ثنائية الجمالي والمعرفي في النص الـ”فيس بوكي”


*إبراهيم اليوسف

لا يخفى على أحد، أن شبكات التواصل الاجتماعي، بشكل عام، ومن ضمنها ال”فيس بوك”، قد باتت الأكثر استقطاباً لدائرة المتفاعلين معها، ضمن العمارة الكونية حيث تتعدد أغراض هؤلاء، من ذلك، كما هي سمة العلاقة – عموماً – مع العالم الافتراضي كله، لاسيما أن المقاربة بين الواقعي والافتراضي باتت تتلاشى، وهو ما لم يتم الانتباه إليه من قبل كثيرين، وتعود أسباب ذلك إلى مدى تطويع الشبكة العنكبوتية لحاجات الكائن البشري، بحيث باتت تستطيع الإجابة عن أسئلته كلها، سواء أكانت معرفية، أم فنية، أم اجتماعية، أم اقتصادية، بل وحتى عسكرية .

وبديهي، أن مجرد تسمية عالم الإلكترون، بكل مفرداته، ب”العالم الافتراضي” يلفت الانتباه إلى وجود عالم مواز لعالمنا الواقعي، بكل تفاصيله الصغيرة منها، والكبيرة، في آن، عالم يموج بأصداء الحياة، بانعكاسها، عالم يكاد يكون صورة طبق الأصل عن عالمنا، لقد صار بمثابة معين لديمومة النسخة – الواقعية – من العالم، وصار ذاكرة له، بل وموازياً له، ومتواشجاً معه، إلى تلك الدرجة التي نكاد نفشل في أن نفصل بين حدوديهما، في يومياتنا، ومعارفنا، إلى حد اللبس والتطابق .
ضمن هذا الإطار، فقد جاء ال”فيس بوك” كإحدى مفردات ثورة المعلومات، من خلال الدفق اليومي ليس لما هو في حدود المعلومة – فقط – بل ما يطفح ببعديه: المعرفي والجمالي .
من يعد إلى الإبداع عبر التاريخ، يجد أنه قد حقق شرطين رئيسين معاً، وهما: الفائدة والمتعة، من دون أن يتخلى أحد طرفيه عن الآخر، في متوالية جمالية معرفية، بيد أن النظرة إلى هذين الشرطين، قد اختلفت مع الزمن، لاسيما بعد أن تم توظيف الأدب في خدمة التعليم، حيث وظفه بعضهم كأداة، في سبيل خدمة ما هو معرفي، ما خلق الكثير من اللبس في جملة المفاهيم، ومن بينها ما يخص العلاقة بين المعرفة والجمال، ضمن إطار النص الإبداعي، وهو أحد أسباب ردود الفعل من قبل المدارس الإبداعية الحديثة التي انحازت إلى ما هو جمالي، لاسيما في بعض منها، إلى درجة إلغاء بعضها لدور المعرفي، إذ تم ترويج مقولة “لا يمكن للشعر أن يكون وسيلة لمحو الأمية”، وغيرها من المقولات المشابهة التي راحت تضع الشعر – على نحو خاص – في أحد أبراجه العاجية، ليكون فن الأنتلجنسيا، بل صار تدريجياً فن “نخبة النخبة”، وهو ما جاء على حساب جماهيريته التي كاد أن يجهز عليها .
ومن يعد إلى الإبداعات الأدبية – سرداً وشعراً – يجد أن من سمات الأول منهما الوضوح، كما هو تعريفه التقليدي من قبل النقاد – وأن من سمات الشعر أن يكتنفه بعض الغموض، وإن تراوحت ترجمة الغموض على أيدي الشعراء ما بين ما هو بسيط، وما هو مسرف، أو متماد فيه، إلى درجة الإبهام، والاستغلاق، والتلغيز .
ليس بإمكان أي نص – في الحقيقة – أن يرتقي إلى مستوى النصية التي تحقق شروط – الخطاب الإبداعي – في ما إذا كان خاوياً من الناحية المعرفية، وإلا فإننا نكون هنا أمام محض مفردات، خارج دورها الدلالي، حيث هناك شروط لدور المفردة في الجملة، بما يفتح الآفاق لخلق علاقات جديدة، ومعان جديدة، بعيداً عما هو مستهلك، وهنا يكمن سر اختلاف الكلام عن اللغة، أو الشفهي عن المدون، حيث إن الشفهي عام، بينما المدون خاص، أي أن روح الإبداع تتجلى في الثاني منهما، باعتبار أن الأول مشترك بين عامة المتحدثين، وأن اللغة في الخطاب، تدخل في إطار البنية الشكلية، فإن جماليته تعد روحه الحقيقية التي بها ينبض بالحياة، وبها يستطيع أن يحقق صفة تجاوز الذات والآخر المطلوبة من أي خطاب إبداعي عادة، لذلك فإن المعادلة الإبداعية لا تتحقق في أي نص، في ظل غياب العنصر المعرفي، هذا العنصر الذي هو علامته الفارقة التي تميزه عن سواه .
كرس خطاب “ما بعد الحداثة” ثيمة التركيز على العنصر الجمالي، على حساب العنصر المعرفي، وهو ما زاد الهوة بين النص ومتلقيه، حيث راحت دائرة جماهيريته تتقلص، بل كان ذلك سبباً في انكفاء الإبداع الشعري، من خلال وجهات نظر بعض النقاد الذين يرون أن العقود الزمنية السابقة كانت تحفل بأسماء الشعراء المائزين، بل يمكننا أن نضيف في هذا المقام، أن رحيل شاعر من طراز محمود درويش، لم يترك فراغاً هائلاً، فحسب، وإنما راح يدعو وفي ظل عدم ظهور من يستطيع أن يحقق حضوره الإبداعي، للتساؤل “هل حقاً لم يعد يظهر شعراء كبار منذ مطلع العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين، على نحوأخص . .؟” . ويبدو أن الانتشار المعلوماتي الهائل، لاسيما من خلال شبكة التواصل الاجتماعي التي يعد ال”فيس بوك” أنموذجها الأبرز، ولجوء المتفاعلين “فيسبوكياً” إلى التواصل مع بعضهم بعضاً، دعانا لنكون أمام نصوص هائلة في ال”فيس بوك”، بينها “الغثّ” والسمين” في آن، وإذا كان الغث – في الأصل – هو الأكثر- وهو أمر طبيعي – مادام أن في إمكان كل من لديه “خط إنترنت” و”جهاز كمبيوتر” و”حساب فيسبوكي” أن ينشر مايريد في هذا الفضاء، فهو ما جعل النصوص المائزة أشبه ب”إبرة الذهب” الأسطورية التي تضيع وسط ما هو مكرر بلا هوية أو بصمة إبداعية من “جبال القش” غير الإبداعية، إلا أنه ورغم بون المسافة/ المفارقة بين حالتي “الذهب” و”القش”، إلا أن كلاهما موجود، بل إن كثرة الكتابات الغثة، جاء استجابة لواقعة ما بعد “حرية النشر” التي يحققها النشر الإلكتروني، وصار في إمكان كل متحرر من أميته أن يغدو كاتباً وناشراً . ولهذا فإننا هنا أمام سطوة المتلقي التي من بين أدواتها فرض الجانب المعرفي، من دون التخلي عن الجانب الجمالي .
_______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *