*صــلاح بوســريف
كان مقبولاً في سنوات الخمسينيات والستينيات، وإلى حدود السبعينيات من القرن الماضي، أن يكون المثقف «مُنْتَمِياً»، إلى فصيل سياسيّ معين، أو مُتعاطِفاً مع هذا الفصيل، خصوصاً من اليسار، الذي كان في مُواجَهَة مع الأنظمة الحاكِمَة، التي كانت مُتَّهَمَة بـ «الرجعية»، أو كان يُنْظَرُ إليها باعتبارها أنظمة شموليةً، قياساً بالأنظمة «الثورية» التي قامَتْ نتيجة «ثورات» على بعض هذه الأنظمة، وحَمَلَت شعاراتٍ، أبرزُها شعار الاشتراكية، الذي كان بمثابة المُوَضة، أو الهَبَّة التي تَبَنَّتْها هذه «الثورات» التي خرَجَتْ، في أغلبها من ثكنات الجيش، ولم تكن ثورات شعبية، قامت بها أحزاب «ثورية»، أو خرجت من الشَّارع، أي من صفوف الطبقات الشعبية، بمختلف ألوانها ومشاربها.
فالفكر اليساري، كان هو ما اسْتَهْوَى المُثقَّفِين، أو ما كان يُسايِر توجُّهاتهم، وطبيعة الأفكار التي كانوا يحملونها. فبقدر ما كانت هذه الأنظمة «الثوريةـ الاشتراكية»، أو الأحزاب التي تتبنَّى الفكر الاشتراكي، وترغب في إنجاز ثوارتها، بمساندةِ بعض هذه الأنظمة، في حاجةٍ للمُثَقَّفِين، ولِكتاباتهم، أو ما يمكن أن يقوموا به من دِعَايَةٍ للفكر الاشتراكي، ولهذه الأنظمة التي كانت تسعى لِكَسْب مشروعيةٍ فكرية، أو أيديولوجية، خصوصاً أنَّها كانتْ أنظمة خارجَةً من ثكنات الجيش، بقدر ما كان المثقفون، بدورهم، يرغبون في ترويجِ هذا الفكر الذي طالما دَعَوْا إليه في مواجهة الفكر الرأسمالي، الذي كانوا يَرَوْن في أمريكا حاضِنَتَه القوية، التي كانت العدوَّ الَّدود لهذه الأنظمة، وللأحزاب السياسية التي كانت تسعى للانتقال إلى مرحلة «الثورة» وتحقيق الحلم الاشتراكي.
إذا كان الوضع، في صورته العامة أو الإجمالية، بهذه الصورة، ويفرض هذا النَّوْع من التَّحالُف، بين هذين الطَّرَفَيْن، فما لم ينتبه إليه المثقف، في حينها، أنَّ هذه الأنظمة، والأحزاب اليسارية التي كانت حليفةً لهذه الأنظمة، كانت تستعمل المُثقَّفِين لخدمة فكرها، وتوجُهاتِها الأيديولوجية، وكانت ترسُم الحدود الممكنة لهذا الفكر وهذه التَّوجُّهات. ما وضع المثقف في موقف صَعْب وحَرِجٍ، لأنَّه لم يَعُد قادراً على انتقاد هذه الأنظمة والأحزاب، لأنَّ في نقدها ما سيُؤكِّد فشل هذا الفكر كاملاً، وهذا من حيث المبدأ يعني انتصار الفكر المُخالِف. كما أنًّه لم يَعُد قادراً على الانسلاخ عن هذه الأنظمة أو الأحزاب، التي كانت ذات انتشار وحضور كبيريْن في الوعي العام، وكانت ذات نفوذ وسَطْوَة، بالمعنى السلطوي، أيضاً. وكانت «الناصرية» هي الوجه الأكثر تعبيراً عن هذه الأنظمة.
فليس لأحد الحق في فَضْح الستالينية، رغم دمويتها واستبداديتها، وفضح ما تعرَّض له المثقفون من حملات قمعية شَرِسَة، بما عُرِفَ بالجدونوفية، وليس لأحد الحق في انتقاد «الناصرية»، رغم ما كان يتعرَّض له المثقفون المعارضون للنظام، ولِما آلَتْ إليه الثورة من انْحرافات. فأي نقد هو خيانة، وتآمُر على «الثورة»، ودعم لـ ««الإمبريالية الرأسمالية».
كان هذا التاريخ، في سياقه الثقافي، تعبيراً عن هزيمة المثقفين، وخِذْلانِهم، قبل هزيمة هذه الأنظمة التي لَبِسَت لبوس الثورة، واستعملت الاشتراكية لاستقطاب الفئات الواسعة من الناس، ممن كانوا يعيشون في الفقر والظلم الاجتماعي. ولعلَّ في هزيمة حزيران/ يونيو 1967م ما سيكشف الغطاء، ويجعل المثقف يخرج من هزيمته، وينتبه لضرورة أن يكون بعيداً عن سجون الأنظمة والأحزاب، أو حتَّى حين يكون داخل حزب ما، ينبغي أن يكون فيه بفكره، وبحسِّه وفكره النَّقديَيْن، وبما يقترحه من أفكار، لا بما يُمْلَى عليه، بحيث يصير مُجرّد محامٍ للشيطان، ليس أكثر.
استقلالية المثقف وحريتَه، هُما بين ما يمكنُهما أن يجعلا الثورات، في حالة حدوثها، تبقى حيَّةً ومُتَجَدِّدَةً، لأنَّ ثمَّة من ينظر إليها من خارجها، ولو كان من الدَّاعِين لها، أو المُدافعين عنها. لكن حين يصير المثقف تابعاً، فهو يفقد استقلاليتَه، ويفقد حريةَ رأيه، ويصبح عاجزاً عن اقتراح أفكار جديدة، لأنَّ من يذوب في النظام أو في الحزب، فهو يصير ماءً في نفس الإناء، وكما قالت العرب قديماً، فكُلّ إناءٍ بما فيه يَرْشَح.
٭ كاتب مغربي/القدس العربي