*ترجمة: عدوية الهلالي
عن طريق الصحافة ، دخل الروائي الكولومبي الحائز على جائزة نوبل للآداب غابرييل غارسيا ماركيز عالم الكتابة ، وقبل ان يكون روائيا عالميا شهيرا ، منحته تحقيقاته الصحفية وأسلوبه المتفرد وقدرته على تصوير العالم عبر حقائق مختلفة سمعة مقدسة ..
حين غدا روائيا ، كتب رواياته كما فعل مع مقالاته ، بنفس العاطفة ونفس الفضول ونفس الرغبة في تحويل الأشياء الى ألغاز يصعب على الجنس البشري تفسيرها ..كان يعتبر نفسه ( صحفياً في كتابة الرواية ) كما اعتبر الصحافة دائما كصنف أدبي متكامل ..
خاض ماركيز أول معاركه الصحفية في بارنكويلا عند مشارف البحر الكاريبي حيث كان يتجمع اغلب كتاب وفنانو البلد ..كان يسكن في فندق رخيص ويكتب تحت اسم مستعار هو ( سبيتموس ) واستمد من تواجد الرسامين والمومسات والفقراء الكثير من أفكار كتبه المستقبلية ..بعدها ، أقام في بوغوتا ليعمل في صحيفة الاسبكتادور وعمل كناقد سينمائي أولا ثم كمراسل صحفي وكاتب.
في عام 1955 نشر قصة ( المنبوذ ) في صحيفة الاسبكتادور وكانت تتحدث عن الناجي الوحيد من الغرق في حادثة السفينة الكولومبية التي غرقت بسبب الإفراط في الشحن والتي حاولت السلطات إخفاء حقيقتها ، لكن قصة ماركيز كشفت الحقيقة وفنّدت الرواية الرسمية للسلطات مادفع مدير صحيفة الاسبكتادور الى إرسال محرره الشاب الى أوروبا ليعمل مراسلا أجنبيا لجريدته حيث أقام في باريس خلال حرب الجزائر …
في تلك الفترة ، تجول ماركيز كثيرا في أوروبا ونشر في ذات الوقت ثلاث روايات هي (الأوراق الذابلة ) عام 1955 ، ( ليس لدى الكولونيل من يكاتبه ) عام 1961 ، ورواية ( مالاهورا ) عام 1962..
بعد إغلاق صحيفة الاسبكتادور من قبل السلطات الكولومبية ، تعاون ماركيز مع مجلة ( النخبة ) الفنزويلية و( كروموس ) الكولومبية ..ومنذ سنوات الستينات ، كان واحدا من الرواد المبادرين بشان الحركة الأدبية في أميركا اللاتينية والصحفي الذي لم يتوقف يوما عن اختراع فن القصة !!
وبسبب كونه محكوما بالنفي عن بلاده ، لم يعد ماركيز قادرا على العودة اليها وتقسمت حياته بين باريس وبرشلونه وبوغوتا ومكسيكو سيتي فاتخذ من تلك المدن قواعد لمهاجمة الحكومات الفاسدة في العالم ..
لم يكن ماركيز صحفيا عاديا بل كان ديبلوماسيا دون جواز ديبلوماسي اذ كان يتم إرساله الى جميع الجبهات وكان يعيش النضال ويمارسه الى جانب حركات التمرد في أميركا الجنوبية ..وقد ارتبط ماركيز بصداقات مع معظم كتاب العالم ومنهم خوليو كورتازار ، خوان كارلوس اوينتي والفارو موتيس ..وخلال أسفاره ، كان يلتقي رجال السياسة واشتهربصداقته لفيدل كاسترو ثم فرانسوا ميتران واولوف بالم ..
لم يمنعه انشغاله بالصحافة من نشر روايته ( الرحلة الأخيرة لسفينة الأشباح ) عام 1968 ثم ( الوقائع الحزينة التي لاتصدق لارانديرا الطيبة وجدتها الشيطانية ) عام 1972 ..وفي عام 1969 ، كان قد بدأ بكتابة روايته ( خريف البطريريك ) ثم تركها واكملها عام 1975 وهي تروي قصة جنرال عجوز يمارس الجبروت والظلم وينتهي نهاية تليق بديكتاتور ، واعتبر البعض هذه الرواية نبوءة حول الانقلاب على الجنرال بيونشيه في شيلي خاصة وان ماركيز تأثر بعمق واشمئزاز بأحداث سانتياغو واعلن الحداد ولم يكتب لمدة ست سنوات ..
في نهاية عام 1981 ، عاد الى الكتابة مع رواية ( وقائع موت معلن ) مأخوذا بقصة واقعية روتها له والدته وكان قد اقسم لها انه لن يتناول أيا من الشخصيات التي مازالت حية في روايته ، وكشفت هذه الرواية القصيرة الى حد ما عن موقف ماركيز من الموت وفكرة القدر المحتوم ..
في تلك الفترة ، تحدثت الصحف والأوساط الأدبية عن ترشيح ثلاثة كتاب لنيل جائزة نوبل للآداب هم البرازيلي جورج امادو والتركي يشار كمال والكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز – كما ذكرت فرانسواز اكزناكيس في صحيفة ( لوماتن دو باريس ) ، وفي تشرين الثاني من عام 1982 ، منحت أكاديمية ستوكهولم جائزة نوبل للأدب للعبقري غابرييل غارسيا ماركيز ..
وفي حفل استقباله في الأكاديمية حيث حضر مرتديا البدلة البيضاء القطنية التي يرتديها مزارعو بلده كان خطابه متوقعا اذ رفع اصبع الاتهام بوجه الحروب الاستعمارية والنهب والاعتداءات الامبريالية وكل الديكتاتوريات المعادية للتقدم ..وردد أمام الجميع : “بمواجهة القمع ..النهب ..والإهمال ..جوابنا هو الحياة ..يوتوبيا الحياة ”
مع ذلك ، واجه ماركيز حملة تشويه كبيرة في الصحافة الفرنسية لصداقته بالزعيم فيدل كاسترو ، فكتبت عنه دومينيك جاميه في صحيفة ( كوتيديان دي باريس ) مقالا بعنوان ( غارسيا ماركيز …ياللأسف ) وقال عنه لويس باولز في افتتاحية مجلة ( لافيغارو مكازين ) في 18 كانون الأول عام 1982: ” قرات روايات ماركيز ..انها تتمتع بقوة إعجازية ، لكنه للأسف يفخر بصداقته الحميمة مع فيدل كاسترو ثم يدعم الحركات الثورية ويعلن موالاته صراحة للاتحاد السوفيتي ..فهل يعني فوزه بالجائزة اختيار رائد للإنسانية ” ..
لكن ماركيز لم يكن يوما كاتبا متخصصا بنظر أقرانه وزملائه فقط بل كان كاتبا شعبيا ومقروءا في مختلف بقاع العالم .انه ( نجل القارة الهندية ) الذي لم ينكر يوما التزاماته تجاه بلده وقارته عموما وكان يندد دائما بالامبريالية الأميركية ، كما ان ماركيز ليس شيوعيا ولم يكن يوما كذلك …
كان يردد دائما : ” ايديولوجيتي الوحيدة ..هي الحب ” ، وكان ملتزما تجاه الفن وكرامة الإنسان وكتب عمودا بشكل منتظم في صحيفة ( ايلباييس)كما نشرت مقالاته في اكثر من عشرين صحيفة ماساهم في زيادة شهرته كصحفي وليس ككاتب فذ فقط ..
ذات مرة ، التقاه الكاتب الأرجنتيني خورخي ريتر في بنما وسأله أين ستكون روايته المقبلة فأجاب ( غابو ) –كما كان يطلق عليه اللاتينيون توددا -بظرافة قائلا : ” انها جاهزة ..لاتحتاج الا الى كتابتها !!” لكن ماركيز لم يكتبها ابدا ورحل عن عالمنا في نيسان الفائت عن سن ناهزالـ 87 عاما ليترك إرثا أدبيا نادرا وسيرة حياتية وأدبية استثنائية لكاتب استثنائي.
_______
*المدى