أحمد رجب الذي لا نعرفه


*يوسف القعيد

بعد رحيله عن الدنيا عن 86 عاماً كتبت عنه الأقلام ناعية ما يمكن أن يتفوق على ما كتب عن نجيب محفوظ بعد رحيله. وهذا جزء من طبيعة المجتمع المصري الآن. لكن الكتابات على الرغم من غزارتها الشديدة لم تتعامل سوى مع بابه اليومي الثابت في الأخبار نص كلمة. ثم على ما كان يكتبه تعليقاً على رسوم الكاريكاتير التي كان يرسمها له الفنان مصطفى حسين. وقد رحل مصطفى حسين 12/8 الماضي، في حين أن أحمد رجب رحل في 16/9 أي قبل مرور شهر على رحيل صديقه.

بل يقول القريبون من أحمد رجب إنه مات دون أن يعرف أن مصطفى حسين سبقه إلى الدار الآخرة. ورغم هذه الصداقة الفريدة التي كانت بينهما. وتعاونهما في عمل إبداعي. من المستحيل أن يقوم شخصان به. فالإبداع مسألة شديدة الفردية. إلا أنه حدثت مشكلة بينهما. وانفصلا في العمل فترة من الوقت. وما زالت هذه المشكلة من الأسرار التي لا يعرف الكثيرون تفاصيلها.
وتجربتهما المشتركة كانت ثرية. كان أحمد رجب صاحب فكرة الرسم الكاريكاتيري. وكان يكتب عليه فكرة أحمد رجب. أما الرسم، فكان ينفذه مصطفى حسين. والكلام المكتوب تحت الرسم كان يكتبه أيضاً أحمد رجب. ولأنه حدثت حالة من التكامل بينهما في العملية الإبداعية. فقد كان هذا الرسم يصنع لمصر ابتسامتها كل صباح. ويجعل المصريون قادرين على الضحك رغم ظروف الحياة الصعبة.
خلال هذه الفترة أبدع عدد من الشخصيات جاءت من الخيال. إلا أنها أصبح لها وجود في أرض الواقع. ربما أكثر شهرة منهما. ولعل أهم هذه الشخصيات: شخصية عبده مشتاق. التي تملأ الواقع المصري كلما كان هناك تعديل وزاري. وقد وصل التعبير للناس. لدرجة أنه ما إن يأتي تعديل وزاري حتى كنت أسمع الكلمة في الشارع خلال حوارات الناس. بل عندما يكون ثمة موظف انتهازي في عمله. يقولون عنه: عبده مشتاق.
غير عبده مشتاق أبدعا فلاح كفر الهنادوة. وهو شخص أتى من الريف ليسأل المسؤولين عن الأمور التي لا يستطيع فهمها من تلقاء نفسه. والفكرة تعد تطويراً لمسرحية محمود دياب: رسول من قرية دميرة. للاستفهام عن مسألة الحرب والسلام. فلاح كفر الهنادوة كانت ملامحه واحدة في كل الرسومات. وأسئلته تعكس تساؤلات الناس في الشارع المصري. ورسما شخصية كمبورة. واستخدماها في التندر على كل ما هو جديد طرأ على الشخصية المصرية. ولم يكن له وجود فيها من قبل.
وكانت هناك شخصية مطرب العواطف. التى سخر منها من أهل الطرب. وإن كان بيرم التونسى قد قال في قديم الزمان: يا أهل المغني دماغنا وجعنا دقيقة سكوت لله. فإن مطرب العواطف كان يعكس تجربة شخصية عند أحمد رجب. فما لا يعرفه أحد أنه عندما جاء من الإسكندرية لأول مرة فكَّر في دراسة الموسيقى واحتراف الغناء. رغم أن صوته آخر صوت في الدنيا يمكن أن يصلح في الغناء. ولأنه فشل في الامتحانات الأولى. فقد اتجه إلى الكتابة الساخرة في الصحافة.
لأحمد رجب أنشطة أخرى لم يهتم بها أحد على الإطلاق. فقد كتب 11 عملاً فنياً للسينما والتليفزيون. بعضها كان مهماً على الرغم من أية أحكام نقدية يمكن أن نطلقها عليها. لكن كانت فى وقتها أعمالاً شديدة الأهمية. كتب مسلسلاً إذاعياً وحيداً وكان عنوانه: حياتي.
أما أول أعماله السينمائية. يقف في المقدمة منها فيلم نجح نجاحاً جماهيرياً ساحقاً، وكان عنوانه: شنبو في المصيدة. وقد عرض سنة 1968، أي السنة التالية لجرح الخامس من يونيو 1967، قام ببطولة الفيلم: فؤاد المهندس وشويكار. وكانت أجواء الاكتئاب القومى العام بعد يونيو هى التى وفرت للفيلم نجاحاً غير مسبوق. لدرجة أن شنبو أصبح أحد الأسماء التى شاعت فى المجتمع المصرى بعد عرض الفيلم. هذا علاوة على العوائد المادية غير العادية التي حصلت عليها الشركة التي أنتجت الفيلم.
ثم جرى تحويله فى العام التالي إلى مسلسل إذاعي. كانت الناس تجلس لتستمع إلى أغنية: شنبو في المصيدة. وتردد الغناء مع النجوم. وبعد أن تنتهي حلقة المسلسل يكملون هم الغناء بمفردهم. لدرجة أن بعض من أنجبوا أطفالاً في ذلك الوقت. أطلقوا عليها اسم: شنبو. وشنبو تعبير مصري يشير إلى الشارب الذي كان يتزين به الرجل في أزمنة قديمة قبل أن يعرف المصريون موضة حلق شواربهم. بعد أن تفرنجت البلاد.
بعد نجاح الفيلم جرت محاولات كثيرة مع أحمد رجب ليكتب لهم فيلماً آخر. ولكن طبيعة الفنان بداخله جعلته يرفض تكرار التعاون مع نفس الشركة ونفس البطلين. لأنه يؤمن أنه لا يمكن استنساخ النجاح. ولا توريث النجاح. فاتجه لبطلين آخرين هما: رشدي أباظة وشادية. وكتب لهما فيلماً بعنوان: نص ساعة جواز. وفي هذا الفيل ركَّز الرجل كثيراً على هموم الزواج ومشاكله التي تنتج بعد أن يتم. ولذلك اختصر سنوات الزواج التي ربما امتدت بطول العمر كله إلى نصف ساعة جواز.
وفى العام التالي كتب فيلماً إنسانياً رقيقاً هو: شيء من العذاب، لسعاد حسني ويحيى شاهين وحسن يوسف. وقصة الفيلم أن فتاة ارتكبت جريمة وتهرب إلى مرسم فنان كهل فيحميها ويوفر لها مخبأ مهماً. لكنه – ويا للأسف – يقع في حبها. لعب دور الفتاة: سعاد حسني. صاحبة أجمل طلَّة في تاريخ التمثيل المصري على الناس عبر الشاشة. أما الرجل كبير السن الفنان الذي يقع في حب الفتاة الهاربة عنده فهو: يحيى شاهين. بقدرته على الأداء التي تذكرك بزمن مضى وانقضى من التمثيل.
ما لا يعرفه كثيرون أن الفيلم مأخوذ عن قصة لنجيب محفوظ. وأخرجه صلاح أبو سيف. أي أن المؤلف والمخرج قمة في الجدية وربما التجهم فى التعامل مع الدنيا. وربما لهذا السبب لجأ صلاح أبو سيف لأحمد رجب لكي يكتب المعالجة السينمائية للفيلم. حتى يخفف من جدية نجيب محفوظ ومأساوية صلاح أبو سيف. ففى هذه الفترة كان هناك إيمان قاطع بأن الكوميديا – رغم صعوبتها – قادرة على إسعاد الناس أكثر من المأساة.
بعد شئ من العذاب، قدم مسلسلاً بعنوان: بعد العذاب. ثم كتب خريف امرأة. وهو عمل فنى يحمل طابعاً رومانسياً غريباً على نظرة أحمد رجب للحياة وتعامله معها.
ثم قدم تجربة مع المخرج التليفزيوني إبراهيم الشقنقيري والسيناريست عاطف بشاي. حيث قدم مجموعة من القصص المتصلة المنفصلة بعنوان: الوزير جاي. ثم بعدها: فوزية البرجوازية. وأخيراً وليس آخراً: محاكمة علي بابا. وفوزية البرجوازية عمل يسخر من النخبة التي تحرص طول الوقت على ترديد عبارات غير مفهومة للعامة. حتى تبرر بها اختلافها عن الناس. مما يوفر لها حالة من الاستعلاء عليهم. وما إن يعرض فيلم فوزية البرجوازية حتى الآن. حتى تنتظره الناس. لأنه ما أسهل البكاء. وما أصعب القدرة على الضحك الذي لم يعد ممكناً في بر مصر الآن.
فيلمه التالي كان: صاحب العمارة. وأعقبه بمسلسل: ناس وناس. أو ناس كدا وناس كدا. من المؤكد أنه في تجربة أحمد رجب قدرة فريدة على استخدام العامية المصرية. استخداماً لا ينزل لمستوى الإسفاف. ولا يرتفع لحد الافتعال. لكنها عامية نابعة من الشارع المصرى. التقطها رجل كان حريصاً طوال حياته على أن يرتبط بالناس وأن يعيش معهم وأن يحاول التعبير عنهم منذ كلمته الأولى وحتى كلمته الأخيرة.
ما لا يعرفه الناس أن أحمد رجب كان إنساناً صموتاً. يميل إلى العزلة ولا يحب الاجتماع بالناس. ويغلق باب مكتبه عليه في الأخبار منذ مجيئه في الصباح وحتى انصرافه بالليل.
________
*عُمان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *