*ماجد شاهين
( ثقافات )
( 1 ) و أنت ٍ البال ُ !
لا ينفع ُ أن أكون َ سطرا ً في دفترك ِ الصغير أو ” قصاصة ً معطّرة ” مطويّة ومخبأة في كتاب أو رواية تضعينها تحت وسادتك أو قرب السرير … ولا ينفع أن أغدو منديلا ً تدسّينه في جيب معطفك و لا تجرؤين على جعله قلادة حول جيدك .. و لا ينفع أن تقرأ لك ِ العرّافة سيرتي في قعر فنجانك أو أن تتراءى لك صورتي في كأس الماء حين يتمكّن ” الساحر ” من سلب عيون نساء يبحثن عن الغائبين والأحلام الضائعة .
..
ولا ينفع أن أخطر َ في بالك أو أعلق َ في بالك أو أجيء على هيئة صورة مُستعجَلة في حلم ٍ ذات ليلة .
..
لا ينفع !
..
ينفع و لا غير ذلك ، أن أكون حُلمَك ِ كلّه ، وأن أكون كتابك من دون قصاصات هنا أو هناك ، و ينفع ولا غير ذلك أن أكون وجه الفنجان و سيرة الكأس .
ينفع ولا غير ذلك ، أن أكون لك ِ البال َ كلّه !
( 2 ) سيرة النُعاس !
و أمّا يتراءى لك َ وجهها ، فتبصر ُ نبضَك َ و أسرار َ روايتك ، تأخذُك الغواية ُ إلى الدفاتر و الحروف والكلام .
.. و أمّا ترى و جهها :
قد يُبهرك تورّد ٌ لم تعهده من قبل ،
قد تدفعك وجنة ٌ عابقة ٌ إلى أن تصمت ،
قد يأخذك نُعاس ٌ رقيق ٌ إلى أن تضطرب ،
و قد يذبحك التماع ُ الرضاب ِ حين افترار ثغر ٍ ،
و قد .
.. و لكن : حين تأخذك الغواية إلى سيرة الوجه والنعاس ٍ و الوجنتين والرضاب و الهواء الذي يمرّ خفيفا ً … من أين تبدأ بالكلام ؟
( 3 ) رائحة بلون الليمون !
حين تروح امرأة إلى قيلولة ما بعد العصر ، هناك في طرف الدار ، عند جذع ليمونة أو تحت خيمة دالية ٍ ظهرت أوراقها ناصعة ٍ خضراء .. هناك بعدما تكون وضّبت مطارح الدار و أخذت بنتها المبهجة الصغيرة إلى الماء فغسلت شعرها .. هناك تبدأ المرأة طقسها المبهج ، فتأخذ شعر البنت وتفرزه إلى نصفين بما يكفي لصنع و ضفر جديلتين تتدلّيان من رأس البنت الصغيرة .
…
تلك حكاية الضفائر والجديلتين والبنت وامرأة فرحت بالقطاف و الدالية .. تلك حكاية البنت حين تخطو إلى صباها و رقّة اليفاعة .
…
تلك حكاية امرأة ترى روحها في البنت الصغيرة ، و تلك حكاية الرائحة التي من لون الليمون و طعم العنب .
…
إنّها لذّة القطاف
روح الزهو بمن يكبر و يصير مبهجاً في مطارحنا
قصّة الأولاد والبنات حين تتحرّك أشواقهم أمامنا
إنّها نحن : في الحلم و التوق !
( 4 ) جديلتان غافيتان !
الوقت ُ الآن ، جديلتان .. و عينان بنيّتان و وجنة نصف ضاحكة.. الوقت الآن في مؤشّر حضورك : نوم ٌ يقترب من الساعة السابعة والعشرين بعد منتصف الغياب .
.. الوقت الآن نافذة نصف مطفأة و ما يلزم من ماء ٍ لعطش ٍ مباغت ٍ
و سعال خفيف من وراء الجدار لامرأة هناك فقدت ريقها ، والوقت ُ صرير ُ قفل ٍ في باب عتبق ٍ أوصده ( خبّاز ) راح إلى فرن ٍ يعجن فيه خبز الناس وحكابات تعبهم .
..
الوقت الآن ، تطلب ُ الشمسُ أن تنام ساعة أخرى قبل أن تخرج من حجرتها !
( 5 ) تشرين !
تماما ً ، مثل سائر الناس عندنا ، في حارتنا والشارع والرصيف والمقهى و المخبز و في الحافلة الكبيرة التي تنتظر اندلاق المسافرين من على متنها لكي تستعد ّ لرحلة أخرى .
.. تماما ً ، مثل سائر الناس أرجعت مؤشّر الوقت إلى الوراء ستين دقيقة ، و بذا أكون انخرطت ُ في لعبة الشتاء !
تماما ً ، ننتظر أن يهطل مطر ٌ وافر و أن نضيء المصابيح منذ ما بعد العصر ِ بقليل .. و ننتظر ُ أن نشعل المواقد والمدافيء فنحرق فوقها وفي بطنها الحكايات التالفة ، فيما على نارها الهادئة الوقورة يتشكّل شراب البنّ و يغلي في الركوات و ربّما يفور .
.. تماما ً ، مثل سائر الناس نلتف ّ حول النار ولونها سعياً إلى الدفء
و رائحة الماء حين تتعانق مع لهب النار و الدخان .
.. تماما ً ، مثل عاشقي تشرين ، ننتظر أن تتعرّق الشبابيك فنلقّط حبّات المطر و نصنع منها ومعها شاينا و قهوتنا و أباريق اليانسون و الميرميّة .
.. تماما ً ، و ربّما ليس مثل سائر الناس ، أنتظر المطر لكي أتدفأ باللهاث الخفيف حين أشمّ رائحة امرأة في الكلام أو في السلام .
…
يقولون أن كلام النساء فيه روح أخّاذة في مواسم المطر و فيه رائحة تنفذ إلى الأوراق والوجوه والأردية و مفاتيح المنازل و شقوق الجدران .
…
تماما ً ، لم أكن أهجس !
أنا أحبّ تشرين ، و لم أغادره إلا ّ في يومه الأخير حين ولدت ، أحبّ تشرين والمطر والشبابيك التي تتعرّق برائحة الرسائل والكلام وبالماء و بالعطر المغسول من أدران التعب .
.. أحبّ المطر و تشرين و أحلم أن أظلّ دائما ً بائع ورد ٍ في طرقات تشرين وعند أرصفته .
( 6 ) الحرف والبحر ُ !
الحرف ُ ، اليوم ، عصي ّ ٌ على الانخراط في سطر البوح !
.. الحرف يعاند ُ وينأى عن السطر و ينزاح و يطرد قالب المفردة ، كأنّما يتعارك مع الفكرة و العنوان ، ولا يرضخ ُ لشروط الكلام !
.. الحرف ُ استعصى على التشكُّل ِ و الانقياد و راح باتجاه البحر !
…
الحرف الآن ، هناك جوار الماء ، كأنّما يطرد الغبار عن قميصه .. أو أنّه يريد أن يوشوش البحر و يقول له : كن كما أنت َ بالماء والأصداف و الرمل الرقيق والأزرق الذي لك !
…
الحرف ُ ، في رحلته إلى الماء ، يتخفّف ُ من رائحة الجدران وسطور الدفاتر و صفحات الكتب و يهرب من عيون ٍ تُلاحق نبضه !
…
الحرف هناك يغفو قرب البحر ، و يداعب الرمل .. يغفو هناك .. و حين يصحو أو يطلع عليه النهار ، سيكون في البهاء كلّه !
…
الحرف ُ
بعد رمل الماء
بعد أزرق البحر ،
بعد رحلة ٍ هناك ،
سيعود
محمّلا ً بما قالته النوارس
و محمولا ً في الكلمات
والدهشة اليانعة !