فصول من السيرة الذاتيّة للكاتب الفيلسوف كولن ويلسون


*ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي

ظلّت السيرة – و السيرة الذاتيّة بخاصة – ولم تزل حتى يومنا هذا ، ذلك اللون الأدبي المطلوب الذي يتقدّم على ما عداه من الألوان الأدبيّة كونه يستهوي مختلف فئات القراء في زمننا، و أحسب أنّنا لو خُيّرنا بين قراءة عملٍ لكاتب ما و بين قراءة سيرته الذاتيّة فإنّ أغلبنا سيختار قراءة سيرته الذاتية أوّلاً مدفوعين بفضولنا البشري، و لا يقتصر الأمر على سِيَر الكتّاب والأدباء والروائيين والشعراء بل ينسحب إلى العلماء المشتغلين في التخصّصات العلمية ممّن نالوا جوائز نوبل أو كان مشهوداً لهم بإنجازاتهم المرموقة في ميادينهم العلميّة إلى جانب عددٍ كبير من المفكّرين و الفلاسفة في شتّى الاشتغالات المعرفية الأخرى ، و لعل السبب في هذا الشغف بأدب السيرة الذاتية يعود إلى كونها تمثّل كشفا لأسرار واعترافاتٍ مثيرة وإضاءاتٍ ومواقف من حياة صاحب السيرة ، فثمة رغبة طاغية لدى القراء لتفحّص الجذور الأولى والاطلاع على الأسرار الصغيرة التي شكلت وبلورت فكر الشخصية التي يقرأون سيرتها الذاتيّة.

فحين يتصدى الكاتب لتدوين السيرة –يتمتع غالبا بمساحة وافرة من حرّية البوح فيكشف عن تفاصيل دقيقة و مخبوءة بين ثنايا الذاكرة لا يمكن إدراجها في فضاءات أدبية أخرى غير فضاء السيرة الذاتيّة ، و لابد أنّ أغلبنا عاش التجربة الفريدة لدى قراءته سيرة ذاتية لكاتبٍ ما وتملّكته الدهشة لمعرفة حقيقةٍ صادمة أو سلوكٍ استثنائي أو واقعةٍ غريبة لم تكن لتخطر له على بال . وهناك جانب براغماتي – نفعي يضاف إلى الاهتمام الكبير الذي توليه المجتمعات الحديثة و الليبرالية لكتب السيرة الذاتيّة وهو معرفتها بأن الخبرات الثمينة و خلاصات تجارب المبدعين -التي لا يشار إليها في كتبهم وحواراتهم – ينبغي أن لا تضيعَ هباءً بعد رحيلهم عن عالمنا ولابدّ من توثيقها ونشرها لتغدو سجلاّ حيًا و نابضا بالخبرات المتحصلة في حياة إنسان اجتهد و أخطأ في مواضع و أصاب في أخرى و تعرض في حياته لكثير من الإغراءات والمخاوف و الإخفاقات و الحب و الكراهية والنكوص والتفوق و غيرها من حالات متناقضةٍ تنطوي عليها حياة المبدعين الثريّة بتنوعها و وُعورةِ مسالكها وأخطائها وغرابتها واستثنائيتها ما يشكل ذخيرةً قيّمةً من معرفةٍ إنسانيّة يتوجب تمريرها إلى الأجيال اللاحقة ، فلا نفع يُرتجى من سيرة ذاتيّة تحكي عن كائنٍ بشري يبدو أقرب إلى روبوت ملائكي مثالي تسيّره تعليمات ربّانية صارمة تنحو إلى تحقيق الفضيلة المطلقة والاستقامة المملة كما لو كان هذا الشخص كائناً افتراضيّاً يعيش في بيئةٍ غير بيئتنا الأرضية بما يحتشد فيها من الثنائيات المتناقضة و المكمّلة لبعضها، ونجد هذا النمط من السِيَر الذاتية المصطنعة شائعا في بيئتنا العربيّة و المشرقيّة عامة، إذ يتحول فيها فنّ السيرة الذاتيّة إلى مذكّرات حافلة بالوقائع البروتوكوليّة المقتصرة على سِيَر الزعماء و رؤساء الأحزاب السياسيّة و بعضٍ ممن يُعدون نجوم مجتمع مزعومين إذ تأتي سِيرَهم – التي يدونها محررون مأجورون – تجميعاً لوقائع مثالية منتقاة تعلي من شأن صاحب السيرة الملائكي وتبيّض مسيرته ولا تنتمي إلى عالم الأفكار النشطة المتفاعلة مع نبض الحياة المتحرّكة فتأتي الحصيلة كتباً عقيمة لا تهبنا أية خبراتٍ جديرة بالاعتبار ،على الضد مما يحصل في كتب السيرة الصادقة التي تنتجها المجتمعات الديناميكية الخلّاقة.
فيما يلي ترجمة للفصل الأوّل المعنون ( أن نعيد للرب تذكرة دخول الحياة …..) من السيرة الذاتيّة التي نشرها كولن ولسون عام 2004 تحت عنوان ( الحلم بغايةٍ ما Dreaming To Some Purpose ) و أراها أفضل ما يمكن عمله في الذكرى السنوية الأولى لرحيله، ولابد من الإشارة هنا أنّ الكاتب كان قد نشر سيرته الذاتية الأولى بعنوان ( رحلة نحو البداية : سيرة ذاتية ذهنية ) في أواخر ستّينات القرن الماضي و ترجمها سامي خشبة و صدرت عن دار الآداب ببيروت ، و لكن ثمّة فروق بيّنة بين السيرتين : إذ جاءت السيرة الأولى مثقلة بتفاصيل كثيرة تخصّ علاقاته مع الآخرين ، أمّا سيرته الثانية فقد بدت أكثر تركيزاً على فضاء الأفكار التي شكّلت فكر الكاتب و استمدّ منها ينبوع إلهامه على مدى حياته الحافلة بالنشاط الكتابيّ في اشتغالات معرفيّة متنوعة كانت حصيلتها أكثر من مائة كتاب مطبوع خلال ستين عاماً لم يتوقّف خلالها عن النشر حتى غادر عالمنا في بدايات كانون الأول 2013 .
لطفية الدليمي
الفصل الأول:
أن نعيد للرب تذكرة دخول الحياة…
عندما بلغت السادسة عشرة من عمري عزمت على الانتحار ، و لم يكن قراري هذا محض نزوة عاطفيّة وليدة لحظتها بل كان يبدو قراراً منطقيّاً بالكامل في لحظة اتّخاذه : كنت قد تركت المدرسة الثانويّة في تمّوز 1947 بعد شهرٍ من ميلادي السادس عشر و كنت أتطلّع للحصول على منحة جامعيّة و لكن شاء والدي أن أنخرط في العمل لأساهم في مصاريف البيت من غير تأخير . كان والدي يعمل في صناعة الأحذية و لطالما عمل لقاء ثلاثة جنيهات في الأسبوع خلال عقد الثلاثينات و كان عليه -إضافة لعمله الشاقّ في صناعة الأحذية -أن يعمل في تقديم المشروبات الكحوليّة لزبائن أحد النوادي الليليّة ليجعل أوضاعنا المالية تمضي بلا عقبات خطيرة ولكنّه قلّما أفلح في مسعاه هذا ، و كان أخي الأصغر ( باري ) قد ترك المدرسة منذ سن الرابعة عشرة ليعمل صبيّا لأحد الجزّارين و لكُم بعد هذا أن تتصوّروا كم كان والدي ممتعضاً لفكرة أن يواصل دعمي ماليّاً للسنوات الّلاحقة التي تتطلّبها دراستي الجامعيّة المنتظرة.
كان طموحي الأعظم أن أًصبح عالماً منذ أن قرأت الكتاب المثير ( الكون الغامض The Mysterious Universe ) الذي كتبه السير جيمس جينز Sir James Jeans و كنت حينها في الثانية عشرة ، و منذئذٍ صار حلم اليقظة لديّ أن أكون الخليفة المنتظر لأينشتاين ، و لكنّ حلمي هذا كان يتطلّب في حدّه الأدنى أن أحصل على شهادة البكالوريوس في العلوم ، كانت الخطوة الأولى نحو هذه الشهادة تتطلّب حصولي على تدريبٍ جادٍّ في إحدى شركات الصناعة الكيميائيّة ذات السمعة العالميّة مثل شركة الصناعات الكيميائيّة الإمبراطورية ICI من أجل الحصول على منحة ماليّة تمكّنني لاحقاً من إكمال دراستي الجامعيّة ، و لكن للأسف حصل أمر قلب الطاولة على ترتيباتي هذه : فقد رسبت في الامتحانات النهائية للمرحلة الثانويّة في مادة الريّاضيّات وهذا يعني إعادة امتحاني في تلك المادة بعد ترك المدرسة ، كما كان لزاماً عليّ آنذاك قبول عرض مكتب العمل بأن أعمل في مصنعٍ لمعالجة و تصنيع الصوف . كان العمل في مصنع الصوف هذا صدمةً هائلةً لي : فقد كنت أنطلق إلى العمل في الثامنة من صباح كلّ يوم وأعود إلى المنزل في السّادسة مساءً و لم تكن هناك فسحة لأية راحة باستثناء ساعة الغداء . كان الطابق العلويّ من المصنع تشغله النساء العاملات أمام مكائن النسيج و كان عملي هو ضمان تزويدهنّ بخيوط الصوف الملفوفة في هيئة كبّابات hanks ثم أجمع نتاجهنّ و أنقله إلى الطابق السفليّ من المصنع بعد توضيبه في أقفاص ، كان عملي هذا مملّاً كئيباً ورتيباً يدعو إلى الغثيان وعندما كنت أقود درّاجتي عائداً إلى المنزل أكون قد أمسيت كائناً مستنزفاً و كئيباً إلى أقصى الحدود المتصوّرة فأمضي الوقت القليل المتاح لي في المنزل كلّ مساء في قراءة الشعر كمحاولة لاواعية منيّ ربّما في بعث شيء من الراحة الذهنيّة و السكينة العاطفيّة داخل روحي المرهقة الخاوية ، و على الرغم من محبتي الهائلة لـ ( كيتس ) و رفقائه من الرومانتيكيّين فقد كان مزاجي العقليّ الكئيب يجد انعكاساً له في قراءات من طراز ( الأرض اليباب ) و ( الرجال الجوف ) للشاعر ت. س. إليوت .
عندما ذهبت ذات يوم إلى مدرستي الثانويّة لاستعارة بعض كتب الرياضيّات أخبرني مدير المدرسة أنّني لو أحصل على الدرجات الإضافيّة الكافية لنجاحي في الامتحان فسيكون بوسعي حينها العمل في المدرسة كمساعد مختبر وعندها سيتوفّر لي الوقت الكافي للحصول على شهادة بكالوريوس العلوم التي طالما طمحت إليها . كانت الفكرة مدهشةً و مقدّراً لها أن تملأني غبطةً تفوق الوصف لو كنت قد أُخبِرتُ بها قبل بضعة شهور حسب ، كنت أعاني من مشكلة : لم تعد لي أيّة رغبة في دراسة العلوم و فقدت حماستي لها وكنت أقضي أغلب الوقت المتاح لي في قراءة الشعر الذي صار يتلبّسني تماماً !! و لكن مع كلّ هذا شعرتُ أن ليس من الحكمة في شيء البوح بما يجول في خاطري لذا مضيت في التحضير بكلّ جدّية لامتحان الرياضيّات المرتقب و حصلت على الدرجات الإضافيّة المؤهّلة للنجاح و وجدتُني قبل احتفالات أعياد الميلاد عام 1947 عائدا إلى مدرستي لأعمل في مختبرها و أنا أرتدي رداء المختبرات المعهود الأبيض اللون ، و أتذكّر جيّداً أنّ امتحاناتي لنيل الشهادة الثانويّة كانت تجرى في مدينة بيرمنغهام التي تبعد ثلاثين ميلاً عن مدينة ليستر التي أقيم فيها لذا كان عليّ ركوب القطار يوميّاً طيلة أيام الامتحانات و قد أحببت القطارات كثيراً منذ تلك الأيّام لأنها أتاحت لي حينها التمتّع برؤية سهول المدلاند Midland الخضر الواسعة التي كانت تبعث على الدهشة . ذهبت ذات يوم بعد أداء الامتحان لقضاء بعض الوقت في مكتبة بيرمنغهام العامّة التي كانت أكبر بكثير من نظيرتها في ليستر، فتملّكني العجب و الدهشة لرؤية رفوف الكتب و هي تطاول السقف وكان ينبغي استخدام السلالم المعدنيّة المتحرّكة للوصول إليها ، و رأيت فيها الكثير من الكتب الّتي طالما حلمت بقراءتها و كم تمنّيت حينها أن أكون أحد المقيمين الدائمين في بيرمنغهام !!! و عندما وقفت وسط مكتبة بيرمنغهام العامّة ذات صباح عرفت تماماً ما الّذي أريد أن أفعله في حياتي القادمة : أن أقضي وقتي كلّه في القراءة منذ الصباح المبكّر و حتّى الليل ، ووثقت حينها انّ الكتب عالمٌ قائمٌ بذاته و لذاته و مكتفٍ بها و له من الغنى و التنوّع و الرحابة بقدر مافي العالم الحقيقيّ.
 يتبع
________
*المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *