الأيام الأخيرة ل ” سركون بولص “


خالد المعالي *

الخريف الألماني في أبهى حلله، كنتُ أعيد قراءة كتابي سركون بولص: «حامل الفانوس في ليل الذئاب» (طبعة أولى 1996)، «اذا كنتَ نائما في مركب نوح» (طبعة أولى 1998)، لغرض إعادة تهيئتهما للنشر من جديد بطريقة أفضل، فيما كان ديوان: «عظمة أخرى لكلب القبيلة»، جاهزاً كمخطوطة مصممة، رسمة الغلاف كان قد أرسلها الصديق ضياء العزاوي، مقترحات صفحة الغلاف الأخيرة كنتُ قد هيأت عدة مقترحات لها. في القطار الصاعد من كولونيا إلى برلين، عدتُ وغصت في عالم سركون بولص الشعري من جديد… كنّا نشتغل باستمرار، أجهّز له المادة المكتوبة، وسركون يعيد قراءتها، ثم يعيدها لي مع ملاحظات قليلة أو كثيرة، أو حتى يحجبها حينما لا يصل إلى حلول معها، وهذا ديدنه منذ عرفته. لقد زرته قبل فترة قصيرة حينما كان في المشفى ببرلين، كانت حالته قد تحسّنت وبدا بمزاج رائق، وكنا برفقة صديقنا المشترك مؤيد الراوي، وطلبنا من شخص منا أن يتلقط لنا صوراً مشتركة – في ما بعد حينما تأملت الصوَر رأيتُ شبحَ ابتسامة على وجه سركون… وهكذا ترك المستشفى وعاد إلى شقة مؤيد الراوي التي تركها له لفترات طويلة لكي يُقيم فيها… وقد كان يتهيأ للعودة الى الولايات المتحدة، لهذا اتفقنا على اللقاء من أجل ترتيب أمور بعض الكتب، وخصوصا اللمسات الأخيرة على كتابه: «عظمة أخرى من أجل كلب القبيلة»، وذلك قبل عودته الى الولايات المتحدة التي كانت مقررة كما أتذكر في نهاية أكتوبر 2007.
ربما كانت الرابعة بعد الظهر حين وصلت إلى الشقة، بقيت أنتظر بعض الوقت حتى فُتح الباب. كانت حاله حال شخص يُحتضر. لم يكن هذا سركون الذي زرته قبل فترة قصيرة في المشفى البرليني! فوجئت بهذه الانتكاسة الصحية التي لم يخبرني عنها حينما كنت أهاتفه من كولونيا… كانت الشقة في وضع فوضوي، وموجات الآلام المبرحة تجعله لا يقوى على الجلوس ولا على الوقوف… وحينما تهدأ الآلام قليلاً… يعود سركون الذي أعرفه… رتبتُ ما استطعت ترتيبه في الشقة… صحون الطعام المحطمة، الطعام المتروك جانباً، الكؤوس الفارغة… أوقفت عمل المدافئ، فتحت الشبابيك لغرض التهوية. حين يعود هذا الصفاء إليه، وهو صفاء لفترات قصيرة… نتابع أمر الكتب، اتفقنا فوراً على مقتطف من مادة لعباس بيضون كان قد نشرها في «السفير» لكي تكون على صفحة الغلاف الأخيرة. رغم ان مادة عباس بيضون كانت وكأنها تنعى سركون بولص الشاعر إلى القراء… لكن كانت تقول المسكوت عنه، وقد أعطت سركون بولص حقه بالكامل. لهذا كان انحيازنا لها، حتى حينما جاء مؤيد الراوي وأعدنا مناقشة الأمر، توصلنا الى النتيجة نفسها.
سركون بولص كان يرفض العودة إلى المستشفى وهذا أمر أسرّه لي مؤيد الراوي! وبالطبع كان سركون يلعن المستشفى وقوانينه. كان يكره المشفى. يريد العودة إلى الحياة الطبيعية، حتى لو كانت تمنحه تلك الآلام المبرحة التي لا تجعله يقف ويتحرك ويعود ليجلس ثم يتقلّب ثم يعود ليقوم من جديد… كنا نعيش نثار حديث عام وخاص وأيضاً حول أعماله، نضحك رغم هذا ونشتم و… و… قال لي إن الأمر جدّي الآن… ربما لن يفلت منه… وإنه لم يفلح في كتابة المقدمة التي كان يريد كتابتها لترجمته لكتاب «النبي» لجبران خليل جبران، وإن مختاراته من الشعر التي ترجمها، لم يتسنّ له أن يُكمل تفاصيل سير الشعراء، وعليّ ترتيبه… وبطريقة ما، أضاف: «أنتَ تعرفها، كلها كتبتها بيديك، لا أحتاج أن أوصيك». كلام نسمعه وكأننا لا نسمعه، لا نريد أن نأخذه على محمل الجد أبداً.
كنت أعيش أقسى ألم وأداوي نفسي ببعض المشروب… كنّا نجلس وكأننا في خضم كابوس… وخصوصا حينما تكون عاجزاً عن المساعدة… تشعر وكأنك لا تتحكم بشيء. كلماتك عاجزة وأنت لا فائدة منك ومن كلامك ومن حكمتك… وكأنه ذلك المشؤوم يحاول أن يسلب لك روح صديق وأنت حاضر ولا حول لك ولا قوة… كان سركون قد جاء على ذكر أفاعي التوراة في كتابيه اللذين أعدت قراءتهما أثناء رحلتي بالقطار. وكنا في لحظات الصفاء نعود إلى السخرية فذكرت له بأنه ربما سبب آلامه هو تلك الأفاعي.. حتى صبّ جام غضبه… كنا نحن الثلاثة: سركون ومؤيد وأنا، في وضع مُحيّر فعلاً. وحينما قاربت الحادية عشرة ليلاً تركتهما وذهبت إلى حيث أقيم، واتفقنا على اللقاء في اليوم الثاني، ربما في الثالثة بعد الظهر…
في اليوم التالي، لم يُفتح الباب. حاولت بكل الطرق الممكنة أن أصل إلى باب شقته دون جدوى، لهذا اتصلت بمؤيد الراوي الذي ذهب إلى الشقة واستطاع بعد لأي فتحها، كان سركون الذي لم يفقد وعيه بعد، لكنه كان عاجزاً عن القيام، مطروحاً في المسافة بين المطبخ وغرفة الجلوس، خلال فترة قصيرة حضر الإسعاف وتم ترتيب نقله، بموافقته، إلى المشفى من جديد… كان وضعه خطيراً جدا، والآمال متدنية، هكذا أخبروا مؤيد الراوي، الذي رتب عملية فتح الشقة والنقل إلى المشفى… وكان خبر كونه في المشفى جيدا بالنسبة لي، لأنه سيكون هناك تحت عناية الأطباء الدائمة… وبالتالي اعتبرت الأمر أننا تجاوزنا الخطر… وهذا كان رأي مؤيد أيضاً.. وخف شعوري بالقلق، وكنت أنتظر أخبار مؤيد الذي كان على تواصل مع المشفى. في الصباح التالي كانت الحالة لم تتحسن، وكنت أريد العودة إلى كولونيا… وقبل العاشرة بقليل في صباح الثاني والعشرين من اكتوبر، فيما كنت جالساً مع ناشري وناشر سركون الألماني جاء اتصال مؤيد بأن الأمر انتهى…
جملة واحدة بالميل الى الأصدقاء صمويل، كاظم، اسكندر، بعض الجرائد… وخلال فترة قصيرة كنا، في المشفى… كان ما زال مسجى في سريره، وجهه هادئ تماماً. لم يعد هو وجه سركون المتألم. فهو منسرح تماماً وكأنه نائم ومطمئن. بعد فترة قصيرة تكاثر وصول الأصدقاء وأخذ تلفوني لا يتوقف عن الرنين… تلفزيونات، جرائد، مسؤولين الخ… حينما كنتُ واقفاً خارج غرفة سركون بالمشفى، فاسحاً المجال لغيري من الأصدقاء والمعارف من أجل إلقاء نظرة وداع، لمحت ممرضة فاتنة الجمال، بقيت أفكّر: ربما هي ملاك الموت الذي أخذ روح سركون قبل قليل.
كان علينا إجراء الترتيبات اللازمة… وهكذا وجدنا أنفسنا في اليوم التالي ونحن نجلس في مقهى برليني ونتقبل التعازي.
كم كان سركون بولص شاعراً بحياته ومماته؟

*(شاعر عراقي مقيم في بيروت)
السفير الثقافي

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *