لماذا يمسح الماضي من الذاكرة؟


د.فيصل غرايبه*

( ثقافات )




أن يضيف كاتب عريق إضافة فكرية جديدة، عمل يستحق عليه الثناء، وقد يتجاوزه إلى الانبهار، لدى المتلقين من المهتمين و المطلعين و القراء، عدا ما يخلفه الطرح الفكري من حالة تفكير و تأمل لدى المهتمين،تحاول أن تثبت هذا الطرح كقناعة شخصية،أو أن تشكك فيه، أو تخضعه للتأويل، أو تنفيه عن ساحة التفكير، رفضا ومعارضة.تشتد هذه الحالة اضطرابا أو ديناميكية وانشغالا منظما في ذهن المتلقي، التي ربما ينقلها إلى ميدان المناقشة وساحة المحاورة، لاسيما إذا كان ما طرح يقع في حيز الممسوح من الذاكرة، إذ هو مما سار بركب الحضارة، و لكن الأجيال التي عاشت معه أو تابعته أو رصدته، طوته أو نسيته، أو لم تلم بجميع جوانبه وأطرافه، وهكذا إلى أن يأتي من ينقب و يقلب بما حدث على امتداد التاريخ، ويتعمق ويتوسع في ما أنجزه صناع الحضارة وما راكمه أصحاب التراث، وهذا ما فعله كاتب أردني رصين، تطرق في كتاباته إلى الكثير من مشاغل الأذهان الأردنية، وقام بتحليل العديد من جوانب الفكر الإنساني، مهتما بربط ما يطرح وما يبنى على ما يطرح من وجهات نظر، لاسيما إن كانت متباينة أو حتى متضادة.و يزيد العمل طرافة عندما يصدر بعد وفاة صاحبه، فتنبري ابنته و بالتعاون مع بعض الخيرين ممن كانوا على تواصل معه شخصيا وفكريا، و تزداد الطرافة الممزوجة ببعض الألم، عندما يتبين أن هذا الجهد الفكري البحثي العلمي كان من المقرر أن يصدر في كتاب عن بيت الحكمة في بغداد، ولكن الغزو للمؤلم العراق، الذي دمر العمران وحبس الثقافة معا، حال دون ذلك في اللحظات الأخيرة. فما كان من أمانة عمان الكبرى إلا أن تصدر هذا العمل المنجز بعنوان ” الماضي الممسوح من الذاكرة” لمؤلفه المحامي سليم صويص، وتصدره في كتاب الدائرة الثقافية في أمانة عمان الكبرى عام 2010 وتحتفي دائرة المكتبة الوطنية بإشهاره والتحدث عن مضامينه وتقليب صفحاته التي بلغت ثلاث مائة و أربع و خمسين صفحة من الحجم المتوسط.فصار علما ينتفع به كأحد الأعمال التي تبقى للمرء بعد وفاته، مثلما بقي من الأجر اثنان إن اجتهد و أصاب و أجر واحد أن اجتهد ولم يصب، و نرجو للكاتب الراحل سليم صويص ذالكما الأجرين. 
قام الكاتب الراحل سليم صويص بقراءة التاريخ العربي القديم، ساعيا من وراء ذلك إلى بعث الروح القومية، وهو يلقي الضوء الساطع على ما أنجزه أجدادنا العرب الأوائل،ذلك المنجز الذي طرد من الذاكرة العربية، ثم دونه على شكل مراحل متتابعة ومتلاحقة شكلت الماضي الممسوح من الذاكرة،مثبتا ان العرب كانوا من اسبق الأمم إلى التمدن وإقامة سياقات الإدارة و الحكم و الدولة ومنجزين حضارات فرعية لا تغطى بغربال و لا تطمس تحت غيوم،و لا يجدي معها النكران و التزوير، حيث يستحضر منجزات عربية تعود إلى أكثر من أربعة الاف عام، وظل يقاربها حتى سطوع فجر الإسلام، و قد تبين له في الأثناء أن التعصب والحقد قد ساهما في ذلك الطمس،وما أحاط ذلك من عداء تمثل أكثر ما تمثل في موقف اليهود تجاه الحضارات العربية القديمة كالبابلية والعمونية والمؤابية والآرامية والكنعانية، و مثلما اتضح في المدونات اليونانية القديمة غير المنصفة للعرب و دورهم الحضاري، إضافة إلى ما فعلته الحروب والفيضانات والزلازل من تدمير وجرف لشواهد الحضارة العربية و لما كان يرمز إليها في أنحاء شتى من العالم القديم.
وفي دعوة لكي ننظر إلى منجزات العرب الحضارية الإبداعية كما نظر إليها سليم صويص في بلاد ما بين النهرين(العراق) وقرطاجة(تونس) وتدمر(سورية) وبترا(الأردن). يوضح لنا الكاتب أن سكان البادية العراقية كانوا يسمون عند البابليين “عمورة” أي أبناء غرب الفرات وهم الآراميون.، مستشهدا بما أورده فيليب حتي في كتابه (تاريخ سوريا ولبنان) من إن العمالقة هم عموريون وكنعانيون وعرب، و ما أورده كلاي في كتابه (إمبراطورية العموريين) بان تاريخ العموريين يعود إلى الإلف الرابعة والخامسة قبل الميلاد ، وان عمورية جذر حضارة بابل، كما وأن هناك تشابه بين اللغة البابلية في عهد حمورابي واللغة العربية التي نتداولها نحن العرب من حيث حركات الإعراب وصياغة الأفعال.و يستطرد الكاتب صويص في إثبات الأدلة والبراهين في مثل اشتقاقات أسماء الأقوام العربية في تلك الأحقاب، حيث أن تسمية الآراميين جاءت نسبة إلى مكان ، إذ تستند الى مصدر الكلمة (رم) وتعني المكان المرتفع، فقد كانوا يقطنون منطقة جبلية في بلاد الشام والعراق، بينما كان اسم هؤلاء المستقرين في الأرض الكنعانيون، أي السكان المستقرون,ويمضى كاتبنا إلى القول بأن كلمة (فينيقيون) مشتقة من المصدر (فينيقو) أي (المترف)، ليصل إلى استنتاجه من أن وحدة اللغة على هذا النحو قد أوجدت الروح القومية والشعور القومي المشترك. 
بالإضافة إلى اللغة..استند صويص إلى وحدة التاريخ والجغرافيا كمؤشرين آخرين في تعرية محاولات الطمس والتشويه لمتضمنات التاريخ العربي القديم ، عدا ذاك العامل الوحدوي فيما بينها، و الذي تمثل في العدو المشترك لتلك الدول العربية القديمة التي عبرت عنه حروبها مع اليهود, وكاتبنا في هذا المقام يعلل سقوط بترا عاصمة الأنباط، بمؤامرة دبرها المكابيون اليهود، الذين وضعوا بواكير فلسفة الحركة الصهيونية، كما يفسر الصويص، ويضيف إلى ذلك معلومة هامة تتعلق بهذا القوم النبطي ومضمونها أن طريق الملوك الذي أدعى الرومان ابتكاره في عهد الإمبراطور تراجان،ما هو إلا طريق ماريس الذي أنشئ في الالفية الثانية قبل الميلاد، قبل سقوط المملكة النبطية بألفي عام.
وفي موضع آخر، ولكن على صعيد متصل، يعتبر سليم صويص مملكة تدمر بزعامة الملك اذينة والملكة زنوبيا أول مشروع قومي وحدوي في التاريخ العربي القديم، ويجره الحديث إلى الإشادة بأدوار الملكات العربيات خاصة و النساء العربيات عامة، فيذكر الملكة التنوخية التي وصلت معاركها إلى مشارف أوروبا ضد القوط، و مملكة روما مامايا، في سبيل الدفاع عن المسيحية العربية ضد المسيحية البيزنطة ، والامبراطورات العربيات في تلك العصور القديمة ، من مثل (زبيبة) و(شمسي) من قوم ثمود، حيث وصل حكمهما إلى مشارف مصر، استنادا إلى السجلات الأشورية . ناهيك عن تولي الأباطرة العرب الحكم في روما ومنهم سبتميوس سفيروس وابنه كراكلا وفيليب العربي. أما ما استقر في الأذهان من أن العرب في بلاد الشام كانوا أتباعا للروم وعرب الرافدين كانوا أتباعا للفرس، فيبرهن صويص أنه محض اختلاق،داعما ما توصل إليه، بما جاء في كتابات حبيب تلميذ المؤرخ هشام الكلبي حول الوثيقة الوحيدة المدونة وقد صاغها ملك الروم موجها إياها إلى ملك الغساسنة- العربي- طالبا منه أن يقبل التحالف فيما بينهما. لا بل و يشير الكاتب سليم صويص إلى تفاهمات الغساسنة حكام الشام واللخميين حكام العراق ليتجنبا معا التصادم فيما بينهما لمصلحة أي من الروم او الفرس، والذي يعتبره الكاتب تعبيرا عن شعورهم القومي الواحد تجاه عدويهما المشتركين الفرس والروم ،وتمهيدا لإقامة حكم عربي في المنطقة.
ويستطرد الكاتب صويص في رصد النضال العربي القومي القديم، ليبرز مسعى حروب الغساسنة ضد اليهود في الحجاز، التي قوت الرابطة القائمة آنذاك بين عرب الجزيرة العربية وعرب الشام، وشدت من عزيمة العرب والمسلمين خلال عمليات الفتح الإسلامي في شمال الجزيرة العربية والشام والعراق.والتي أورد الكاتب منها حالة قمع الغساسنة لتمرد السامريين عام 529 ميلادي ردا على المجزرة التي قام بها اليهود في اليمن ضد مسيحيي نجران عام 523ميلادي ، و التي باع الغساسنة في أعقابها ألاف السامريين الى الحبشة،وهم ما عرفوا فيما بعد باسم(فلاشا) والتي تعني باللغة الامهرية التي تستخدم في الحبشة (المهاجر) قصرا أو بحريته،وينوه في ذات السياق كيف امتد نفوذ الغساسنة حتى وصل إلى أنطاكيا والرها وديار بكر و منطقة جنوب الاناضول. و يضيف الكاتب الى ذلك توضيحات لا يصل اليها الغموض و لا يخالط يقينها أي شك، فيورد أن كلمة )الهكسوس) كلمة يونانية تعني (رعاة) واصلها قبطي من كلمة(هيتاخاسوت) وتعني بالقبطية ) زعيم من بلد اجنبي)، مثلما ان كلمة (بايبل) جاءت من مدينة جبيل و مسماها (بيبلوس) التي اشتهرت في عهد العمريين بصناعة الورق والنسيج، و(مأرب) وهي كلمة آرامية مركبة من مفردتين هما (ماء) و(راب) بحيث تعني الماء الكثير او السيل الغزير. و يخص الكاتب الأردن بالذكر، محاولا الربط بين الأحداث والأماكن في الزمن الغابر،على أرضنا الأردنية،مثل إشارته إلى عمون هي عمان وإيلا هي اربد وجدارا هي آم قيس في الشمال وجازر هي أم جوزة في البلقاء حاليا.
يستنتج الكاتب بعد ما سبق، أن ظهور شعور عربي عام بضرورة التخلص من السيطرة الرومية والفارسية، انبعث مما قام به القومان من تدمير مملكة الغساسنة على يد الروم في العام 580 الميلادي واللخميين على يد الفرس في هذا العام أيضا، وقد شكلت منطقة الحجاز وخاصة مكة وما حولها ملاذا آمنا للمضطهدين المسيحيين من كلتا الدولتين الفارسية والبيزنطية، وهي المنطقة ذاتها التي بشرت بالإسلام و ظهر فيها محمد بن عبدالله رسول الله الذي قاد البشرية الى النور من جديد، في تلك المرحلة الزاهرة من مراحل النهوض العربي.
يورد كاتبنا في هذا الخضم تلك الرواية عن اخوين بابليين و قد جاءا الى الكرك للاتصال بالمواطنين التواقين إلى التحرر من سيطرتي الروم والفرس، وهما مسيحيان بطبيعة الحال، ويعتبرهما مؤسسين لعشيرة العزيزات الممتدة و المعروفة حتى الآن في الأردن، وقد ساعدا القائد المشهور خالد بن الوليد في معركة مؤتة، في أمور تتعلق بطبيعة المنطقة وامتداد الطرق فيها، و على نفس الغرار كان استقبال الجيوش العربية الإسلامية في الشام والعراق وسط ترحيب المواطنين هناك بهذا القدوم الفاتح، المبشر بالخير.
على هذا النحو سار سليم صويص رابطا بين مجريات الأحداث كما وقعت، وبين زمان ومكان حدوثها و جريانها، معتمدا في ذلك على نظرة في أعماق ثقافات شعوبها وخصائص مجتمعاتها، غير غافل عن تقليب صفحات مدوناتها أو التأمل في معالم حضارتها التي ما تزال تشهد على منجزاتها في الزمن الغابر وطويت في ثنايا ماضيها التليد، عاقدا المقارنات وواضعا المقاربات، حتى ينتهي إلى نتائج ، كان يطمئن لصوابية افتراضه فيها وان كان لا يتعامل مع القضايا المتناولة والمسائل المطروحة،والتي انتقيت بعناية بما يسمح تاريخيا ماضيا وذهنيا مضارعا، اعتبارها مدرجة تحت أستار النسيان أو ستائر التناسي المتعمد، غربيا أولا وعربيا ثانيا.ولا يقوي من حجة الكاتب أقل من إيراده صورا مسقطة من ماضي العرب على حاضرهم وماضي الغرب في تعامله مع العرب وحاضرهما العرب و الغرب معا في علاقات تنافر وتجاذب وصراحة ومواربة ومصالح وتضارب.
أحس بعد قراءتي لكتاب المحامي الراحل سليم صويص و المعنون” الماضي الممسوح من الذاكرة” انه قد مد يدا سحرية إلى ذاكرة الإنسان العربي المعاصر،فانفتحت آفاقها، وتوسعت حدقة عينه لتمتد بإبصارها إلى الماضي السعيد لآبناء قومه الذين كانوا منذ ذاك الزمان يبنون صرحا لحضارة الأمة لا بل صروحا ممتدة عبر العصور و منتشره عبر الأقطار العربية من محيطها إلى خليجها، وتجاوزت تلك الحدود التاريخية والجغرافية، لتعود منجزات العرب بالخيرات على من والاهم وتحالف معهم وتشارك معهم في صناعة التقدم الإنساني وتشييد العمران البشري.
إن مثل هذه الأطروحات تترك أبواب البحث عن الحق والصواب مشرعة لمن يريد المزيد من التفاصيل والكثير من الإجابات على تساؤلات المتسائلين و افتراضات الباحثين.و ليس لنا في هذا الوضع إلا أن ندعو أجهزة الثقافة العربية على امتداد هذا الوطن الكبير أن تنهض بمسؤولياتها لربط الحاضر بالماضي ليكون حجة لنا لا علينا كصناع حضارة وأصحاب إرادة، أضفنا ونضيف وسنبقى نضيف إلى تراث الإنسان وسجل منجزاته الشيء الكثير والإسهام الكبير.

*كاتب أردني في قضايا الثقافة و المجتمع
dfaisal77@hotmail.com

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *