*عبد الرحيم التوراني
( ثقافات )
سدت فتحتي أنفها متأففة، خرج من بين شفتيها صوت منغنغ. تساءلت:
– أوف.. من أين تأتي هذه الرائحة الكريهة؟
عقد هو حاجبيه وابتعد وسط الدار. أجال عينيه الضيقتين في السقف والجدران، ثم نفث دخان سيجارته:
– عن أي رائحة تتكلمين.. أنا لا أشم شيئا.
– ومتى كان لديك أنف يصلح لحاسة الشم؟
– نعم، حقا أنا من أخبرتك أن حاسة الشم لدي ضعيفة، لا أستطيع التمييز بين رائحة الفلفل ورائحة الزعتر، لكني لا أخطئ الروائح القوية.
انحنت تفتش تحت السرير والكراسي وباقي الأثاث في كل زوايا البيت، ربما هنالك جثة قط.
تساءلت وسبابة يمناها مع الإبهام لا تفارق أنفها الأفطس:
– هل يعني أن الرائحة آتية من الجدران أو السقف؟
رد عليها و دخان السيجارة يملأ وجهه:
– إذا أردت رأيي، فالرائحة الكريهة في دماغك أنت فقط. رتبي لنا الفراش لنستريح يا امرأة سيقتلك الوسواس.
انتفضت المرأة صارخة، هرعت إلى ارتداء حذائها وحمل حقيبة يدها:
– بل ستقتلني رائحة الجيفة الذائعة هنا.. لا يمكن أن أبقى معك ثانية واحدة في هذا البيت.
غادرت البيت، قضت الليلة في بيت أهلها. في الغد فتش عن بيت جديد بنفس الحي. سيتكرر نفس المشهد. رائحة جيفة تزكم أنف المرأة، والرجل يزعم أن الرائحة في دماغها هي فقط، سيضيف في إحدى المرات اقتراح أن تعرض نفسها على طبيب نفساني.
كل بيوت الحي التي سينتقل إليها الرجل مع امرأته تنبعث منها رائحة جيفة. كأن أحدا ما يسبقهما ويدفن بجدران الغرف أو تحت أرضيتها جثث قطط أو كلاب، أو جثثا آدمية. من يدري؟ جرائم القتل تتكاثر هذه الأيام.
جرب الرجل الانتقال إلى حي بعيد، لكن رائحة الجيفة سكنت أنفها. داخله شك في أن تكون زوجته الجديدة تتلاعب بعواطفه، أو هي تلجأ إلى الحيلة لتهرب من فراشه، لعلها تخونه مع عشيق قديم. هكذا خاطبه وسواسه الرجيم. لم ينعم بليلة واحدة معها.
استأجر بيتا جديدا في حي آخر أبعد، وطالبها بالرجوع إلى بيت الطاعة. رجعت بقوة القانون الشرعي، سدت فتحتي أنفها، نامت جنبه منكمشة على جسدها. ما أن أغمض عينيه حتى فتح فمه وانطلق منه شخير منتظم مختوم بصفير. اكتشفت الزوجة أن رائحة الجيفة تخرج من فمه وعينيه ورأسه هو. قفزت مولولة من الفراش، استيقط مفزوعا، تبعها، أغلق فمها، هددها بالقتل إن لم تسكت. هو يخشى الفضيحة. سكتت باكية مرتعدة.
كل البيوت السابقة كانت بريئة، تساءلت كيف يمكن لجيفة أن تحيى وتتحرك وتتزوج وتطالب بتطبيق الشريعة، فتنتصر لها الشريعة. حاولت أن تهدأ وتهدئ من روع الجيفة الغاضبة التي أمامها. نصحته بعرض نفسه على طبيب مختص.
أخرج من جيب سرواله حبة “فياغرا”، ابتسم فرحا:
– هذه هي الحبة الزرقاء.. أحسن من كل طبيب مختص.
قهقهت المرأة ساخرة، في سرها تمتمت:
– وحتى الجيفة لا تنسى حقها في ممارسة الجنس.
قالت له:
– حبة واحدة لا تكفيني.
ضحك الرجل وبلع حبتين.
– لم تطلبي سوى الممكن وليس المحال. دعينا نقوم بواجباتنا الزوجية يا صاحبة الوسواس القديم. أنت مدينة لي بليال كثيرة.
وألقى جسده المهلهل على جسدها الناعم.
في الصباح اتصلت بأهله، جاؤوا وواروا الجثة التراب، بكوا كلهم، بكت معهم. في سرها كانت تقول:
– يا ويلهم.. لو عرفوا سر دموعي من أي مجرى تجيء.
حكت رأسها، انبعثت منه الرائحة الكريهة. الرائحة التي في دماغها. أغمي عليها.
قالت قريبته:
– كم كانت المسكينة تحبه.
لما استفاقت انخرطت في هذيان طويل:
– أنا الرائحة الخانقة.
أنا الجدران والسقف،
مدفن جثث الكلاب والقطط والبشر،
الحبة زرقاء والليلة حمراء،
والضحكة زرقاء على شفتي الميت
الوسواس في الصدر
والرائحة في الرأس.