زياد الخزاعي
لدى الكاتب البلجيكي الفرنسي اللغة جورج سيمنون (1903 – 1989) شهوة الشرير تَبِيد، كما يقول «سفر المزامير». حينما تشتد الرغبات وعَصْفها في كيانات أبطاله، وتحوم شياطينها فوق أقدارهم، يكون قصاصهم لعبة بين قوتين ساحقتين: شراسة المطارِد إزاء قلق المطارَد، بحسب وصف غابرييل غارسيا ماركيز لآلية الكرّ والفرّ لدى صاحب «لطخة على الثلج» (1948). انتصرت بوليسية «حكاياته القاسية» إلى أخلاقية أوروبية شابها غموض مقصود، حيث يصبح تشويقها الروائي ـ بشأن جريرة دافع شخصي ما أو عثرة كائن عادي ـ وجهاً مكملاً لصراع غير متكافئ، مليء بالغيرة والنفاق بين رجال مهووسين بذكورتهم ونساء خانعات للإزدراء.
في أفلمة الممثل والمخرج الفرنسي ماتيو أمالريك لرواية «الغرفة الزرقاء» (1963)، لعب سينمائي مجيد على وقائع ذلك الصراع ومستويات غدره وغشّه. بين جدران غرفة فندق مطلية بلون سماوي، يمارس إثنان شغفاً إيروتيكياً، يوحي بحب جارف لكنه مفعم بالقلق، عكسه سؤال المرأة: «أقادرٌ أنت حقاً على تمضية عمرك معي؟». يتردد الرجل، قبل أن يلمح زوجها الصيدلي عابراً ساحة البلدة، متوجهاً إلى فندقهما، ليهرب بارتباك تاركاً العشيقة تتصرف مع مكيدتها. فردوسهما الأزرق عش فاسد لإغواء خسيس. هما على فراش عاره عاشقان ولهانان، فيما يؤديان لاحقاً، وبوقاحة، دوري أب وأم صالحين. تتحول نقطة الدم التي تسقط من شفة الرجل على الملاءة البيضاء، إثر عضّة شبق، تلميحاً بصرياً لحوار الريبة، حين تستكمل أُندريه/ أستير سؤالها: «هل تحبني؟»، فيجيبها: «أظن ذلك»، لتستفسر: «ألست متأكداً؟»، فيصبح حذرها إشارة إلى ما ينتظرهما من هوان.
ما نتابعه، كوقع درامي، هو استرجاع ذهني طويل، كتبه سيمنون بمثابة اعتراف ذاتي للمتهم توني فالكوني (في الرواية) ـ جوليان (في الفيلم). غطى فترة التحقيقات معه، ومحاكمته لاحقاً، بتهمة الغدر بزوجته. استحكم شريط أمالريك إلى بناء النص الأصلي وتركيبته، ما جعله تطبيقاً فيلمياً صارماً، لم يشأ الكشف عن ملابسات الميتات حتى آخر لحظة، محافظاً على تشويق سينمائي لازم، تساير مع نزعة سيمنون. عليه، نتابع مونتاجاً تبادلياً بين ماض بهيج وحاضر مَتعُوس، بين غرفة لذّة وقاعة محكمة، بين تأسّي هيام و رَوْع تهمة قانون، بين ورطة تهديد غامض وملابسات سفك دم، بين كرامة بشر وفضيحة يضخّمها إعلام مسعور. في مشهديات أمالريك، اهتمام فريد بالحيّز وأجوائه وظلاله وألوانه وزوايا النظر اليه. لذا، كان اختياره سديداً بتصوير الفيلم حسب أبعاد 4:3، المعروفة في هوليوود قديماً بـ«لقطة النسب الكلاسيكية». وجد أمالريك فيها صيغة مثلى للإحاطة بعالم محاصر لشخصية مستوحدة ومقصيّة. كلما اشتد الخناق على العشيقين، عمد المخرج ومدير تصويره كريستوف بوكارن إلى ضغط مساحته بلقطات ثابتة وأخرى تفصيلية، تورية لإنهيار قيمه واعتباراته الأخلاقية. ربط الإثنان بين فعلي الشحنة الإيروتيكية في بداية الفيلم، ويَبَاس قدر الحبيبين في منتهاه، عبر تعميم نفسي لتواجد لون أزرق وبسطه بين وكرهما السري المليء بالظلال، وقاعة الإجراءات القانونية رسمت على جدرانها عشرات من النحل، رمزاً لنشدان البداهة والبحث عن الحقيقة، فيما ظلّ الخارج الكوني مليئاً بمسرَّات حياة لن تتردد في سحق عالم البطل الملوّث. خاتمته المأساوية استحكمت منذ ليلة اقترافه الفاحشة مع سيدة خَؤُون، أصبحت الميتة المفاجئة لزوجها لغزاً محرجاً، مثـلما تعقدت التَعمِية حول هوية مَنْ ورط جوليان بجرم آخر.
فيلم أمالريك مكثف (76 د.) وميلودرامي. شعاره تأثيم كائن رذيل، لم يع أن هاوية حماقاته غائرة، وأن روحه هائـمة، حـيث لا غفران إلهياً ينتظرها، كما هي حال شخصيات رواية «الأحمر والأسود» لستاندال (1830). وقف «الغرفة الزرقاء» على ضفة سينمائية محصّنة بمعمار بوليسي سيمنوني باذخ برونقه، مختلف عن بورنوغرافية اقتباس المكسيكي والتر دوهنير للرواية نفسها في العام 2002.
– السفير