إله الجحود


*مزوار محمد سعيد

( ثقافات )

لَيْسَ عَلَيَّ تَحَمَّلُ الوجود المتطفل لكل سارق فلسفي، هناك الكثير من الرداءة التي توصد أبواب البحث الجاد في وجه أصحابه، هذا ما اكتشفته وأنا أحاول الأخذ بحبل الوجود الفلسفي الخالص. إنّ العلاقة بين المفكر وفكره هي علاقة معقدة جدا، هي تستقي أشكالها الغربية من طبيعة المسلك العام التي تولد فيه الفكرة ذاتها لأنها انتاج ومنتوج إضافة إلى أنها مجال لتنفس الإنتاج ذاته أيضا، هي كيان مستقل عما يُعتقد أنه مكون أساسي للفترة التي من شأنه الأخذ بكافة أطراف البعد الفكري المتواجد في ضمنها. لا يمكن لهذه العلاقة أن تسافر أو تبتعد ولو خطوة على منشئها، لأنها كوردة لا يمكنها أن تبقى حية حين تستبدل تربتها. ما من أمر يستعصي على الوضوح، كل الأمور لها حلول مهما بلغت درجات تعقيداتها، إلا أن العامل البشري يضع أمام كل مفك بعض المشوشات على عمله الدائري، فصب أن يتم التخلص من التعقيد، لكن هذا لا ينف إمكانية حدوث ذلك. “… كذلك الإمامة والافتاء والقيادة والدعوة الدينية والادارة والرئاسة والريادة وغيرها من المقولات المزدانة هي صناعات. قد ترادف فكرة الصناعة فكرة التخصص، ولكنها أوسع وأعمق من حيث العلامة والدلالة… ” لا توجد قداسة في عالم البشر، ما هو موجود هو موهبة، هذا أمر مقبول من باب اختلاف الأفراد واختلاف مستويات قدراتهم، لكن في ظل الوجود البشري المتفاوت من حيث البنيات والقدرات، فإنه يمكن القول بأن أقدر البشر على التفاعل هو أقدرهم على الأخذ لناصية الارتقاء، فما فائدة الموهبة كوجود إن لم تطعّم بالتواجد؟ قاصرة الفطرة وحدها، وكل استعداد للخوض في هذه الامكانية تجعل العالم البشري مسارا حافلا بالانكسارات التجديدية. التمعّن في مكاسب السلطة المقدسة على البشر لصالح أفراد معينين يجعل بعض الأفكار الهشة غير قابلة للاختراق، فهذا ما يصطلح عليه بمحاربة الابداع. يمكن تعريض أي موضوع للدراسة والتحليل، مهما كان، يمكن تطوير وتحسين أي فكرة كانت، هذا ما سمّاه الفيلسوف الجزائري بالصناعة. صناعة الفكرة يكون وفق كيفيات وأدوات، يمكن لأي فرد حامل لاستعداد ما أن يجعل من الفكرة عجينة تنتج نسخا مطوّرة لمسعى الكثافة الموضحة، كثافة تقليدية يمكنها أن تعدّل أداءها ونموذجها المؤثر، بسلوك المسار السليم طبعا، سلامة تكون مرهونة باختيار المناسب من لوازمها (المكان، الزمن، الجهد). مجال التفرد البشري هو العالم الأرضي، ما دام هو باق فوق أرضه الفيزيائية، فإن له من القوة القدر الكافي لأن يقتني أفضل الصناعات الموجودة لديه، ليعطي لها الفضاء الأنجح لمساعدتها، هذا كله ممكن. لا خوف من الشعور إن التزم بالصدق، بل كثافة المعلومات هي التي تجعل من الاستعمالات أمرا شرعيا ومأثورا، لأنّ القوة التي تتكمن من الإنسان هي التي تحرّك مداه باتجاه المرح المترجّل، وهذا ما يعكس القدرة على تبني الابتسامة أينما حل الفرد وارتحل؛ كذلك الفعل البشري! هناك فعلا قدرات لا تظهر للطاقة العينية للبشر كافة، هناك فعل يتجاوز العقل عندما تتحرك الأحاسيس بمصدر مباشر، ليكون الفعل أمرا يستحق الاقدام. يجلس الرجل الميت محدقا في الأرجاء، تراوده أفكار عن النشأة الأولى، حيت يضبح حليا به أن يقدم تفسيرا واضحا عن الوضوح، عن الحب والإغراء، عن العقل وتماهيه، عن كل أمر يخوض فيه، وكأنّ الدليل هو أعلى صور العمق، وكأن المؤانسة هي أعتق مباهج الزمن. وبينما الرجل الميت على تلك الحالة مرت على ذاكرته عصفورة، اتخذت لها مكانا في احدى مناطق تفكيره فارتعب، خاف من العصفورة، في هذه الأثناء، سمع صوت نداء، نداء من بئر مظلم يقول: إنك خائف من أضعف الموجودات، فلما الخوف؟ القداسة هي الدلالة الأولى عن الخوف، هكذا تبادر إلى ذهن الرجل الميت أن يجيب، لكنه تردد، لربما يكون الخوف أمرا آخر غير معروف!! ثم أعاد النظر وراجع التأمّل، الخوف هو أيضا خائف من خوفه، فما خوف الخوف إذن؟ من الطبيعيّ للغاية أن يخاف الناس، لأنّه الفاصل بين النظري و العملي، بين الموت والحياة، بين المادة وجمودها، بين البشر وبشريته، بين القوة ومفعولها، الخوف هو الفاصل بين الفصل والفواصل، هو معبّر عن مساحة إنسانية مهيبة، حالة من الاضطراب والتشتت، ليكون العامل الهام في كافة خصائص المسار الإنساني هو أمر وحيد بلا توأم: إنه خوفه. يتخذ الرجل الميت جلسة دفاعية ثم يعود إلى أولى مبادئ التفكير، إلى فكرة متمرّدة، ويضع سؤاله على قارعة طريق مستطيل ليعالج قضيته انطلاقا من مسلكه المحدد، ليقول: أنـــــا خائف إذن. الخوف هو جزء من الإنسان على ما أعتقد، هو محرك يدور بلا بوصلة معروفة، فيدفع البشر إلى تحويل العالم من مكان مظلم إلى غير ذلك، فهناك من يزيد في ظلام العالم بظلام الخوف من خوفه، لكنه هناك من ينير العالم بسبب الخوف. لأنه هناك فرق ليس هينا بين ما يمكن للإنسان ارجاعه إلى ذاته، وما بين أن يكون العالم أقرب من ذاته، هي صورة رائعة لكل من الرجل الميّت وذاته. قد يصب معنى الخوف في اتجاه متوفر لدا الجميع، لكنه تميّز بين ذوات مختلفة، فئة منها تخشى، وفئة منها ميسر الخشية فتصرف خوفها بعيدا، لتنتصب محلة تلك الطاقة المتداخلة بين علامات الحيرة ومقدرة المبدع على ايجاد البديل. أضعف الموجودات قد يجعل من اشرسها وأقواها خائفا، لا يتعلق الخوف بسلّم القوة والضعف، وإنما هو يرتبط بشكل مضمر بالنفس البشرية حينما تحاور أرواحا، إنها مفارقة لكل ما من شأنه احداث المزايا العملية لما هو متواري وغير خاضع للتجريب، ربما هذا ما يضعه في خانة الترهيب. مشاعر الإنسان مثل ريش العصفورة، نعومتها مخيفة، تحث الفرد الإنساني أن يكون مؤذيا، جاعلا من سلاسة وضعه مرتكزا هاما على كل أمر خاضع لأعتى موجات الكيان الخائف، هو الخوف الذي يرثه الإنسان من أقرب الأرواح إليه، روح العصفورة التي تعامل نفسه بكافة أنواع اللطف والعطف. لا يمسك الزمن سوى خوف متبدد في الأرجاء، حينها يحلق الرجل الميت بعينيْن مركزتيْن إلى مصارع الكون ليكون جزء من منظومة اجباريا بطريقة لا مجال فيها للشك، هذا ما يدفع الإنسان إلى خوفه مضطرا ومجبرا، لأنّ الفرد المؤمن هو خائف، والفرد العاقل هو خائف أيضا. ليكون للخوف وجهان، وجه مدمّر للحياة (مؤمن)، ووجه خالص للحياة ومحرّك لها (عاقل)، هناك وجهان يداعبان مشاعر الرجل الميّت، هو يحاول التركيز عليهما، لتكون له فرصة مناسبة يقضي من خلالها على مدركاته دون علمه العيني، إنها أجمل اللحظات عندما يدرك الفرد أن الأمر الذي راوده يحتمل الاحتمال، لأنّ الاحتمال هو مفتاح يؤشر ويشير إلى راحة غير عجولة. هكذا خاطب الرجل الميت تفكيره. مسلك البطولة هو طريق للخائفين المقاومين، مسلك للعاقلين، بينما من تحيط به قداسة الخوف بقي في هامش الموت، بقي على حدود الخط الأحمر لا يتجاوزه، ومن لا يجوز له تجاوز الخط المحمر، فإنه سيولد ويموت عاريا في زمن ولد فيه الرجل الميت عاريا ومات لابسا للحرير. غير معروفة تلك الدافعة التي تحمل الرجل الميت إلى عصفورته فيواجه خوفها بحزم وعزم، الحزم من أن خوفه عاملا مبددا لخوفها هي، والعزم على قهر خوفها ولو على حساب خوفه هو، نعم! هذه الأمور تخرج عن قدرة المألوف والمعلوف، لكن لا بد من تبني ما هو خاضع للزمن، لأنه وحده من يمكنه تعجيل صدقه، أمام آلاف المارة بل الملايين، يبقى الرجل الميت خانعا لتفكيره في “الخوف” ذاك الذي استولى على مقدسات فكره، وراح ينسج أفكاره وفق الحياة ولا حياة، معتمدا آلية الفينومينولوجيا الجديدة، طريقة تبعث المتأمّل في تأمّل الرجل الميت فعلا فكريا جديدا، لكن من يخدعه العنوان لن يجد طابعا محددا للاطمئنان، لتصبح المعرفة أمرا وراثيا، لكنها جهل معرفيّ يأخذ شرعية جليلة من زيف مخفيّ، فيكون للخوف دورا في تزييف الخوف، واحلال بركة المجانين على علم العارفين. ألم الصدق الشعوري يبدأ من مصدر أساسي هو جرح الإحساس الناتج عن خوف من تركات المجتمع المريض، ما يجعل العصفورة في خوفها تتخبط ليس الخطر المعروف والمتداول، إنّ الخطر ليس مخيفا، لكن المخيف المتعلق بالخطر هو النتيجة التي تُسوّق كحادثة تُرجعها إلى عامل الخطر، هذا ما سلكته العصفورة عندما أحست بالخوف، خوف من خوفها لا غير. قد يلتصق الخوف بكل ما هو مقدس، وهذا ما يجعل تأويل كل التفاعلات مفتوحة أمام البشر، لكن هناك الكثير من المدركات المخفية في هذا العالم، فيبدوا الادراك المنبعث منها سوى عملية هجينة مؤثرة وغير مدروسة، هذا ما يجعل المقدّس مخيفا، إنها قدرة على الاصطدام بما هو معلن، لكن الخفاء هو متخلف عن خوفه، فالخوف المتعلق به هو كنتيجة لما روي عنه، فلا أحد امتلك المقدس، ومنه فإن الكثيرين هم خائفون لأنهم عاجزون أمام مظاهره ومظاليمه. 

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *