أنا ومحمد خضير: محاورات المملكة السوداء ( 1 ـ 3 )


جمعة اللامي *

ما أفدح الأخطاء التي يجرّنا إليها
تحرير الطوالع والخواتم،
والسفر بين منازل البريد الألفية!”
( محمد خضير)

نحن الكلمات وشجرة الجمّيز المعمرة.
وكان مُحمَدٌ خضير ، بكلماته ، رفيق سفري على الطريق السماوي الى خان بأرض بيثرب يشرف على ضريح النبي مُحمّد ومسجده . طريقٌ حدائقه الغمام والغيوم والبروق والصمت الذي يحيط بجسم الطائرة العملاقة . وفي بطن هذا الحوت الطائر عجوز يبسمل ويحوقل ، يدفن وجهه في المصحف المفتوح الذي تبدو صفحاته تحت الضوء الأصفر المنبعث من مصباح في أفريز ببطن الطائرة، صفراء معتمة تركت نهاياتها تسيل على كرسي الطائرة بقماشته البنية اللون ، بينما كنت أسير قدما في فضاء كتابه ، متأملاً هؤلاء البستانيين الساعين نحو المعرفة والحق والأخلاق، الذين إنهمك صاحبي كثيرا في التعرف على أقنعتهم قناعاً بعد قناع، وهو يجلس على التخت الأمامي العتيق في المقهى الذي يواجة دائرة البريد والساعة العمومية بالبصرة .
حدث ذلك في ربيع ” حدائق الوجود” الذي لم ينته بعد.

وحين كانت الطائرة العملاقة المتجهة نحو الحجاز من مطار دبي معلقة في الفراغ ، كنت استمع اليه يقول ” نحن معاً هنا”. كان يتحدث في شأن كتابه” حدائق الوجوه”. وعندما كنت أدعوه لتناول طعام الإفطار في صبيحة كل يوم من تلك الأيام الستة ، أجده مستريحا على أريكتي ، مسندا ظهره الى الحائط يدوّن ملاحظات في كشكوله . لم اساله “ماذا تدوّن ؟”. كنت اعرف ان دوراننا على محيط (حديقة زينب) قد أكمل مشروعاً منتظراً لديه .

” أعتقد انه سيبدو مفيداً تدوين هذه الملاحظات والمشاهدات والحَيوات”. أشار اليّ صاحبي . كنت أعرض أمامه شخوص هذه الحديقة وناسها ، وكذلك حَيواتِها السرية المكتومة الأصوات التي أستمع الى تنهداتها وإلتياعاتها مع الفجر الأزرق الذي يتخلل سعف النخلات الثلاثين الذي تزيده زرفة ألوان زهرات “الفانك” الزرق والبيض والخضر والبنفسجية التي يرسلها الضوء الأخير للقمر ، على أرضية الحديقة ومحيطها الصخري المضرج برحيق عسل التمر .

” لستُ على عجلة من أمري”. ثم أكملت فكرتي ” لقد وصلت الى خانق المَحْو . اكتبُ ثم أمحو ، ثم أعيد الكتابة حتى تبدو عبارتي غير قابلة للمحو”.
” نعم “.
” هذا لا يفضله الناشرون . يريدون تحقيقَاً صحافياً مكتوبا بقلم شاب لا يزال تحت التدريب ، يصنّفونه تحت عنوان :الحداثة”.
” هذا صحيح تماما. إنه ليس ” الحكاية الجديدة” التي كتبت عنها كتابك”.
أنت تتذكر كتاب الحكاية الجديدة”.
“بلى . إنه يذكرني بعدد من المقالات التاسيسية لكتّاب نابهين” .

ولم يكن في خططي أن أبتديء هذه الرسالة بهذه الخطبة : ” نحن الكلمات وشجرة الجميز المعمرة”. كنت أنتوي القول أنني تركته في غرفتي يرقد على سريري لمدة ستة ايام متواليات ، وعندما غادرتُ الشارقة الى الجزائر لحضور الأسبوع التكريمي الذي أقامته “جاحظية” صدبقنا الطاهر وطار وجريدة “الخبر” وجامعة الجزائر والمكتبة الوطنية الجزائرية على شرف تجربتي في الحياة والكتابة في حزيران 2006 ، كان مُحمّدٌ يتهيّأ للنهوض من سريري والعودة الى البصرة ، ولم يكن في شقتنا سوى زوجتي وإبنتي الوحيدة.
بعد ذلك رافقته زوجتي مودعة حتى المطار.

” أنا أعرف الطريق جيداً. ثم أن سائق سيارة الأجرة يعرف الطريق ايضاً”.
” ستنوب عني أم عمار ” قلت لمحمد ” هي تعرف هذه الطرق المؤدية الى المطار”. تنفسنا ببطء ثم قال محمد ” إذن سنكون على طريق واحد ذي شعبتين : نحن على دروب الأرض ، وأنت على خرائط السماء”.
صدرت مني ضحكة قصيرة ” في اي دور من ذلك الحوش كنت ، عندما كنت كتبتّ قصة ” الشفيع”؟”. إرتاح حنكه على صدره . كنا نجلس وحيدين في صالة بيته نتحدث في شؤون شتى ، مثل طفلين جنوبيين عادا الى صحبتهما بعد زعل مؤقت. رفع عينيه نحوي فشاهدته كياناً كلّيَ البياض.

في غرفة صغيرة بمطار الجزائر ، حكيت للطاهر وطار بعض هيامات محمد خضير في حديقة زينب .” أنا خسران . لم أكن ثالثكما على الأرض وفوق الغيوم”. قال الطاهر وطار، ثم عاد يسألني : ” الا يزال تحت خيمته البصرية”.
” نعم أخي الطاهر”.
” لقد أنقذ روحه من تشويه الدكتاتورية بالعزلة والكتابة”. ثم صمت الطاهر طوبلاً ، عندما كنا نقابل المحيط الأطلسي ونتذكر العراق الذي إحتلته الجيوش الغربية في تلك الفترة بعد أن خربته الدكتاتورية.” حسنا يفعل . العزلة في مواجهة خرابنا الشامل ، أفضل موقف يدين مسبّبي هذا الخراب”.

وعندما كنا في الأعالي ، تركته مستغرقا مع عزلة أولئك البُستانيّين الذين إستضافهم “حدائق الوجوه” بين دفتيه، وعدت الى ذاكرتي أهيض ما تراكم فيها وعليها من طبقات ربما تكّوم عليها تراب الزمان والحدثان ، بعد أن فقدت أوراقي التي تضمنت ملاحظات في شأن زيارتنا الشخصية للبصرة في شهر نيسان سنة 2012 ، حيث أقمنا في بيته أنا وزوجتي ثلاثة ايام متواليات ، كنَّ خيرا وبركة ومحبة على عائلتينا.

” هنا تنامون . هكذا أوصاني محمد” .أخبرت السيدة ام مناف زوجتي بصوت لم تخلُ منه اللهجة البصرية المعهودة وهي القيسيّة التي من دبالا، فإستروحت حضور الأمومة وجلالها التي ملأت قلبي، ثم بقيت هذه النعمة الوسيعة معي عندما سلمت على والدته ( التي أعادت اليّ والدتي من العالم الآخر ) قبيل مغادرتي منزلهم متوجهاً الى مدينة العمارة.

” أنتم أخوة . الله يحفظكم”.
” الله يطيل بعمرك ام محمد”.
” ماكو أحسن من الأخوة يا أبوعمار”.
” تسلمين “.
” هذه واحدة من خلاصات عمري وتحارب غيري”.
” وكذلك أخبرتني أمي” . ثم نظرت الى وجهها .هذا شبه واضح بين تقاطيع وجهها وعلامات وجه صاحبي، وثمة ايضا تلك الراحة الجسدية عند الحديث . وكان هو وقتئذٍ يبذل عناية قصوى في صمته لمرافقة الحوار بين أمه وبيني .
” يالأمهاتنا . كم تحملن من أجلنا”. قلت لروحي.

وكانت الغرفة واسعة وشاهقة السقف ، قريبة من المطبخ وصالة الإستقبال بالمنزل ذي الطابقين، تطل على حديقة رفيعة تدور مع دورة الأصابع غير المرئية لأقدام الوجه الداخلي لسور المنزل، مفروشة بأرضية بدت مثل حديقة إختار نباتاتها وعشبها رسّام فطري عاش في عصر “الواسطي”. فرايت إبلاً شقراً يقودها فحل اسود هائمة في صحراء ، وفتى على دراجته الهوائية بجوار نهر صغير ناشف ، ومسيرات السبايا العاشورائية ، ومجموعات من الرجال والنساء في مزارع القصب ، وبرجاً عاليا يكاد يصطدم بالسماء الأولى ، وصفّاً من الأسرى يواجهون سيافا بزيّه الفارسي ،وسربا من السنونوات تبني أعشاشها الطبينية في زواغير حائط ببستان نخيل في دستميسان ، وموكباَ للطبيعة الخالدة يدخل في سمّ الباب المُخرّم .
“هذه غرفة أم محمد”. أوضحت أم مناف .

وأحسست بالهواء يتحرك حولي. عاينت الغرفة . لم يكن هنا أحد ، لكنني سمعت لهاث مخلوق يجري من غرفة الى ممرّ ، الى غرفة أخرى ، متأبطاً كتبه المدرسية . وظهر محمد أمامي ، حين وقف صبيّ تعدّى العاشرة من عمره في مستطيل الضوء البنّي عند الباب . عرفت الصبي الذي ذاب في الضوء الآن.
” رأيت عليّاً ” ،
” عليّّ! ” سألني محمد.
” نعم ، كما رأيته أنت في قصة “المملكة السوداء” “.
” إنه يحضر على غير موعد”.
” كما لو أنه يريد ان يبلغني رسالة ما”

وأخذ عليّ يستدير في غرفة عمته تاركاً الباب مفتوحاً ، وخلفه يطير صندوق بجناحين أبيضين ،عتيق اسود اللون . وكان صاحبي ينظر اليّ ويتذكر صندوق والد علي ، بعد أن دخل الصبي الى غرفة عمّته ، بينما أطلقتُ أنا أجنحتي الأربعة وطرتُ الى أجواء المملكة السوداء ، ثم بان عليّ وقد(سحب بجهد صندوقاً أسود مرصّعاً بمسامير فضية، تتدلى من غطائه قطعة رتاج برونزية مزخرفة الحافة، داكنة الصفرة ، تستقر في حلقة مثبتة للصندوق).

” رأيت ما في جوف الصندوق إذن”.
” بلى . أعتقد أنك أجدت في وصفه”.
” هو صندوقي في تأويل ما”
” لا أشك في ذلك . لكنك لم تّرَ صندوقي حين كنَتَ عندنا بالشارقة”.
” رأيته في مجنون زينب كاملاً ، حتى الأفعى التي قتلت حكمة الشامي”.
” كلّ له صندوقه . يا ابا مناف”.
” وسنمضي مع هذا الصندوق الى حيث نسجد لرؤانا”.
” حيث يسلم كل منا قناعه الى شبح ينتظر في آخر أهراءات حدائق الوجود”.
” كما تقول . حدائق الوجود” . ونهض محمد ” سأعود بعد قليل “.
حسبت أنه سيعود مصطحباً عليّا .
وأخذت أسترجع مع روحي حكايات ما بعد الشباب الذي غادره كل واحد من أبناء جيلنا في صندوقه الخاص ، من مقهى الى مقهى ،ومن حانة الى أخرى، ومن معتقل الى سجن ، ومن وطن الى منفى .بين العائلة وبين التشرد : رحيل داخلي مستمر حتى وإن قال مظهرنا عكس ذلك . إنها سمة جيل .
لقد شخنا في وقت مبكر جدا، أخي محمدا. وسمعت صوته الهاديء في مكتبه في الدور الثاني من المنزل” عليّ ! اين صندوق كتبي ؟”.

وعندما عاد صاحبي الى مجلسنا يحمل بيديه رزمة من الكتب ، أعاد الى ذاكرتي اللقاء الأول بيننا في البصرة ، ثم الى تلك الظهيرة في فندق في شارع الرشيد ببغداد، وكان بحمل معه مخطوط كتابه الثاني : “في درجة 45 مئوي” .
” اليك بهذا “. وفرش بين يديّ رسالة من وزارة الثقافة والإعلام ” أريد أن اسمع منك ” قال محمد ، ثم أكمل ” أنا لم أتخذ موقفاً بعد ” . قلت له أن الوزارة ستفتخر بكتابك هذا ، وإنه حق من حقوقنا ان تتبنى كتبنا هذه المؤسسة الرسمية . وعندما غادرنا الفندق مساء الى نادي الإعلام بمبنى وكالة الأنباء العراقية على شاطيء ابي نؤاس ، حيث دعوت فاضل العزاوي وسالمة صالح ، شهد محمد خضير ، بقية ذبالة ذلك الوجد المحبوس في الصدور.



– عن الصباح العراقية

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *