*فاطمة الشيدي
ما ان انتهيت من قراءة «عزازيل» ليوسف زيدان، هذه الرواية الرائعة والمتداخلة بين التاريخي والآني، وبين الفكرة والعاطفة حتى حدثت داخلي مقاربة موضوعية جبرية بينها وبين «اسم الوردة» لامبرتو ايكو، فكلتاهما تناولت البعد الديني الكنسي موضوعا لها، وكلتاهما حدثت في العصور الميلادية الأولى، وكلا الروايتين وازنت بين روح الوعي وظلامية الجهل، وبين المحبة والعنف في تقمص الأرواح للدين، وتعاطيها مع تعاليمه.
وكلتاهما ذهبت في البحث العميق والموضوعي التاريخي الجاد، فكانت كل رواية منهما بحثا علميا جادا، ولذا جاءت مليئة بالحقائق العلمية القائمة على الأرقام والأمكنة والشخوص، فهي توازن بدقة ووعي بين الفكرة المستمرة الصالحة لكل زمان ومكان، وبين ملامح الزمن القديم المتجسدة في الأسماء والأحداث والشخوص بكل تفاصيلهم وملامحهم، وهو أمر في غاية الدقة والعمق، ويتطلب جهدا واضحا للموازنة بين ظلال السرد التي يجب ان تظلل القارئ، ويذهب معها بجمال ووعي، وبين عمق الحقائق ودقتها ليحقق المصداقية التاريخية للنص، وهذا الأمر حدث بعمق وموضوعية في العملين.
يقول عزازيل «تحيا ياهيبا لتكتب، فتظل حيا حتى حين تموت في الموعد، وأظل حيا في كتاباتك، اكتب ياهيبا فمن يكتب لن يموت أبدا» ص 361
فإذن؛ إذا كان من مهام الشيطان ان يجعلنا نكتب، فهذه مهمة جليلة وجميلة وعلينا امتداحه فيها، فالشيطان في هذه الرواية هو المحرض على الشر الجميل الذي سيخرج «هيبا» من صمته ليحكي لنا حكاياته الكثيرة عن الدين، والظلم، والإنسان، والحب، والقهر، والفلسفة والموسيقى، عن العدالة الناقصة، والجشع الآدمي الذي لا يحده إطار، والعنف الذي لن تمنعه حظيرة الرب من التطاول والرسوخ.
الشيطان الذي رأى في هذه الحكاية الكبيرة بحكاياتها المتتابعة ضمنيا ما يستحق التدوين والقراءة لاحقا، عن نزوع الإنسان للشر والظلم باسم الرب، ليتفوق بذلك على الشيطان نفسه الذي يمارس ظلمه باسم المعصية، وباسم الخروج على قانون العدالة السماوية للرب، بلا ستار جاهز، أو أقنعة متغيرة كما يفعل الإنسان غالبا، وبذلك استحق سخط الرب وسخط خلقه على مر العصور والأزمنة والأمكنة، في حين تلفع الإنسان بأغطية البر والإحسان والخير والجمال في ممارساته الأبشع والأعنف والأكثر انحطاطا وسقوطا من فعل الشيطان أحايين كثيرة.
الشيطان الذي أعان هيبا في لحظات كثيرة على استكمال ما بدأ من كتابة، وعلى تدوين كل ذلك الوجع الذي يعتمل في صدره عن طفولته الغارقة في الوجع من قتل والده، وزواج أمه، وعيشه الذاهب في الألم والوحدة في بيت عمه، حتى التحاقه بالأبرشية والتعليم الكنسي وما شاهد في بقاع الأرض أثناء تنقله بين الأديرة والكنائس من قهر وظلم، أو نبل وحب وانسانية. مقررا بوعي شيطاني جميل ونبيل يستحق التقدير والاحترام- ووافقته عليه الكثير من الدراسات النفسية لاحقا- ان الكتابة شفاء للانسان من كل ما يعتمل في صدره سيما ان كان يمتلك أدواتِها، ويستطيع سبر أغوارها، وهي أيضا مصدر التوثيق والتأريخ لحياة الإنسان ومصدر العبرة للآخر على مر الأزمنة، وتعداد الأمكنة- كما وافقته على ذلك الدراسات الأركولوجية والانثربولوجية، فالكتابة لسان الإنسان والأرض والتاريخ الذي لن يجف بجفاف الأجساد وتآكلها. «و الكلمة قد تفعل في الإنسان مالا تفعله الأدوية القوية، فهى حياة خالدة لا تفنى بموت قائلها، كما يقرر عزازيل بوعي جارح يستحق الامتداح، انه لا يهم الكاتب كثيرا، ولاتهم اللغة المكتوب بها، ولكن التاريخ بأحداثه الجسام الفارقة التي تغير حياة الإنسان على الأرض هو الأهم، وهذا هو دور الإنسان أو دور الكاتب تحديدا.
وحكاية «هيبا» كما قرر عزازيل- وكما نصدقه نحن الان- حكاية تستحق التدوين لربط حلقات التاريخ، ولتقديم الدروس العظيمة للإنسان اللاحق. أليس هذا هو دور ووظيفة وقيمة التدوين والكتابة على مر العصور والأزمان ياعزازيل؟! «انا لاوجود لي مستقلا عنك، انا ياهيبا انت، ولا أكون إلا فيك»
ولهذا اقتنع هيبا بهذا الدور الكبير الملقى على عاتقه، كأحد رسل التدوين ومشاعل الكتابة للتنوير والعظة، أولئك الذين يختارهم القدر ويضع في أصابعهم حبر الكتابة، ومسؤولية التدوين. فإذن لابد من امتداح عزازيل، الذي أضاء شعلة الكتابة في روح «هيبا» والمحرّض النبيل على قراءة هذه الرواية من قبلنا لاحقا.
وتدور الحكاية في رواية «عزازيل» حول راهب من صعيد مصر دخل إلى الرهبنة ليدرس الطب ويمارسه بإيعاز من عمه المريض الذي كان هو العائل الوحيد له بعد ان فقد والده على يد آثمة، وذهبت أمه في الغواية بزواجها ممن قتل والده، وتنقل في حياة الرهبان والكنائس ممارسا للطب، مسجلا ما يحدث له من تفاصيل جميلة أو بشعة على مضض وخوف في ثلاثين رقا، دفنها كي تقرأ بعد زمن طويل. محركا هذه الحكاية بالعديد من الشخوص الذين دارت بهم مجريات السرد؛ أبرزهم في ربط مفاصلها، وصناعة أحداثها هم: «الأسقف نسطور الذي التقاه في أورشليم وتعالقت روحاهما معا، وأوكتافيا المرأة الي ذاق معها حلاوة الحب والطمانينة وجمال الحياة لأول مرة، وهيباتيا الفيلسوفة التي سحلها الرهبان في الإسكندرية لانها وثنية، ومرتا المغنية التي عشقها وهام بها، وبالطبع عزازيل شيطان الكتابة.
وبالطبع كأي رواية ثرية، كان هناك أكثر من حبكة، تتبدى تباعا من عقدة الطفولة، وظلم الأم، حتى مقتل الفيلسوفة «هيباتيا» على يد جنود الرب في الإسكندرية، حتى عزل نسطور لانه لم يقل بألوهية المسيح، حتى وقوعه في غواية العشق، وأمر عزازيل له بالتدوين.
وأكثر من زمان ومكان، إذ تدور الأحداث في النصف الأول من القرن الخامس الميلادي حيث تركها هيبا، والقرن الخامس الهجري حيث اكتشفها راهب عربي، و1997م عثر عليها في الخرائب الأثرية جهة الشمال الغربي من مدينة حلب، بين حلب وانطاكية، حيث كانت الكنيسة التي عاش فيها هيبا وعرف طبيبا وعشق مرتا. وبالتالي تتراوح حركة الرواية بين عدة أمكنة منها صعيد مصر، أخميم، وأورشليم، والاسكندرية وحلب وانطاكية وما بينهما.
ثم ترك لنا الراوي «هيبا» النهاية مفتوحة، إلا من فكرة الرحيل بعد انجاز المخطوط في رقوقه الثلاثين، فهل سيذهب لمرتا وينعم معها كما نصحه عزازيل؟، أم سيذهب لمكان آخر، يخلص فيه للرهبنة والمسيح؟ لا نعرف، وهو لم يرد لنا ذلك، وكانه شيء خارج الحكاية التي أراد إثباتها في رقوقه ومخطوطته.
اعتمدت الرواية على تقنية «الفلاش باك» أي استعادة الأحداث عبر كتابة النص بشكل استعادي للأحداث التي مر بها في أربعين يوما بعد ان أقنعه عزازيل بالتدوين، ويظهر ذلك عبر نص المترجم الذي ترجمه بعد ان تحصل عليه باللغة السيريانية وترجمه ليكون بين أيدينا لاحقا، المترجم الذي كان دوره محايدا في نقل الحكاية عبر ترجمتها من لغتها الأم «السريانية» الآرمية فقط، والذي يبدو ان الخوف والشفقة من هذه الرواية « الرقوق « قد شمله أيضا، الخوف الذي كان كبيرا منذ الراهب هيبا، في القرن الخامس ميلادي الذي بعد ان كتبها وضعها في صندوق ودفنها، فالراهب العربي الذي ترك عليها بعض الحواشي والتعليقات ولكنه أعاد دفنها كاتبا «أعيد دفن هذا الكنز، فإن أوان ظهوره لم يأت بعد» حتى المترجم الذي اشفق من ترجمته وأوصى ان تنشر بعد وفاته.
واعتمدت ضمير المتكلم في الحوارات المباشرة، كما استخدمت ضمير الغائب في الحكاية والاستحضارات البعيدة، والحوارات الذهنية الماضوية أو الهذيانية في رأس هيبا، وبذلك نوعت في التقنيات لتجعل المتلقي مشدودا حتى آخر لحظة بمجريات الأحداث ومتتبعا لغايات السارد ومفترقات السرد.
وكانت اللغة مناسبة للناطق والمنطوق بها، حيث أجرى الكاتب مستوى معينا من اللغة على لسان كل شخص حسب ثقافته واهتمامه ووعيه وطبقته الاجتماعية، وهذا يشكل بعدا مهما للغة، فلا يمكن لرجل الشارع ان يتحدث كطبيب، ولا لفيلسوف ان يحاور كشاعر أو راهب، ولذا كانت اللغة تتغير حسب الشخوص والوصف، وتتراوح بين العلمية والشعرية حسب الأشخاص والأحداث، وطبيعة الحال أيضا، فهيبا عندما يحكي عن فكرة لايستخدم ذات اللغة التي يكتب بها ترانيمه وأشعاره.
أما أهم مرتكزات الوعي السردي في هذه الرواية فهو تلك الرسائل الضمنية التي أرادت رواية عزازيل ان تقول الكثير منها حول عدة نقاط مهمة كانت ولا تزال جارحة في الوعي والذاكرة والروح الإنسانية، منها:
الدين بين روح الرب، وصناعة البشر:
حيث ركزت الرواية على فكرة الدين المرتبطة بروح الرب والمحبة الخالصة بين البشر، والذاهبة في التسامح والرحمة واللين والزهد في المال ومتاع الدنيا «لا يوجد في العالم أسمى من دفع الآلام عن إنسان لا يستطيع التعبير عن ألمه»، بعيدا عن الجشع والعنف والرغبة في المال والسلطان والقوة ،الأمر الذي ليس من الدين في شيء، وان اقترفه من هم في حظيرته ويتحدثون باسمه، كما حدث في الإسكندرية من قتل هيباتيا وأوكتافيا على يد أعوان كيرلّس، بطرس وجماعته، «فى الإسكندرية، ما هو أشد خطراً من الوحوش السارية ليلاً، والهائمة فجراً «.
فالدين روح قدسية ربانية، وليست صناعة بشرية قائمة على السلطة والسلطان والمال، أو على العنف والقوة والجبروت.
الحب معادل شرطي للانسانية:
قدم نص الرواية صورة عميقة لفكرة الحب الإنساني العظيمة المعادلة للإنسانية وربما الشرطية الواجبة لها، ومع ان الحب كان يتضمن فكرة الخطيئة في حياة الرهبنة، فالغالب ان على الراهب ان يتجنب النساء، إلا ان هيبا سقط في الحب مرتين مع أوكتافيا ومرتا، وفي المرتين راودته فكرة العودة للحياة وترك حياة الأديرة والرهبنة مزاولا لمهنة الطب ليعيش الحياة ممثلة في قيمة الحب، مما يدلل على ان القوة الداخلية التي يفجرها الحب لا تتعارض مع قوة الإيمان، بل وقد تتفوق عليها وتلغيها ان تعارضت معها.
الموسيقى والفلسفة
والتحريم/ التجريم الديني:
أظهرت الرواية كما يظهر الواقع فكرة تجريم وتحريم الأديان- كما نظّر لها رجالاتها عبر العصور- لمظاهر التجلي الروحي والجسدي والعقلي الواعية والعميقة والتي يلتذ بها الإنسان ويذهب معها في مراتب العلو والفرح والسكينة، وقد لا يستطيع الاستغناء عنها، والمتمظهرة في الجمال الكوني الذي من شانه «كما ينظرون» ان يحيق بالإنسان الخطر والفتنة.
ومن ذلك الموسيقى، ومع ان رئيس الدير قد أقر فكرة التراتيل الكنسية في أيام الآحاد، وطلب من هيبا كتابة هذه التراتيل وتلحينها وتدريب الفتية عليها، كما أحضر هو نفسه المغنية «مرتا» لذلك، وبعث في طلب قيثارة لتكون التراتيل ملحنة على وقع الموسيقى، إلا ان الكثير من الرهبان كانوا غير مقتنعين بذلك ومتذمرين منه، ويعتقدونه شرا محدقا بالكنيسة والديانة معا، وانه من عمل الشيطان ولا يرضى الرب عليه. بينما كان هيبا مولعا بالموسيقى مؤمنا بدورها الروحي «اعتقدت دوما ان الموسيقا صوت سماوي مقدس» ص 268
والفلسفة، التي عدها جماعة كيرلس في الإسكندرية من دواعي الوثنية، وعلومها، وانها خارجة على النص المقدس، وتدعو إلى إعمال العقل ومحاججة الفكرة بالبرهان وهذا ما لايجوز لانه عكس التسليم المطلق بالنص المقدس الذي هو لسان الرب ومنطوقه، وبالتالي دفعت هيباتيا عمرها ثمنا لهذه الاعتقادات.
المرأة:
تظهر لنا صورة المرأة في هذه الرواية بأكثر من لون يتراوح بين الحب والكره والخير والشر، والجمال والذكاء والدفء والحنان فهناك الأم التي أعانت على قتل زوجها وتخلت أم عن طفلها «هيبا»، وهناك أوكتافيا المرأة الطيبة التي تؤمن بالعلم والإنسان والحب.
وهناك هيباتيا العميقة الفيلسوفة التي هذبها العلم والفلسفة وأضفت عليها الفلسفة هالة من البهاء والجمال.
وهناك مرتا العذبة كالطفلة بصوتها الأخاذ وجمالها العظيم.. «فكأنها حورية هبطت إلى الأرض ملفوفةً بالنور السماوي لتمنحنا السلام، وتملأ الكون رحمةً بعدما امتلأ جوراً وظلماً. كان الضوء يؤطرها، يحوطها من كل الجهات، ويطغى على أطرافها فتبدو وكانها مغلفةً بالنور».
العلم وإعمال العقل ليس ضد الدين:
ركزت الرواية على قيمة العلم وإعمال العقل ومحاكمة الأشياء بمنطق في تعارضاتها مع الدين أو مع رؤية العامة، وظهر ذلك من هيبا الطبيب الذي كان يداوي الناس بالأعشاب والعلم المذكور في الرقوق مع كيرلس أمره بالمداواة بالكتاب المقدس فقط، ومن هيباتيا الفيلسوفة التي تلقي محاضراتها عن العلم والمنطق والرياضيات، وكان التجسيد الأكبر للفكرة في رفض نسطور لفكرة التجسيد الثلاثي للرب، وإيمانه بمعجزة المسيح الكبرى كمخلص بشري ولد من امرأة بشرية، «لايصح الاعتقاد بان مريم العذراء ولدت الله! فالله باق على كماله الأزلي الأبدي فهو الواحد الفرد، لا يولد ولا يموت، وهو يتجلى حينا، ويحتجب أحيانا بحسب مشيئته» الرأي الذي أدى إلى عزله من أسقفية القسطنطينية ونفيه.
*كاتبة عمانية/القدس العربي