التمييز بين الأنوثة والذكورة في الكتابة والإبداع صنيعة اجتماعية




*حوار: نضال القاسم

سعيدة تاقي إحدى كاتبات الجيل الجديد في المغرب، عالجت الأدب على اختلاف أنواعه، ونشرت عدداً من الكتابات الشعرية والنقدية، فهي قاصة وروائية ملتزمة بالقيم الإنسانية الرفيعة، وباحثة وكاتبة بارعة للمقال، وهي ناقدة أدبية ملتزمة ورصينة، تكتب مسوقة بطبعها الجريء المخلص الذي لا يخشى مسؤولية إبداء الرأي ولا يماري فيها. وحين نقرأ كتاباتها نحسّ بحلاوة الألفاظ ورشاقتها، لأنها تنتقيها بذوق الأديب البارع، وتختارها اختيار الفنان الأصيل المبدع، لها رواية بعنوان إيلافــ «هم» ـ رحلة قاب القوسين أو أعلى صدرت في عام 2014 عن دار النايا في العاصمة السورية دمشق، كما صدر لها مؤخراً كتاب نقدي بعنوان “تحوّلات الرواية بين بنى التحديث وأنساق التراث” وهو في الأصل الدراسة التي فازت في دورة 2013 من جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي، حيث فازت الكاتبة في حينه بالجائزة الثالثة عن فرع الدراسات النقدية المُنجَـزة حول محور التراث ، وتعكف الآن على إتمام مخطوط شعري بعنوان “للربيع فصول أخرى “.

وتقديراً لجهودها الإبداعية فقد تم تكريمها هذا العام من طرف مؤسسة المثقف سيدني ـ أستراليا بمنحها درع المثقف للثقافة والأدب والفن، باسم منجزها الإبداعي تمثيلاً للمرأة المبدعة بالمغرب.
حول تجربتها الإبداعية التقيناها في ملحق شرفات ثقافية وكان معها هذا الحوار:
نافذة التأمل

ـ كثيراً ما ترتبط بدايات المبدعين بمحفز ما، أو موقف ما، أو ذكرى ما، كيف كانت بدايتك مع الأدب؟ وماذا تعني الكتابة لك؟ وما هو دور الأدب في رأيك؟
– البدايات لا أستطيعُ تحديد معالِمها. البدايات في أصلها زئبقـيّة، يصعبُ عليّ الارتهان إلى لحظة واحدة لأقول تلك كانت البداية.. ولا أعتقد أنه يمكن أن يكون للقلم مَسْقطَ رأس واضح التاريخ، تسجّله الذاكرة في رسم الولادة. فالكتابة لحظة لاحقة للامتلاء. أو لنقُل إن الكتابةَ امتلاء لا يداري حُمولَه. فـقَـبْل أن تعلِن الكتابةُ عن وجودِها الصريح تكون القراءة قد كتبَتْ ذواتِنا بشكل آخر، عبر ما اقـتَـتْـنا على التهامه من مؤلفات وأعمال ونصوص…ألا يكون فعلُ القراءة ولادةً قبل الأوان لكينونة «الكتابة»؟ أظن أنّ عبارة «كنت أكتب منذ نعومة أظافري»، سردٌ لا يجانبُ الصّواب، لكن بتــصريفٍ آخر يمــضي نحو الاقــتيات على القــراءة لتقوية الذائـقة وروح الإبداع. إن الانفتاح على الأدب والانشغال بالمقروء الأدبي في سن الطفولة، لا يمكنه إلا أن يحصِّن الإنسان من ضياع المعنى، أو تضيــيعه في مراحل النمو اللاحقة.. إن الأدب نافــذةُ التــأمل الأولى. وهي لا تكتـفي بتــمرين المخــيلة وتوسيع آفــاق تلقِّي العالَم، بل تصقُل ملكـة التفــكير باستمرار، وتغـذي حاجة الـروح إلى منابع الجمال والسمو، وتخلُق للانفعالات فسحة للتطور برقي واتزان.
ـ ما هو الهاجس الذي يحرك قلم سعيدة تاقي/ لماذا تكتب وماذا تنتظر؟ وما هي القضية الرئيسة عندك؟
– أحبُّ أن أرى الأمر من زاوية مغايرة. هاجس الكتابة هو الفكرة، أو هو المعنى، يبحثان لنفسيهما عن نص يقولُهما. قد يكون ذلك السبب الذي جعل الشذرة لا تكفّ عن ترصّد أوراقي.. الكتابة، خارج المُحترفات أو مختبرات العــزلة الاختيارية، لا تخضع لكبــسة زر. أداة القــلم وهي تكتُب، ومفاتيحُ الحاسوب وهي ترقُن بالحروف ما نرغب في التعبير عنه، لا تستجيب لفعل الإرادة فحسب، بل تتماهى مع ذلك المعنى الذي يحلِّق في سماء أفكارنا بحثا عن مادة/ نص تشكِّلُ «طِـينَه».. قد نرغب أحياناً في الكتابة وتعجز حروفُنا عن ملاحقة أحلامِنا.. وقد تأتيـنا الأحرف ذاتها، طيّعةً دون مجهود المخاض ودون سابق موعِد أو انتظار.. أما القضية فهي المعنى. القضية هي الإنسان، هي معنى أن نكون على قيدِ الوُجود.
الكتابة حياة

ـ لمن تكتبين؟ وما هي غاية الكتابة؟ ما علاقتها بالحياة؟ وهل تعانين من مأزق الورقة البيضاء، وكيف تبدو لك لحظة الكتابة، وماذا تقولين عنها؟
– أكتب للإنسان. أكتبُ بضمير مفرد يريد أن يكونَ جمعاً، لذلك لا غاية للكتابة غير الحياة في تجلِّياتها السامية. فـالحياة أكبر انتظار دوَّنا أسماءنا في سجلّاته، نعيشُه أو نحياه أو نخلُد بعدَه… تورِّطُنا الحياةُ بدورها، حتى بعيداً عن الكتابة والإبداع، في كل تجربة إنسانية أمام مأزق الورقة البيضاء. قبل مذبحة الشجاعية بيومين كتبت نص «أيها الرُّفاتُ اجْـمَع بعضَك، فكلُّك يحتضِر»، بعد المذبحة لم أتمـكن من مــراوغة الاحـتباس، وما زالت الصفحة بيضاء.. ربما الحــياة ورقة «بيـضاء» بألــوان متغــيّرة نتردّد أمامها أو نحجم أو نبادر أو نتسرّع… والكتابة بعض من الحياة، هي حياةٌ تَعِي فــعل الحياة، أو هي الحياةُ تغوصُ بألمٍ وأملٍ في عمق الحياة.

* بالمناسبة، كيف حدث وأصبحتِ ناقدة، هل تصنع الجامعة نقاداً ومبدعين..؟! وهل قدسية كتابة النقد هي التي تفرض على كاتبه نوعاً من الهيبة، وهل بوسع أي كاتب أن يصبح ناقداً؟ وما المؤهلات الأخلاقية والفكرية التي تجعل الناقد مبدعاً؟ ثم لماذا يستهويك نقد السرد أكثر من نقد الشعر مع أنك شاعرة..؟؟
– قد تسعف الجامعة في معرفة النظريات وفي اكتشاف مدارس النقد وفي اختبار أدواته، لكن النقد لا ينحصر في امتلاك العدة النقدية أو في التمرُّس على الأدوات. إن القراءة النقدية المتأنية المتبصِّرة، يُفترض أن تمتلك رؤيةً للعالَم إلى جانب معرفة الأدوات، لكي لا يتحولَ النقد إلى تمارين تطبيقية آلية، يتم إسقاطها على النص دون الوعي بفَـرادته أو تميُّزه ودون الوعي بالخلفيات الفكرية والمنظومات المعرفية التي تخفيها تلك الأدوات النقدية. لكن في الجهة المقابلة، يفتقر الكاتب دوماً إلى المعرفة بالأدوات النقدية، كي يتحول إلى ناقد، يتجاوز التأثر الانطباعي إلى إنتاج اللغة النقدية الرزينة.
أنا منشغلة بفعل التسريد ومـتعه. فقد صدر لي بالفعل في نقد السرد مؤلّف نقدي، وروايتي الثانية قيد النشر، بعد أن تم نشر وتوزيع روايتي الأولى «إيلافــ هم». لكن مجال النقد أكثر اتساعا، ولا يشمل السرد والشعر فحسب.. هناك العديد من الظواهر و الإنتاجات والقضايا والمستجدات التي تواجِهنا في الحياة الآنية بإلحاح، نواكبها أحيانا بتأمل نقدي، وأحيانا نتركها إلى أخرى.. ففي زمن العالَم الإلكتروني والقرية الافتراضية التي تمدّ أذرعها لتحاصر بقيمها وتصوراتها العالَم الحقيقي أكثر وأكثر، السردُ في العالَم لا يقتصر على الرواية والقصة و القصة القصيرة، مثلما الشعر لا يعني عمود الشعر أو قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر أو الهايكو.. نشرتُ مقالات نقدية عديدة حول قضايا وظواهر ليست سردية بمفهوم الجنس الأدبي.. وقد يصدر لي في زمن لاحق مؤلف نقدي يقرأ النص خارج الأجناس المعتمَدة، فلنترك الباب موارَباً لاحتمالات أكبر…

تحديات أمام النقد

ـ صدر لكم مؤخراً عن دار «النايا» السورية، كتاب نقدي بعنوان «تحوّلات الرواية بين بنى التحديث وأنساق التراث». ماذا عنه؟
– و صدرت عن دار النايا كذلك روايتي: (إيلافــ «هم» ـ رحلة قاب القوسين أو أعلى). كتاب «تحوّلات الرواية بين بنى التحديث وأنساق التراث» هو في الأصل الدراسة التي فازت في دورة 2013 من جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي، بالجائزة الثالثة عن فرع الدراسات النقدية المُنجَـزة حول محور «التراث». قدَّمتُ في الدراسة، رؤية نقدية تحاور مفاهيم المنجَز النقدي الوافد من باب الاستئناس، قصد صياغة مَفْهَـمات دراسةٍ نقدية عربية تفي خصوصية النصوص الروائية المدروسة حقّها في الإنصات لتميُّزها وللتحولات التي تختطُّها في مسار تطورها. فقد اقتضى فَهْمُ معالم التحديث الذي تـبْـنيه الروايةُ بانفتاحها على مـمكـنات إبــداعية متـجـدِّدة ومثـيرة للتلقي والتأويل، اقتراح مقتَــرب نقدي، لا يتوخى الإحاطة بالــهويات الروائية المتميزة للنــصوص فنياً وأدبياً وبارتباطها بالتراث في عمق سعيها إلى التجديد، بل يطمح – كذلك – إلى تأويل ذلك التحُّول الإبداعي فكرياً ووجودياً. وهكذا قامت الدراسة بتحيين منظورها النقدي الذي يشيِّدُ تأويلَه لتحوّل الرواية المغربية بشكل خاص، وفهمَه للفهم الإبداعي الذي تُحاور عبره الروايةُ المغربية رصيدَها التراثي من جهة، وهويتَها التجنيسية من جهة ثانية، وعالَمَها المرجعي من جهة ثالثة.

ـ بدهي أن النقد الأدبي من أهم مقتضيات التطور الفكري والأدبي، وأن الاتجاهات الفلسفية والمضامين الفكرية المعاصرة لم تتسع رؤاها الإبداعية وتستشرف آفاقاً أكثر شمولاً ورحابة، إلا بعد أن واكبتها حركة نقدية واعية…لذا فإن وظيفة الناقد تشكل ضرورة لازمة لتقويم مسار الحركة الأدبية وتقدمها، فهو الموجه الواعي والمدرك لحقيقة العمل الأدبي…من وجهة نظركم، ما مهمة الناقد بشكل عام؟
– قد أباغـت القارئ وأفاجــئك أســتاذي العــزيز، بقــولي إن الإبــداع عمـوماً والمنجَز الأدبي حالياً يتجاوزان بكثير درس النقد الأدبي في أوطاننا، ويرغــمانه على اختيار من ثلاثــة اختيارات. فعلى النــقد الأدبــي أن يعيد النــظر في ماهــيته وجــدواه وتاريخه، ليجدد ذاته، بما يلائم اللحظة الإبـداعية الراهنة، وسياقي الإنتاج والتــلقي المحكومين بالاكتساح الــرقمي وبتــلاشي الحــدود بين الأجــناس وبتداخل النصوص وبترابط الخطابات. أو سيـجد النقدُ لاحقاً، أن الفــاصل بين ثباته وتغــيرات الإبداع، قد اتسّع ووضعه في «متحف» مدرَّجات الجامعة وفصولها التطبيقية. الاختيار الثالث هو أن يستوعب ما توصل إليه درسُ النقد العالَمي، الذي أعلن منذ بدايات التسعينات عن موت النظرية، أو ذوبان المعالم الفاصلة بين حدودها المعرفية، في ظـل الانزياح عن المحـدِّدات المنهجــية الضيقة، والانفــتاح على المرجـعيات الثقافية المحـلية والقطرية والعالَمية، وعلى مباحث الدراسات الإنسانية عموماً، التي تُجاوِزُ حدود «الأدب المعتَمَد» إلى مفهوم «النص في العالَم».

ـ في المناهج النقدية الحديثة كيف تنظر سعيدة إلى شخصية البطل في النص؟ هل هي اللغة، أم الأسلوب، أم البيئة؟
– النص كينونة مكتملة لها هويتها الفريدة، أو هو كلٌّ تتعاضد مكوناته لتشييد هويته، لذلك شخصياً لا أميز الكتلة عن العناصر ولا أميّز المادة عن الكثافة..

مدارس نقدية

ـ ما رأيك في المدارس النقدية الجديدة مثل البنيوية التي غزت ميادين الدراسات الأدبية منذ أواخر الستينيات، وما يسمى بالتفكيكية، وغيرها من الاتجاهات المعاصرة، وكيف يكون موقفنا منها؟
– كل مدرسة نقدية كانت إجابة آنـية عن اشـتراطات لحظة فكرية استدعتْها في زمان بروزها ومكانه. لذلك للمدارس النقدية التي أنتجها «الآخر»، إلى جانب منظوماتها المعرفية المتحكّمة في تشكيل أولــويات أدواتها النــقدية، خلــفياتٌ تاريــخية ومحدّدات اجتــماعية وتصورات فكرية. فالبنيــوية نصَّبَتِ للنص من داخل اللغة بنى ودلالاتٍ، في استجابة للإشــكال الفكري الذي أثارته المــاركسية. فألغت بنــيوية براغ والبنيوية الفرنسية وصاية المؤلف، وجــعلت بلوغ المــعنى مشروطاً بفك سنن النص. ونظريات جماليات التلقي في نسخها الألمانية، التي ظهرت في سياق الحراك الطلابي وإعادة بناء التعليم العالي في ألمانيا الغربية في منتصف الستينات، انتفضت على المناهج التقليدية المحافظة التي تركز على عملية إنتاج النصوص، ورأت في المعنى احتمالا كامناً في النص، يفتقد إلى تفاعل وعي القارئ كي يمنحه وجودَه. وما بعد البنيوية بما فيها تفكيــكية جــاك دريدا وغيره، ومباحث ميشيل فــوكو وجاك لاكــان ولوي ألتوسير وجيــل دولـوز وجوليا كريستيفا وجان فرانسوا ليوتار وغيرهم، هي بنيوية نقدية وقفت عند قصور البنيوية في قراءة النص الأدبي، وعند تحدي التصور المثالي لكل المركزيات بما فيها مركزية الذات أو اللغة أو العلامة…
لكن فعل اقتباسنا «نحن» لتلك المناهج النقدية أو الترجمة عنها أو محاولات تبيئـتها، لم تتم وفق الاشتراطات التاريخية والاجتماعية والمعرفية والفكرية التي ولَّدت تلك المناهج، وإنما لحاجة النقل والتفاعل مع ما توصّل إليه «الآخر». لذلك فُصلت المدارس عن السياقات التي أنتجتها، وأفرغت المفاهيم والمصطلحات من حمولاتها. وغدت المناهج أدوات تطبيق إجرائي، يشوبه التردد والارتياب والخلط.
والأمر إشكالي يستدعي إعادة النظر فيما تريـده هذه الـ «نحن» فعلاً، قبل التفكير فيما يحتاجه «نـقــدنا». الانتماء إلى العــالم بكل قيمه ومكــتسباته وإنجازاته الإنــسانية الكونية، ومحاولة الاجتهاد من داخل هذه الكونية، بمقترحاتنا وإضافاتنا التي من شأنها أن تغْـني كونية «الناس كافة» بخصوصياتنا، كي تواصل هويتنا البقاءَ والحياة والإبداع. أو الانغلاق على تلك الـ «نحن» لتضميد جراحها وتقويم انكساراتها وتحصين الذات ضد المؤامرات الخارجية، بالوقوف على أطلال إنجازات للماضي ضيّعناها، وما أفلحنا حتى في الحفاظ على متاحفها وسجلات أمجادها المشيّدة في الآثار التاريخية بالطوب والحجر في مدن، كانت عواصم للحضارة والعلم والتاريخ.
المرأة والأدب

ـ كيف ترين علاقة المرأة بالأدب؟ وهل توافقين على تعبير الأدب النسوي والأدب الذكوري؟
-الأدب، مثل الفكر والفلسفة والعلم والفن وغير ذلك، لا أعضاء جنسية له، لكي نحدِّده عند الولادة بالمولودة الأنثى أو المولود الذكر.. التمييز بين الأنوثة والذكورة في الكتابة والإبداع صنيعة اجتماعية، لا علاقة لها بالكتابة أو بالإبداع، وإنما ترتبط بتوزيع الأدوار التي احتكمت إليها المجتمعاتُ في مسار تطورها، وتحقَّـق حولها الاتفاق وأصبحت نتيجة للتقادم عرفاً، بل قانوناً في بعض الأحيان لا سبيل لخرقه. تلك الصنيعة الاجتماعية المميِّزة بين إنجازات المرأة وإنجازات الرجل، تمَّ نقلها إلى الأدب من المجتمع الذي ما زال يريد أن يرى الأصل ذكراً، ويرى الأنثى استثناءً يشدّ عن القاعدة، واستثناء يستحق الوصاية، وعليه (ذلك الاستثناء) إن لم يقتنع بالنظرة الدونية التي تحملها تصورات «العيالات، حاشاك» و «الحُرمة، أعزَّك الله» و«الحريم» و«الأنثى العَـوْرة» و«الجسد المُشتهى/ المُـدنَّس»، أن يناضل حتى الموت من أجل «المساواة مع حقوق الرجل» وكأنه طفرة جينية لا تستحق أن ينظر إليها بوصفها إنساناً.. ولذلك يستكثر المجتمع عليها، أن تعبّر عن منظورها للعالَم، داخل العالَم الذي صنعه الله خالق الكون ومبدعه، ولم يصنعه الذكر.
المرأة والرجل شريكان في فعل الحياة، من منطلقات بيولوجية مرتبطة بالتكامل الفيزيولوجي في التزاوج والإنجاب. هكذا تعلِن الطبيعة عن الاحتياج المتبادَل بين الطرفيـن من أجـل تخـصيـب الحــياة وإرسـال البـذرة الملـقَّــحة نحـو مرحلة أخـرى من الإنتاج والعطاء. ويصرُّ المُكــتسَـب والمُــصطنَع من الفـعـل الاجتماعي على التفرقة والتمييز بمنظور تراتُبي استعلائي.
حين نتوقف عن النظر إلى التاريخ الذي دوّنَه المؤرّخ/ الرجل من زاوية انفراده بالعالَم، ونبتعد قليلا عن سقف سلطة الأعراف والطقوس والتقاليد المتوارثة منذ أجــيال، والتي تحظى بهالات التقــديــس وتتحــكَّم في بناء التــصورات حول الــذات والإنسان والحياة والمجتمع.. سيكون بإمكاننا أن نصاب بالــذّهول أمام حقيقة بسيطة وبديهية: الرجل ليس وحيداً في العالم.. والإنسان امرأة و رجل.. والمرأة بدورها ترى العالم.. والمرأة بدورها لها كامل الحق في أن تكتب رؤيتها تلك للعالم، دون مصادرة أو تضييق أو أحكام مسبقة.
إن كان كل ما أنتجه الرجل لا يوصف بالذكوري، فلماذا يوصف ما تنجزه المرأة بالنسوي.. اللغة ليست بريئة فتوصيف الأدب يجب أن يكون أدباً وحسب، وهو إنجازٌ إنساني كوني، يعبّر عن رؤية للعالم أنتجه الإنسان امرأة أو رجلاً.

جمود أكاديمي

ـ يأخذ بعض الباحثين على النقد العلمي (الأكاديمي) تَجَمُّده في إطار البحث والتنسيق والتحقيق، دونما حسبان لشخصية الناقد الانطباعية التذوقية، التي تعد -أحيانا- مقياساً أدبياً. ما تعليقكم على ذلك؟
– سبب الجمود، فيما أعتقد، هو الانشغال بالتطبــيق التقني الآلي لـ»الأدوات النقدية».. وتلك الأدوات تتــحول في الغــالب، أثــناء تلك التطــبــيقات، من مــفاهــيــم وتصورات كبرى تحتمل ما تحتمل، إلى خطوات لا يساعد تتبّعها على فهم «الفهم الإبداعي» الذي يقترحه النص المقروء. النقد حين لا يحرص على النفاذ إلى روح النص، ولا ينشغل ببصمة النص الإبداعية الفريدة، التي لا تتكرّر، لا يمكنه أن يقدم غير ناقد متمكِّن، يطبِّق ما يعرفه باحتراف أكاديمي، لكنه لا يمتلك رؤية.
ـ يتردد بين حين وآخر أن هناك أزمة ثقافة، ويذهب آخرون إلى تسميتها أزمة مثقفين، ما رؤيتكم الخاصة لهذه القضية؟
– الأزمة أزمة قيم قبل أن تكون أزمة ثقافة أو أزمة مثقفين. والقيم تخص المجتمع بكل أفراده ومكوناته وأطيافه وشرائحه ومؤسساته. المثقــف رغم عطاءاته ونضاله من أجل قيم الحياة السامية، كان دوره دوماً محصوراً في حلقات ضيقة من الأتباع والمريدين. فقد كان في كل محطات التاريخ مبعث ارتياب أو مراقبة أو تضييق أو اضطهاد.. تحاربه السلطة الحاكمة، لما يحمله من بذور للتغيير لا تخدم بالتأكيد مصالح سيادتها واستمرارها واستبدادها. أو تستميله إلى ركابها بالترغيب أو بالترهيب، لتأمنَ ولاءه وليأمن شططها. وترتاب منه الـعامة، من تلقاء واقعها أو بإيعاز من السلطة الحاكمة، لمخالفته لأعرافها ولعادات تفكيرها.. المثقف رغم صموده وعطائه، لم يكن موضع إجماع.
اليوم، في ظل ما تتيحه وسائل التواصل والاتصال الرقمية ووسائط النشر الإلكتــرونية، غـدا القــرب والتــواصل مفتوحاً، لا تعيــقه الرقــابة أو ضوابط المــنع، وغدت مساحات التأثــير والتنوير والتغيير أخصب…لكن في المــقابل، أشكال الجهل و الــعماء، وأساليب «التجهيل» و»التعمية»، بدورها تطورت وتناسلت، بشكل مخيف. وأصبح من الصعب للجــهود الفردية مهما تفانت في العطاء، أن تمارس دور التغيير المطلوب، في أعمق أعماق المجتمعات. لذلك أزمة القيم تستشري أكثر فأكثر.. ولذلك أصبحت «ثقافة الموت» مسيطرةً بأوهام البطولات القاتلة. 
رؤية نقدية

ـ النقد الحديث. ماذا يريد من النص؟ إبداعه أم مبدعه؟
– ما المقصود بالنقد الحديث؟ حديثنا «نحن»؟ أم حديث «الآخر»؟ وهل هذا «النقد الحديث» الذي لا يمكن الاتفاق حول المقصود منه، تصور واحد أم تصورات؟ وإن توافقنا على أن هذا النقــد يــقرأ النص الإبــداعي المجدِّد، هل ذات الناقد واحدة محدَّدة؟ وهل لا تعنينا هذه الذات في شيء والسؤال حول مقاصد فعل النقد؟
في عمق الأسئلة احتمالات أخرى لا حدود لإمكاناتها.
*كيف تواجه سعيدة تاقي نصًا نقديًا؟
– أبحث في النص النقدي عن رؤية نقدية مستقلة يشيّدها الناقد، أرى عبر منظارها النص الإبداعي، وألتمس في ضوئها بصمته الإبداعية.

*ما علاقة النص الإبداعي بمرجعه الواقعي؟
– النص الإبداعي لا يكتب عن الواقع الموجود قبل فعل الكتابة. النص الإبداعي يكتب واقعه أثناء الكتابة، فالنص يشيِّد عالماً، لم يكن له وجود قبل لحظة الكتابة. وقد يكون هذا العالم التخييلي، أكثر واقعية وتشخيصاً لمرجعيات الحياة، من ذلك الواقع الحقيقي العياني.
سجينة الفصل الواحد

ـ ماذا يعني لك المكان؟
– المكان بالنسبة إلي مدينة، أو هو مدن عديدة.. مثل تلك المــدن الكثيرة التي اخترقتني واخترقت الفــضاء السردي لــروايتي «إيلافــ هم». فجعــلتني معبرها للتــحرّر من الذاكرة، والعيش في أنساق حياتية جديدة.. المكان عندي ليس ذلك الحميمي الذي تحدث عنه غاستون باشلار، منزل الطفولة والمنازل الكثيرة التي سكنّاها أو سكنتْنا والغرف والعلِّـيات والأسطح والأدراج… المكان مدينة مفتوحة آهلة بالسكان والحياة، تخصِّب الأمـل في كل يوم جــديد، وتضعه في الليل على وسادة الأحلام.. فضاء القرية ارتبط في ذاكرتي بالعطلة والأنس إلى الهدوء والطبــيعة والعــائلة.. صوت الجــدة يغنّي، وأشـجار التين والكمثـرى والبـرقوق والعنب والليمون، تمنح شذاها لكل العابرين، بعيداً عن التزامات المدينة وضجيجها.. الغريب، وسؤالك يحفِّز تأملاتي أنني، حين رغبت في أن تكون القرية فضاء لرواية شرعت في كتابتها، أجهضت الأيام بذرتها وظلت سجينة الفصل الواحد.

ـ كيف تقيّمين خطورة النقد الذي تحركه انتماءات دينية أو سياسية أو أيديولوجية؟
– النقد الإديولوجي كان محطة تاريخية سابقة من محطات النقد الأدبي، وتم تجاوزه لاستنفاده غاياته المرحلية. لكن أن نجمع بين النقد الأدبي والدين أو السياسة، فذلك ما لا يجتمع ولا يستقيم، إلا إذا أسندت الأمور إلى غير أهلها.. أما إن كان المقصود هو نقد تحركه انتماءات دينية يعالج بالنقد ظواهر دينية أو قضايا دينية، والأمر نفسه فيما يخص النقد الذي تحركه الانتماءات السياسية، فذلك أمر وارد، ويهم أصحاب الشأن.
ـ ماذا يمثل لك العنوان الروائي؟ هل هو عتبة موجهة لعملية القراءة؟ وهل يمكن للرواية أن تعيش بعيداً عن السياسة والأيديولوجيا؟
– العنوان استهلال يغوي بالقراءة ويوجهها، وأحيانا يكون السبب في ترويج الرواية أو في صدور المنع من تداولها، مثلما وقع لرواية «مصحف أحمر» للروائي اليمني محمد الغربي عمران. وإن كان المنع إشهاراً مضاعفاً ومجانياً، يتيح للعمل الانتشار أكثر. لكن العنوان لا يختصر الرواية ولا يطابقها، ولذلك قد يكون أصعب خطوة وأعسر لحظة في الكتابة الروائية بأكملها. الرواية لا تعيش بعيداً عن السياسة أو الإيديولوجيا، بل قريباً منهما. الرواية تحيا عبر كل الخطابات، أو في كل الخطابات، وتلك قوة التسريد الروائي. إنه يمنح الرواية دون التورط في المباشرة، القــدرة على الحــلول في كل الأجناس والأنماط والصـيغ والحكايات والعوالم والخطابات…إنها لا تعرف الحدود ولا تعترف بالفواصل.. تكتسح كل شيء بإبداع، وتعيد لحسابها الخاص، تجديد ذاتها وتشييد عالَمِها.
الحرية والمثقف

ـ كيف تراقبين الوضع العربي الراهن؟ وما هو دور المثقف العربيّ في التغيرات الجذريّة الحاليّة؟ وما هي حدود العلاقة بين الإبداع والحرية من وجهة نظرك؟ وكيف تقرأ سعيدة تأثير الربيع العربي على المشهد الإبداعي في السنوات القادمة؟
– حين أتأمل الوضع تتملكني مثل الجميع خيبة الأمل ومرارة الإحباط.. فسيول الدم المراق لا تترك لتُربتنا سوى أن ترتوي بالأحقاد والضغائن.. ويصعب التفكير في غد يمكنه إصلاح كل ما اقترفه البؤس والظلم والبطش.. فالإنسان يناضل من أجل الحياة بكرامة.. إن خسر الحياة فلا مجد له سوى كرامته. وإن خسر الكرامة لا حياة له ولا أمجاد. لكن حين أفكر في الإرادة أدرك أن الأمل يكمن هناك قريـباً من يأسنا، فجدران الصمت والخوف والخضوع قد تم خرقها، وقوة الحق بذرة تكمن في أعماق المستضعَـفين…
المثقف إنسان يحيا ويفكّر ويشقى، ليبدع معنى الحياة. قد يمتلك من القوة ما يجعله ثابتا على الإيــمان بكل ما يؤمن به، مقـاوماً لتــيارات الاســتبـداد والإسـفاف والفساد والتجهيل، مدافعاً بفكره عن حق الإنسان في الحياة بسمو وحرية. وقد تخذله القوة لتنتكس إرادته، أو قد تستدرجه التيارات السائدة المتربصة، بدل أن يناضل ضدها. نرى ذلك في كثير من أحداث ساحتنا العربية الثقافية والسياسية. لكن الابتــلاءات الكبيرة هي التي تصنع مــساحات التــأمــل، وتشحــذ طــاقات التفــكير، وتخصب روح الإبداع. وتظل الحرية الزاد الذي لا يمكن للحياة أو للإبداع المواصلة بمعزل عنه. لـنَـأْمل أن يكون الغد أكثر إبداعاً من أحلامنا.
ـ الآن بعد كل هذا الذي تحقق، أين أنتِ؟ وما الذي تريدينه من الكتابة؟ وبماذا تحلمين؟ وماذا عن تصورك للمستقبل؟
– للمزاح «ما زلت طفلة تصبو».. تلك عبارة مقتطفة من إهداء روايتي الثانية، التي ما زالت حبيسة مراجعاتي، في ظل وعد بناشر مصري..
أين أنا؟ أنا أحيا، (بصوتي وليس بصوت ليلى بعلبكي). لي أعمال منجزة وغير منشورة ورقياً، وأخشى أن أتجاوزها إبداعياً، فلا أترك لها فرصة الوجود بين دفتي كتاب.. أنا بين الحياة والرواية والشذرة والكتابة.. في رحم الكتابة أولد من جديد، مرّات.. مرات.. وفي حاضنتها الفسيحة أرسم للحياة عناوين أخرى غير الوجع والجهل والظلم والدم.. أحلم بيوم نغتسل فيه بالأمل والعمل من كل آلام وأوهام البطولات القاتلة.. أحلم بيوم نحيا فيه جميعا بقوة العـلم والحـب والعدل والجمال.
لنأمل خيراً..
__________
* الدستور/ الأردن ـ 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *