معضلة دون كيخوته وإيما بوفاري وآخرين


*يوسف ضمرة

ربما يكون «العبث» أفضل الإجابات عن السؤال التاريخي «لماذا نكتب؟»، فما من أحد قرر ذات يوم أن يمسك بالقلم ليكتب شيئاً غير العلوم الرياضية والطب والفلك والكواكب. الكتابة الأدبية تحديداً لم تنشأ هكذا، فمنذ البداية كانت تحاول حل ألغاز الكون والوجود، ولا يمكن لأحد أن ينحّي هذه المسائل جانباً، حتى لو أخذت الكتابة الأدبية أشكالاً أخرى، وتناولت موضوعات صغيرة قد لا تبدو على درجة معقولة من الأهمية.

هل هذا يعني أن الكتابة الأدبية مشغولة بهذه الألغاز فقط؟ ودائما؟ وإلى الأبد؟
في محاولة الإجابة، لابد من طرح بعض الأمثلة أو النماذج؛ فأي زمن أراد دون كيخوته استعادته؟ ولماذا؟ كل ما يعرفه الدون عن ذلك الزمن، كانت مصادره بعض الكتب التاريخية، ولم يكن وليد معايشة ذاتية، وهو ما يشبه قول الكثيرين في بلادنا حول الأزمنة الماضية، التي امتازت بالنقاء والفروسية والنبل وعلوّ القيم الإنسانية النبيلة، وما إلى ذلك، وهي كلها صفات تناقلتها بعض الكتابات، ورددتها الأجيال، من دون أي تحقق من صحتها.
فالدون هنا يفكر في استرجاع زمن يدرك جيداً أنه لن يعود، وندرك معه أنه لن يعود، وندرك أكثر أن أي محاولة لإعادته تعني خللاً في مسيرة التاريخ والمجتمع.
لكن «إيما بوفاري» لم تفكر في استعادة زمن آخر؛ كل ما فعلته أو ارتكبته من حماقات ــ كما يوحي بعض النقاد ــ كان بدافع آخر مختلف، يحمل في جوهره رفضاً قاطعاً للراهن والكائن والآن. لم يكن لدى إيما بوفاري أي تصور عن زمن مضى، لكن، كانت لديها أحلام بشرية لم تتحقق في نمط الحياة الذي عاشته مع زوجها شارل، فهي لا تعرف تماماً كنه تلك الأحلام، لكنها واثقة بأن هنالك شيئا آخر تفتقر إليه، وإن لم تكن تدركه جيداً.
يبدو الكاتب هنا ضد كل الخيارات التي يجد نفسه جزءاً منها في الحياة، ولهذا يحاول اختراع عالم آخر ليعيشه ويعيش فيه. عالم بديل، لأنه في حقيقته لم يكن شريكاً أساسياً في اختياراته أو في جزء منها، ولهذا خرجت إلينا كتابات اللامعقول والعبث، وكتابات الضد واللا رواية، وضد القصيدة، ورواية الضد، وما إلى ذلك من تسميات، بمعنى أن الكتابة نفسها حين تشكلت وأصبحت نغمة حياتية، تحولت إلى مكون من مكونات الوجود البشري؛ الوجود المرفوض أصلاً من الكاتب، بقوانينه وأحكامه التي تبدو أحياناً مجرد ألاعيب بشرية من ضمن ألاعيب الإنسان، الرافض والمتحايل.
منذ الآن، ومن هذه النقطة تحديداً، يمكن النظر إلى التطور الذي أصاب الكتابة الأدبية عبر التاريخ، وإلى اليوم، ويمكن بسهولة استيعاب المتغيرات والأشكال والأنماط الأدبية الجديدة، التي قد تتطلب وقتاً ليس قصيراً لتكريس ذاتها، ولجعل الآخرين قادرين على استيعاب بنيتها الخارجة عن المألوف، وما نسميه، بشكل تعسفي، طبيعياً!
لا ينبغي لأحد التقليل من قيمة أي أشكال جديدة، قد تبدو منفرة أو غريبة في أحسن الأحوال، فهنالك على الدوام يقف وراء الذات الكاتبة كائن يرفض ما تحقق، ويرفض المسارات التي يظن الآخرون أنها مسارات عالية الدقة. هنالك كائن معجون بألغاز الوجود، ومسكون بالقلق الوجودي، وهو طوال حياته سيظل وفياً لأسلافه المبهورين بالغموض البشري كله.. ألأجل هذا نكتب؟ ربما!
_______
*الإمارات اليوم

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *