*مفيد نجم
عرف غوستاف فلوبير روائيا من خلال رائعته مدام بوفاري، التي شكلت نقطة تحول في تاريخ الرواية الأوروبية الحديثة، سواء من حيث تأسيسها للرواية الواقعية بتأثير واضح من كتابات بلزاك عليه، أو عبر التمرد على أخلاقيات المجتمع الأوروبي المحافظ، الذي كان يرى في تناول موضوع العشق وعلاقة الحب بين الرجل والمرأة بصورة سافرة مساسا بأخلاقيات المجتمع وضوابط الدين، ما تسبب في محاكمة فلوبير بتهمة الإساءة إلى هذه الأخلاق. لقد ساهمت شهرة فلوبير الروائي في أن يبقى فلوبير القاص وكاتب الشذرات في الظل، دون أن تنال تلك الأعمال الاهتمام المطلوب نقديا وأدبيا، حيث لعبت أعماله الروائية كالتربية العاطفية وتجربة القديس أنطونيوس وسالامبو، إضافة إلى كتابه قاموس الأفكار الجاهزة دورا هاما في تكريس شهرته كأحد أعلام الرواية الواقعية عالميا. في ضوء هذا الواقع يحاول مشروع كلمة للترجمة في أبو ظبي التعريف بالمنجز القصصي للروائيين الفرنسيين الكبار في سلسة من الترجمات صدر منها حتى الآن كتابان، تضمن الكتاب الثاني منهما مجموعة مختارة من أعمال فلوبير القصصية والحكائية وشذراته النثرية، من خلال ترجمة مباشرة عن اللغة الفرنسية قامت بها ماري طوق تحت عنوان “نصوص الصِّبا: قصص وتأملات”.
عالم سردي
تتمحور تجربة فلوبير حول محاور ثلاثة هي التخيل التاريخي، كما ظهر في روايتي “سالامبو” و”تجربة القديس أنطونيوس”، والواقعية كما في “مدام بوفاري” والتربية العاطفية، والتأملات والشذرات التي يجسدها كتاب “معجم الأفكار الجاهزة”. ويمكن اعتبار نصوص الصبا كما تؤكد مقدمة الكتاب بمثابة المختبر الذي حاول فيه تجريب مختلف الموضوعات والأفكار والرؤى، التي ستتجسد في أعماله اللاحقة، ما يبيِّن أهمية هذه القصص المختارة التي تشكل المهاد الأولي لتجربته الروائية، التي يظهر فيها حضور الجانب الذاتي من شخصية فلوبير لا سيما في رواية التربية العاطفية، التي تروي حكاية حبه الأول الذي لم يستطع أن يتخلص من تأثيره عليه.
في تقديمه لقصة “عطر خفي” أو “البهلوانات” تتكشف الرؤية الفلسفية والاجتماعية التي يحاول التمثيل لها في هذه القصة الرمزية، التي يدين فيها التقدم المادي للحضارة الغربية دون أن يرافقه تطور فكري واجتماعي مواز يجعل الحياة أكثر اتساقا وعدالة، وذلك من خلال الصراع الذي يديره بين شخصيتين، تمثل الأولى القبح والثانية الجمال ضمن مجموعة من البهلوانات. تلعب جملة الاستهلال في هذه القصة الرمزية دورا أساسيا في وصف المكان الذي ستجري فيه أحداث القصة، بينما يتولى الراوي العليم مهمة سرد الحكاية وتقديم شخصياتها ونقل الحوارات التي تدور بين أبطالها، حيث تتوزع الحكاية على اثني عشر جزءا يختمها القاص بتعليق يكشف فيه عن دوافعه لكتابة هذه القصة، أو عن مقاصد اختياره للعنوان في إطار رغبته في نقد قيم المجتمع السائدة وفضح أخلاقياته المزيفة. بعد ذلك يتوجه إلى القارئ مباشرة لشرح معنى لذة الكتابة عنده وتجسيده لأفكاره الفلسفية، تاركا للقارئ المفترض حرية قراءة هذا العمل.
امرأة الدنيا
لعل السؤال الذي يلح على ذهن القارئ عند قراءته لهذه القصة، هو لماذا أراد الكاتب تأنيث الموت الذي يلقي بظلاله القوية عليه في هذا العمل، وفي أعمال قصصية أخرى عديدة؟ إن الإجابة عن هذا السؤال يمكن تلمّسها عند قراءة هذا النص الذي يمهد له بمقبوسين مستمدين من أعمال أخرى، ومن خلال أنسنة الموت وجعله من يتكلم في هذا النص الموزع على سبع وعشرين شذرة مكثفة وموحية وذلك بغية الكشف عن المعضلة الوجودية والتاريخية، التي يمثلها الموت بالنسبة إلى الإنسان وإلى الحضارات والتاريخ (منذ اليوم الذي طرد فيه آدم وزوجته من الجنة، مذ ذاك أقف، أنا ابنة إبليس إزاء الإمبراطوريات جميعها، وإزاء القصور كلها وأسحقها بقدميّ العظيمتين). في هذه الشذرات ثمة تعالق يلحظه القارئ على مستوى الرؤية واللغة بينها وبين مزامير داود.
على مستوى آخر يظهر استخدام فلوبير للحكاية في هذه المجموعة، كما في حكايته الطاعون في فلورنسا التي يتوّجها بمقبوس من رواية لألكساندر دوما. تبدأ الحكاية بالفعل الماضي المبني للمجهول (يُحكى) الذي يحيل على راو مجهول، كما هو الحال عادة في بداية الحكاية الشفوية. وكما كان يوسف ضحية كراهية أخوته وحسدهم، فإن الحكاية هنا تتحدث عن الغيرة والحسد بين شقيقين يقصدان عرافة لكي تتنبأ لهما بالمستقبل. وعلى غرار الحكايات الأسطورية تتحقق نبوءة العرافة، ويقتل الأخ أخاه حسدا وغيرة، كما يعبر عنه خطابه إلى أخيه قبل قتله (أنت لا تعرف كم يشبه الإنسان الشيطان عندما يحيله الظلم بهيمة متوحشة. آه كم تعذبني رؤيتك تعيش فَخُذْ). يكتشف الأب جريمة ابنه فيقوده ليرى مشهد أخيه المسجى غارقا في دمه فلا يكون من أخيه القاتل إلا أن يخرّ جثة هامدة. تعليق الكاتب على الحكاية في النهاية تكشف عن الأمثولة التي تحاول القصة أن تقدمها لكي يعتبر الآخرون منها.
حلم في مقبرة
تتجاوز جرأة فلوبير التمرد على العرف الاجتماعي وأخلاقيات المجتمع التقليدي إلى التمرد على سلطة الكهنوت الديني، ففي قصة الغضب والعجز التي يستهلها بعتبة مكانية يصف فيها المكان الذي ستجري فيه الأحداث، وهي قرية موسين التي يتوفى طبيبها الطيب بسبب تناول أقراص الأفيون للتغلب على أوجاع أسنانه. أثناء غيبوبته يحلم الطبيب أوملان أحلاما مطعمة بشهوات الحب ومسراته وبعالم الشرق بكل عطوره وزمرده وأزهاره وقوافله التي تعبر الصحارى، وبقصور حريمه موطن الشهوات الندية. لقد كان ( يحلم بالحب في مقبرة، لكن الحلم امّحى وبقيت المقبرة). بعد دفنه يصحو الطبيب من غيبوبته ليجد نفسه مكبلا داخل ظلمة تامة، فيحاول إنقاذ نفسه دون جدوى.
تتميز القصة ببنيتها السردية التقليدية كما هو الحال في أغلب قصص المجموعة، حيث يتسم السرد بالخطية والتعاقبية التي تتصاعد حتى تبلغ الذروة كاشفة عن النهايات المأساوية لصديقه الكلب فوكس ولخادمته التي تنتهي منتحرة حزنا عليه. وكالعادة يعلق فلوبير على القصة في النهاية، كاشفا عن نزعة التمرد التي يدعو إليها كمخرج لنا مما نحن فيه من بؤس وفساد وموت.
وظيفة العنوان
يلعب العنوان في قصص الكاتب دورا محوريا في تكثيف مضمون القصة أو الحكاية واختزاله، بغض النظر عن واقعيتها أو فنتازيتها أو بنيتها الحكائية، ما يجعل منه مفتاحا للدخول إلى عالم هذه القصص والحكايات. لا يكتفي الكاتب بعنوان واحد بل يستخدم عنوانا ثانيا يتعلق بمضمون الحكاية أو القصة، حيث يحاول من خلاله تحديد طبيعتها، ولكي يكشف عن مقاصده من هذه القصة أو الحكاية، وعن طبيعة الرؤية التي تنطلق منها في معالجتها لموضوعها.
وإذا كانت المترجمة بدأت المجموعة بقصة طويلة فإنها في النهاية تختار نص شذرات تظهر فيه ثنائية العنونة التي تحدد زمن كتابتها الخريف وطبيعة النص، الذي يسترسل بطل القصة وسارد وقائعها في وصف علاقته بفصل الخريف، ما يجعل النص يطغى عليه الطابع الإنشائي الذي يحاول من خلاله سرد سيرة حياته، والتعبير عن مشاعره دون أن تغيب صورة الموت عنها، أو تختفي تلك الرؤية الرومانسية عن لغتها أو عن مفهومها للحياة وعلاقتها بالطبيعة (تلذذت طويلا بطعم حياتي الضائعة. قلت بفرح إن شبابي مضى. من المفرح أن تشعر بالبرد يتسرب إلى قلبك، وتظل قادرا على القول وأنت تلمسه بيدك مثل موقد لا يزال ساخنا، إنه ما عاد يلسع).
______
*العرب