*توفيق عابد
يكشف المؤرخ الراحل الدكتور عبد الكريم غرايبة تفاصيل أحداث تاريخية تخلخل ما تعلمناه وتضيء محطات أخرى ربما لا تزال خافية على الكثيرين ويجيب بأمانة علمية بعيدا عن المجاملات التي تمنح بطولات دون معارك وتبعدنا عن الحقيقة التاريخية.
الكتاب المؤلف من 96 صفحة والصادر عن دار البيروني للنشر والتوزيع، يستند في معلوماته على مقابلة أجرتها القاصة سحر ملص مع المؤرخ الراحل، وحوار معه استضافه منتدى الرواد الكبار، وجمعت ملص المادتين في كتاب حمل عنوان “رحلة عمر”.
يبدأ غرايبة بطرح سؤال عن من هزم نابليون في عكا الفلسطينية؟ ويجيب بأن الكل يكتب أن أسوار عكا هي التي صدت نابليون، فكيف يكون ذلك والأسوار بنيت بعد هزيمة القائد الفرنسي؟!
واستند لما كتبه المؤرخ اللبناني أسد رستم في دراسته حول القضية ويقول إن جيش نابليون دخل عكا ولم يجد من يصده، وفي أزقة المدينة تصدت له نساء عكا لا رجالها.. كان لكل بيت مشربية فقامت النساء بدفع المشربيات وقوارير الزرع وسقطت على رؤوس الجنود وهن يصرخن فهرب الجنود من الشوارع.
أما السور فقد بناه أحمد الجزار بعد حملة نابليون، والطريف أن الناصري -وهو رحالة جزائري- كان موجودا أثناء الحصار ولم يستطع الخروج وسجل الوقائع، كذلك كان أميرال بريطاني مع أسطوله في الميناء وسجل ملاحظاته التي اتفقت وملاحظات الضابط البريطاني التي تصف كيف انهزم الجنود الفرنسيون في أزقة عكا على يد نسائها.
أين المؤرخون؟!
ويتساءل لماذا لم يذكر المؤرخون العرب ذلك؟! ولماذا نسبوا النصر لأحمد باشا الجزار؟! وهنا يرى غرايبة أن الفقهاء لا يريدون أن ينسبوا أية حسنة إلا لممثل السلطة وهو أحمد باشا الجزار الذي كان في الحقيقة يتهيأ للهرب لكنه فوجئ بالنصر النسائي كما ورد في “رحلة عمر”.
ويقول إنه يمارس صناعة التاريخ منذ أكثر من ستين سنة بحثا وكتابة وتدريسا ودائما ينحاز للحقيقة، ويعتبر التاريخ ضارا وأشعته أخطر من القنابل النووية. فقد طلب من الملك الأردني الراحل الحسين بن طلال تشكيل هيئة تكتب التاريخ بصورة إنسانية، وبعد اتصالات رسمية بإيران وتركيا جاء الجواب غريبا من شاه إيران “إن الموازنة أعدت ولم يتبق فيها مخصصات لمثل هذه اللجان”.
ويواصل سرد الحكاية فيقول “التقيت مستشار الشاه وقلت له إن الجامعة الأردنية وحدها تستطيع تأمين خمسة آلاف دينار.. نحن لم نطلب أموالا.. نحن أردنا مساعدة معنوية، فأجاب: لكن الشباب المثقف في إيران يكره العرب بصورة غريبة ولا نستطع حملهم على الاشتراك في مثل هذه اللجنة”.
الأمير والشاعر
ويسرد المؤرخ الراحل لقاء بين مؤسس الأردن الأمير عبد الله عندما وصل عمان في الثاني من مارس/آذار 1921 وشاعر كردي دمشقي ألقى قصيدة اعتبرها الناس مدحا واعتبرها الأمير الذكي قدحا ومنها:
أنا لا أشكو دنى أمتي/ فبقومي كان إذلال الجسور
إنما يوشك أن يبكيني/ غفلة القادة منا والصدور
فهو يتهم القادة والصدور بالغفلة.
ويصحح معلومة عن وصول الأمير عبد الله من المدينة المنورة إلى عمان، ويثير سؤالا: إذا كانت الثورة العربية الكبرى خربت الخط الحديدي الحجازي فكيف وصل الأمير إلى عمان؟! إن الثورة لم تخرب الخط بل عطلت بعض العبّارات وتم إصلاحها بسهولة.
ماذا قال روزفلت للمصريين؟
ويكشف “رحلة عمر” ما قاله الرئيس الأميركي السادس والعشرون ثيودور روزفلت -وهو الحائز على جائزة نوبل للسلام- عندما وصل أسوان مهنئا المصريين على “نعمة” الاستعمار البريطاني وتمنى أن تدوم هذه “النعمة” إلى الأبد، فنظم شاعر النيل حافظ إبراهيم قصيدة يرد على روزفلت لكنه لم يدرجها ضمن ديوانه.
وفي هذا الشأن يقول “كل الأمور تتغير إلا مصر لم تتغير.. مصر بلد غريب فهي الدولة الوحيدة التي لم تتغير حدودها منذ 4000 عام.. نيلها راسخ في كل العصور والأرض حوله تسمى “كمت” أي اللون الكاتم، والأرض البعيدة عن النيل شرقا وغربا تسمى “دزراتا” وهي من أصل كلمة
“دزرت” أي الصحراء.. العرب سموها مصر لسبب غريب والكلمة يمنية، وأزقة الفسطاط حتى يومنا هذا تحمل أسماء قبائل يمنية، وهذا يعني أن الجيش الذي قاده عمر بن العاص كان في أغلبه يمنياً”.
العرب والإصلاحويتساءل غرايبة “نتكلم دائما عن الإصلاح الذي يفترض وجود خراب فلماذا لا نقول تطويرا بدل إصلاح، فالشعوب العربية لا تحب الإصلاح، فقد وصل دمشق عام 1830 سليم باشا وجمع أعيان المدينة وقال لهم: الأزقة مليئة بالأولاد.. يجب أن نبني مدارس ليتعلموا.. نريدهم التبرع لهذه الغاية”، فاجتمع الأعيان في “الربوة” وقرروا الثورة على الباشا الذي يسعى لأخذ أموالهم وأولادهم وبدأ التمرد يوم الجمعة منتصف سبتمبر/أيلول 1831 وأحاطوا قصره بالخشب وأشعلوا النيران ومات الباشا مخنوقا، الأمر الذي أثار غضب إسطنبول وأعدت حملة تأديبية بقيادة إبراهيم باشا الذي جاء فاتحا لسوريا ونسي العثمانيون قصة سليم باشا.
ومرة أخرى يتساءل “لماذا نجح الإصلاح في اليابان ولم ينجح في أي بلد عربي؟!”، ويضيف موضحا أن اليابان بدأت الإصلاح ثم التفتت إلى الجيش أما نحن فدائما نبدأ بالجيش الذي لا يبقي أموالا للإنفاق على الإصلاح، حسب تعبيره.
ويتحدث غرايبة عن لجنة أميركية أرسلها الرئيس ولسون عام 1941 لاستطلاع رأي العرب في الحكم الأميركي، فأبدى معظم المشاركين رغبتهم في خضوع البلاد للحكم أو الانتداب الأميركي، غير أنه “لحسن الحظ جاءنا انتداب فرنسي بريطاني ولو جاء الأميركي لما بقي ناطق بالعربية كما حدث في هونولولو”.
وأثناء تدريسه التاريخ في جامعة دمشق، طلب منه الجيش السوري عام 1958 جمع وثائق النضال السوري فجمعها في صندوق كبير كتب عليه “لا يفتح إلا بعد زمن طويل لا يقل عن ستين عاما، قالوا: لماذا؟ أجاب: لأنه إذا فتح ودرست الوثائق لن يثق إنسان في بلدكم بأي زعيم”، حسب ما جاء في كتاب “رحلة عمر”، ولغاية 1980 كان الصندوق لا يزال مختوما بالشمع الأحمر.
_____
*الجزيرة.نت