبة منك اليوم كبيرة… كان “أبو ساعة” مرتبكاً محرجاً لا يدري من أين يبدأ، فقال لـ”كسارة الجوز”: “كنت في لبنان، ربحت في الكازينو 2000 دينار، رجعت فيها معي إلى عمّان. قلت أوزعها على الفقراء، مع أن رب العالمين لن يقبلها مني لأنها مصاري حرام، وقبل أن أوزع قرشاً واحداً منهم لم أصحُ إلا وأنا راجع إلى بيروت وألعب بالكازينو، خسرتهم، وخسرت..”.
وانهار “أبو ساعة” بالبكاء وبتقريط كفيّه وهو يقول للرجل: “أريدك أن تحرّمني القمار، مهما توسلت فلا تشفق عليّ، وأنا لن أبخل عليك، لو تعرف المبلغ الذي كنت حاسب حسابك فيه، حصتك من الـ2000 دينار.. لو أني ما ضعفت ورجعت إلى بيروت”. دقّت أم “كسارة الجوز” الباب، أعطت ابنها صينية القهوة، همست له: “إذا حاول هذا الخنزير أن يقول لك من يكون فلا تسمح له.. لا تستغرب، فساقية جارية ولا نهر مقطوع، والجوزة كسّرها على رأسه كما كان يكسرها أبوه”.
– كيف..؟.
بضربة واحدة..”، وقلدت الحركة التي قام بها “أبو ساعة” أمامها في الحلم وأخرجت (طق) من سقف حلقها.
فقال لها ابنها: “أنا أسألك كيف عرفت أنه أبوه الذي كان..”.
– هذه حكاية وحدها، قم بما عليك القيام به أولاً، وبعدها سهلة.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *