محمد آيت ميهوب*
( ثقافات)
الإهداء
إلى صديق العمر شكري المتّالي، تحيّة للساعات الطوال التي سفحناها ونحن في ريّق العمر، نقرأ أقاصيص موباسان. وحين قرأنا هذه الأقصوصة، لو تذكر، وفعلت فينا ما فعلت، تعهّدت لكّ بأن أترجمها يوما ما وأسرقها من صاحبها… أستعيدها منه….
أعشق الليل. أحبّه كما يحبّ المرء وطنه أو عشيقته، حبّا غريزيّا، عميقا، غلاّبا، قهّارا. أحبّه بكلّ جوارحي ، بعينيّ اللتين تريانه، بأنفي الذي يستنشقه، بأذنيّ اللتين تصيخان السمّع إلى صمته، بكلّ جسدي الذي تداعبه الظلمات. تغرّد القبّرات في الصباحات الصافية، صباحات الشمس الساطعة والسماء الزرقاء والهواء الدّافئ اللطيف. أمّا البومة فتطير في الليل، لطخة سوداء تمرق عبر الفضاء الأسود، ولا تلبث وقد انتشت وأسكرها الامتداد الأسود العظيم، أن تطلق صيحتها المهتزّة المشؤومة.
يتعبني النهار ويبعث فيّ السأم. إنّه عنيف وضاجّ. أنهض في مشقّة، وأرتدي ملابسي في عياء، وأخرج وشعور بالندم يرافقني، وكلّ خطوة، كلّ حركة، كلّ إيماءة، كلّ كلمة، كلّ فكرة تتعبني كما لو أنّني أرفع فوق كاهلي عبئا يسحق العظام.
ولكن ما إن تغيب الشمس حتّى يجتاحني فرح غامض، فرح يغمر جسدي كلّه. فأستيقظ وأنتعش. وكلّما ازداد الظلّ طولا، ازددت إحساسا بأنّني شخص آخر، أكثر شبابا وأشدّ قوّة، وأفضل يقظة وأعظم سعادة. وأنصرف أراقب العتمة الكبيرة اللطيفة المتساقطة من السماء وهي تتكثف، فها هي تغرق المدينة كموجة لا يحجزها حاجز ولا ينفذ إليها نافذ، إنها تغطي الألوان والأشكال، تمحوها، تخرّبها، وها هي تضغط بلمستها الخفيّة على المنازل والبشر والمعالم.
حينها تعتريني رغبة في الصياح مثل البومة الصمعاء التذاذا، وفي الجري على الأسطح مثل القطط، ويتوهّج في دمائي شوق عاصف إلى الحبّ، لا رادّ لأمره.
فأمشي وأروح أحيانا في الضواحي الغارقة في العتمة، وأحيانا أخرى في الغابة القريبة من باريس حيث أسمع أصوات أخواتي البهائم وإخوتي الصيادين، وهم يجوسون.
بيد أنّ ما تحبّه بعنف ينتهي دائما إلى القضاء عليك. ولكن كيف لي أن أشرح ما يحدث لي ؟ بل كيف لي أن أقنع الناس بقدرتي على روايته ؟ لا أدري، لم أعد أدري، كلّ ما أعرفه هو أنّه قد حث فحسب – فإليكم هو ذا.
أمس إذن- هل كان ذلك أمس؟- أجل، بلا ريب، اللهم إلاّ إذا كان ما وقع قد جرى في يوم سابق، يوم آخر، في شهر آخر، في سنة أخرى- لا أدري. ومع ذلك فمن المحتّم أنّ ما جرى قد وقع أمس، بما أنّ النهار لم يطلع من بعد، وبما أنّ الشمس لم تعاود شروقها. ولكن منذ متى واللّيل منيخ لا يتزحزح ؟ منذ متى ؟ من تراه يجيبني ؟ من تراه سيحيط بذلك علما في يوم من الأيام ؟
أمس إذن خرجت كدأبي كلّ ليلة بعد أن تناولت عشائي. وكان الطقس على غاية من الجمال والرقّة والدفء. وعند نزولي في اتّجاه الجادّات رفعت رأسي إلى الأعلى، فرأيت النهر الأسود الممتلئ نجوما وقد قطّعت أطرافه أسقف الشارع الذي كان ينعطف، جاعلا هذا المجرى من النجوم يتموّج وكأنّه نهر حقيقيّ.
كان الصفاء، وقد رقّ الهواء وخفّ، يعمّ الأشياء جميعا بدءا من الكواكب إلى قناديل الغاز. ولفرط ما كانت الأنوار تتلألأ في الأعالي وفي المدينة، بدا كما لو أنّ الظلمات تشتعل نورا. فالليالي المضيئة أبعث على البهجة من النهارات الساطعة شموسها.
على الجادّة كانت المقاهي تتوقّد حياة، فالناس يضحكون، يعبرون ويتنقّلون، ويشربون. دخلت إلى المسرح، ولم ألبث فيه إلاّ لحظات معدودات. أيّ مسرح ؟ لم أعد أدري. كان المكان مضيئا جدّا إلى درجة أن انقضّ عليّ الشعور بالحزن، فسارعت بالخروج وفي القلب شيء من الغمّ أحدثه اصطدامُ الضوء الفظّ على زخارف المقصورة المذهّبة، والبريقُ المزيّف الذي تشعّ به الثريّا البلّوريّة الضخمة، وصفُّ الأنوار في مدخل المسرح، والكآبةُ التي تحوم حول هذا الضياء المزيّف الفجّ. بلغت الشانزليزيه حيث المقاهي- المغاني تبدو وكأنّها ضرائم حريق انتشر بين أوراق الشجر. وبدت أشجار الكستناء وقد عركها الضوء الأصفر وكأنّها مطليّة، كأنّها أشجار فوسفوريّة. وكانت الكرات الكهربائيّة الشبيهة بأقمار ساطعة وشاحبة، وببيضات قمريّة سقطت من السماء، وبلآلئ حيّة شديدة الضخامة ، تلقي في الظلّ، بفعل بريقها الصدفيّ السحريّ الرائع، أسلاك الغاز، ذلك الغاز القبيح الوسخ، وشرائط الزجاج الملوّن، فتبدو أمامها وقد كسفت وخبت أضواؤها.
توقّفت تحت قوس النصر لأرمي بباصري إلى الشارع، الشارع الطويل الفاتن المرصّع بالنجوم، وهو يسير نحو باريس بين خطّين من الأنوار، وبين النجوم ؟ إنّها النجوم المعلّقة هناك في الأعالي، النجوم المجهولة الملقى بها كما اتّفق في عظمة السماء حيث ترسم هذه الأشكال الغريبة التي كثيرا ما دفعت المرء إلى الحلم والتفكّر.
دخلت إلى غابة بولونيا وهناك مكثت طويلا، طويلا. لقد تملّكتني رعدة فريدة، انفعال طارئ ومستبدّ، وهيجان اندفع إليه فكري، يلامس الجنون.
سرت طويلا، طويلا. ثم عدت أعقابي.
كم كانت الساعة حين مررت ثانية تحت قوس النصر؟ لا أدري. كانت المدينة قد أخلدت إلى النوم وانتشرت على امتداد السماء في أناة وبطء، سحب، سحب سوداء ضخمة.
كانت هذه أوّل مرّة ينتابني فيها شعور بأنّ شيئا ما، شيئا ما غريبا وجديدا لا سابق له، سيحدث. وبدا لي أنّ الجوّ ابترد وأنّ الهواء قد تخثّر وغلظ، وأنّ الليل، ليلي الحبيب، قد أصبح ثقيلا على قلبي. أقفل الشارع الآن. لم يكن ثمّة سوى شرطيّين يتجوّلان قريبا من محطّة عربات الجياد، وعلى الطريق المعبّدة سار سرب من العربات المحمّلة بالخضر في اتجاه أسواق منطقة “الهال”، تحت ضوء قناديل الغاز الخافت الذي لا يكاد ينير من الطريق إلاّ قليلا. كانت العربات تسير الهوينى، محمّلة بالجزر واللفت والكرنب، وكان السوّاق نائمين، لا يُرون، قد أسلموا قيادهم إلى الخيول تسير خطوا منتظما، تتبع فيه كلّ عربة العربة التي تسبقها، دون إحداث أيّ ضجيج على البلاط الخشبيّ. وعند كلّ عمود من أعمدة الإضاءة المنتشرة على امتداد الرصيف، تشعّ حبّات الجزر ضوءا أحمر، ويتألّق اللفت بنور أبيض، ويستضيء الكرنب بوهج أخضر. فكانت تلك العربات تمرّ الواحدة تلو الأخرى حمراء في احمرار النار، بيضاء في بياض الفضّة، خضراء في خضرة الزمرّد. ظللت أتابعها مدّة، ثمّ انعطفت إلى الشارع الملكي وعدت أدراجي إلى الجادّات. لا بشر هناك، وما من مقهى مضاء، ولا تكاد تلمح إلاّ عددا قليلا من السهرة المتأخّرين يغذّون السير. لم يسبق لي البتّة أن رأيت باريس مواتا كهذا الموت، قفراء كهذا القفر. جذبت ساعتي. كانت الثانية بعد منتصف الليل.
كانت ثمّة قوّة ما تستاقني، حاجة ما إلى المشي تدفعني دفعا. فلم أجد بدّا إذن من أن أسير إلى أن بلغت سجن “الباستيل”. هناك أدركت أنّه لم يسبق لي البتّة أن شهدت ليلة أشدّ عتمة من هذه الليلة، إذ أنّني لم أستطع أن أتبيّن حتّى “عمود جويلية” نفسه، فقد غرق بريقه الذهبيّ في الظلمة البهماء. إنّ قبّة من سحاب كثيفة كالعظمة، قد أغرقت النجوم، ويبدو كما لو أنّها تتهيّأ لتحطّ على الأرض فتبيدها.
عدت أدراجي. ما عاد يوجد حولي أيّ بشر. رغم ذلك صادفت في “شاتودو”(Château-d’Eau) سكّيرا كاد يصدمني، ثمّ غاب عن بصري. وظللت أستمع لبعض الوقت إلى صدى خطواته المترنّحة المدويّة. واصلت سيري. عند مستوى ضاحية “مونمارتر”، مرّت عربة جياد منحدرة نحو نهر “السين”، فناديتها، لكنّ الحوذيّ لم يجب. بالقرب من نهر “دروا” اعترضتني امرأة نتسكّع :”سيّدي، استمع إليّ”. أسرعت الخطى حتّى أتفادى يدها الممتّدة نحوي. ثمّ لا شيء. قبالة “فودوفيل”، لمّام خرق ينبش الجدول. كان نور مصباحه الصغير يخفق قريبا من الأرض. سألته :”كم السّاعة الآن يا هذا؟ “.
أجاب متذمّرا :”وما أدراني ؟ ليس معي ساعة “.
حينها لاحظت فجأة أنّ قناديل الغاز انطفأت. وكنت أعلم أنّه يقع تعطيلها خلال هذا الفصل على سبيل الاقتصاد، منذ ساعة مبكّرة قبل طلوع الشمس. بيد أنّ الفجر مازال بعيدا، بعيدا جدّا عن اللياح.
وقلت في نفسي “لأذهب إلى منطقة “الهال”، فهناك سأجد الحياة على الأقلّ”.
وهممت أن أمضي في طريقي، ولكنيّ لم أستطع أن أتبيّن أيّ الطرق أسلك، مجرّد الطريق نفسها. فسرت في أناة، حذرا كما يفعل المرء حين يكون في إحدى الغابات، أتعرّف إلى الشوارع بعدّها واحدا واحدا.
أمام “الكريدى ليوني”(Crédit Lyonnais)، هرّ كلب. فانعطفت إلى شارع “غرامونت”، لكنّي ضللت طريقين وتهت، ثمّ اهتديت إلى “البورصة” وقد أرشدتني إليها القضبان الحديديّة المحيطة بها. كانت باريس بأكملها نائمة نوما عميقا، مفزعا. رغم ذلك، تناهى إليّ صوت عربة جياد تجري، عربة واحدة، لعلّها تكون تلك التي مرّت بي قبل قليل. حاولت أن ألحق بها مقتفيا صوت عجلاتها وهي تدور، وظللت أجري وراءها عبر الشوارع الخالية السوداء، السوداء، السوداء كالموت.
ضللت طريقي مرّة أخرى. أين تراني أكون ؟ أيّ غباء هذا الذي أملى عليهم أن يطفئوا الغاز في وقت مبكّر جدّا ؟ فلا أحد من العابرين، ولا أحد من السهرة المتأخّرين، ولا أحد من المتسكّعين، ولا صوت مواء لقطّ عاشق. لا شيء.
أين ذهب شرطة المدينة إذن ؟ وقلت في نفسي ” سأصرخ بهم ، فيأتون”. وطفقت أصرخ. فلم يجبني أحد.
ناديت بصوت أعلى فتعالى صوتي دون صدى، خافتا، مختنقا، منسحقا تحت جناح الليل، هذا الليل المستغلق.
وولولت صائحا صائحا :” النجدة ! النجدة !النجدة ! “
ولبث ندائي اليائس دون جواب. كم الساعة إذًا ؟ جذبت ساعتي، ولكن ما كان بحوزتي عود ثقاب واحد. استمعت في فرح غير معهود وغريب، إلى صوت التكتكة الرقيق المنبعث من الساعة الصغيرة. يبدو أنّها تعمل. صرت أقلّ عزلة. أيّ معجزة ! انطلقت أسير كرجل أعمى، أتحسّس الحيطان بعصاي، وكنت أرفع رأسي في كلّ لحظة وآن إلى السماء آملا أن يكون طلوع الفجر قد أزف أخيرا. لكنّ الفضاء كان أسود، في منتهى السواد، أعمق سوادا من المدينة.
كم تراها تكون الساعة ؟ بدا لي أنّني ظللت أسير منذ زمن لا بداية له ولا نهاية، لأنّ ساقيّ قد خرّتا تحتي، وانقطعت أنفاسي لهاثا، وأصابني إحساس فظيع بالجوع.
قرّرت أن أدقّ جرس أوّل بوّابة عربات تظهر أمامي. فجذبت الزرّ النحاسيّ وإذا بالناقوس يرنّ ويتردّد صداه الطنّان داخل البيت. لقد رنّ بطريقة غريبة، كما لو أنّ هذا الصوت المهتزّ هو الصوت الوحيد في البيت.
انتظرت، فلم يصلني أيّ ردّ ولم يفتح الباب. دققت الجرس من جديد، وانتظرت أكثر، ولكن لا شيء !
تملّكني الخوف ! وهرعت أجري إلى المسكن الموالي، وظللت أدقّ الجرس وأستمع عشرين مرّة على التوالي إلى رنينه يطنّ في الرواق المظلم حيث يتوجّب أن يكون البوّاب نائما هناك. لكنّه لم يستيقظ، فتقدّمت أبعد وأبعد جاذبا بكلّ ما أملك من قوّة حلقات الأبواب أو الأجراس، لاطما بقدميّ وعصاي ويديّ الأبواب التي ظلّت مغلقة في عناد وإصرار.
بغتة تفطّنت إلى أنّني قد وصلت إلى منطقة “الهال” وكانت قفراء، لا صوت ولا حركة ولا عربة، ولا بشر، ولا ربطة خضر أو طاقة زهر. لقد كانت قاعا صفصفا، فارغة، جامدة، مهجورة، ميّتة !
وتملّكتني حالة من الذعر فظيعة. ماذا يحدث ؟ آه ! يا الهي ! ماذا يحدث ؟
انطلقت ثانية أسير. ولكن الساعة ؟ الساعة ؟ من تراه يخبرني كم السّاعة ؟ ما من ساعة جداريّة في الأجراس أو المباني العامّة. قلت في نفسي “سأفتح غطاء ساعتي الزجاجيّ وأجسّ بأصابعي عقاربها”. جذبت ساعتي… لم تعد تعمل… لقد توقفت… ما عاد ثمّة شيء، ما عاد ثمّة شيء، ما من ارتعاشة واحدة في المدينة، وما من بصيص نور، وما من حفيف صوت واحد في الهواء. لا شيء ! ما عاد ثمّة شيء ! حتّى صوت جريان عربة الجياد البعيد غاب وانقطع ! ما عاد ثمّة شيء !
كنت على الرصيف، وكانت برودة قارسة تتصاعد من النهر.
أمازال نهر السين يجري ؟
رغبت في أن أطّلع على الأمر، اهتديت إلى الدرّج، نزلت… لم أسمع صوت مجرى الماء وهو يفور أسفل عقود الجسر… مازالت بعض الدرجات في انتظاري… ثمّ الرمل… فالوحل… ثمّ ها هو الماء… غمست فيه يدي… الماء يجري… إنّه يجري… باردا… باردا… باردا… يكاد يكون متجمّدا… يكاد يكون نضبا… يكاد يكون ميّتا.
وانتابني شعور بأنّني لن أجد البتّة من القوّة ما يسمح لي بأن أصعد ثانية… وبأنّني سأموت هنا… أنا أيضا، سأموت جوعا وتعبا وبردا.
(14 جوان 1887)
* أديب من تونس