فِي ذِكْرَى مَصْرَع فِدِيرِيكُو غَارْسِّيَا لُورْكَا


*محمّد محمّد خطّابي

ذكرى اغتيال الشاعر الإسباني الذائع الصّيت فدريكو غارسيا لوركا ، شكّلت تجربة فريدة من نوعها عاشتها مؤخّراً الأوساط الأدبية الإسبانية والمغربية على حدّ سواء، أصحاب هذه البادرة الرّائدة هم ثلاثة من الشّعراء المغاربة المجيدين ، وهم بالتوالي مصطفى الداودية (كاتب باللغة الفرنسية) ،ورشيد الميموني(كاتب باللغة العربية) وأحمد المغارى (كاتب باللغة الإسبانية) ،فقد قام هؤلاء المبدعون الثلاثة بما لم يقم به زملاؤهم الشعراء الإسبان فبادروا إلى إحياء هذه الذكرى بقراءة نصوصهم الشعرية،وأزجالهم فى كلّ من مدينتي الجزيرة الخضراء الإسبانية وتطوان المغربية ،تحت رعاية جمعية المسرح الأدبي بنادي الإتحاد بمدينة الحمامة البيضاء، هذا كما تمّ خلال هذه الامسية الشعرية الحالمة عرض شريط عن حياة الشاعر لوركا، وتقديم نبذة عن إبداعاته الشعرية ،والأدبية، وبشكل خاص فى عالم المسرح الذي تألق فيه الشاعر الغرناطي كذلك بشكل فريد. ولقد تمّ تنظيم هذه التظاهرة الثقافية، والأدبية ،والشعرية المتميّزة فى 19 أغسطس2014 أيّ فى نفس اليوم الذي إغتيل فيه لوركا من عام 1936 منذ 78 سنة خلت مع إنطلاق شرارة الحرب الأهلية الإسبانية التي إستمرّت رحاها تدور بثفالها حتى 1939. كان فدريكو غارسّيا لوركا قد وُلد فى الخامس من شهر يونيو من عام 1898، وأغتيل فى 19 اغسطس من عام 1936) .

مَصْرَع لُورْكَا
ولكن من ذا الذي إغتال لوركا…؟ وكيف تمّ ذلك…؟ ولماذا…؟ كان الشّاعرالأندلسي القادسي الكبير” رفائيل ألبرتي”( نسبةً إلى مدينة قادس الإسبانية) كان قد كشف النقابَ قبيل رحيله عن تفاصيل مصرع لوركا ،و كيف أنّه واجه الموت بشجاعة وصلابة ، يقول في هذا الخصوص: أنّ طبيبا إسبانيا يدعى ” فرانسيسكو فيغا دياث ” كان شاهد عيان في مقتل الشاعر لوركا، قد حكى قصّة بهذا الشأن ردّدها له سائق التاكسي الذي قاد لوركا، إلى جانب معتقل آخر وثلاثة من العساكر الذين ينتمون للحرس المدني الإسباني . إنّ الطريقة التي قتل بها لوركا كانت حتى الآن لغزا محيّرا، و قد أعطيت تفسيرات مختلفة حول هذا الأمر، وحسب” فرانسيسكو فيغا دياث ” فانّ سائق التاكسي كان قد زا ره في عيادته في 13 غشت 1936 وحكى له أنّ الأحداث وقعت فى الليل، و قد تعرّف سائق التاكسي على واحد من الذين تمّ القبض عليهما وهوالشاعر الغرناطي بواسطة الكشّافات التي أوقدها الحرّاس للقيام بعملية الإغتيال، و كان غارسيا لوركا قد سافر من مدريد إلى مسقط رأسه غرناطة إذ – حسب الشاعر ألبرتي – كان لوركا يعتقد أنّه في أرضه سيكون في مأمن من الخطر. و أضاف: “إنّ لوركا كان يغشاه خوف الأطفال، و كان يعتقد أنّه في غرناطة لن يحدث له شيء” فرَكِب القطارَ إليها ،إلاّ أن الموت فاجأه هناك، فكلّ منا يحمل موته معه “.ولقد سمع سائق التاكسي الشّاعر لوركا يقول لقتلته : ماذا فعلتُ حتى تعاملوني هكذا ..؟ ثم ألقى الحراس بعد ذلك بلوركا والشخص الذي كان معه – كان مسنّا و أعرج – داخل حفرة منخفضة، فعمل الشاعر على مساعدة زميله على الوقوف ممّا زاد في حَنَق الحرّاس حيث ضربه أحدُهم بمؤخّرة سلاحه وشجّ به أمّ رأسه، ثم بدأ القتلة يشتمون الشاعر ويرمونه بأحطّ النعوت، وطفقوا بعد ذلك في إطلاق النار عليه على الفور.وأكّد السّائق أنّ إثنين من مصارعي الثيران، وعشرة من الأشخاص الآخرين قد قتلوا كذلك في تلك الليلة نفسها.
و تشير الكاتبة والناقدة المكسيكية ” إِيرْمَا فوينتيس” معلقةً على ذلك:” إنّ الشّعراء مثل الأبطال والأنهار يطبعونَ شعوبَهم بطابعهم ويجعلون شعبَهم يختلف عن الشعوب الأخرى، فالشّعراء يتركون في العالم ضوءاً مشعّاً متعدّد الألوان، يجعلون الرّجالَ يجتمعون ويتوحّدون رغم تباين أجناسهم، و ثقافتهم ،وعلى الرّغم من الخلافات الإيد يولوجية، والسياسية ،والمشاحنات والمشاكسات التي قد تنشب بينهم، و قد تصل حدّ الحروب والمواجهة. فكلّ شاعر من هؤلا ء بغضّ النظر عن الزّمن الذي يولد فيه، يصبح بمثابة “معزف” كوني متعدّد الأوتار، وإن اختلفت أنغامُه فهو يعزف لحناً واحداً يعظمه كلّ موجود حيّ في أيّ صقع من أصقاع العالم”، وتضيف الناقدة : “وعليه فإنّ فقدان أيّ شاعر لدى أيّ أمة هو حدث تراجيدي يمسّ الإنسانيةَ جمعاء وليس رقعته الجغرافية وحسب، هذا على الرّغم من وجود شعراء آخرين كبار، وأمّا إذا اغتيل شاعر فانّ الشعور بالمأساة يتفاقم ويزيد ويكون أفدح وأعمق “.
متحف لوركا
يعتبر النقاد الإسبان، وغير الإسبان الشاعر الإسباني- الأندلسي فيدريكو غارسيا لوركا من أكبر وأكثر الشّعراء شعبيةً ،ومن أبرزهم تأثيراً فى الأدب الإسباني فى القرن العشرين. وبالإضافة إلى الجائزة الشعرية العالمية الكبرى التي تنظّم كلّ سنة بإسمه، تقام فى العديد من المناسبات إحتفالات،وتظاهرات ثقافية، وأدبية، وشعرية، ونقدية هامّة حول هذا الشاعر الكبير بمشاركة عدّة شعراء إسبان وأجانب ، وتنظّم هذه اللقاءات على وجه الخصوص فى مدينة” فْوِينْتيِ بَاكِيرُوسْ” القريبة من غرناطة وبالضبط فى مسقط رأس الشاعر بها وهو المنزل الذي أصبح اليوم متحفاً له، ولكافة أعماله الإبداعية على إختلافها ،ويضمّ متحف الشاعر لوركا بعض مخطوطاته الشعرية الأصلية القديمة ،وبعض صوره، ورسوماته، ورسائله، وآثاره، ومخلّفاته بما فيه البيانو الشهير الذي كان يملكه فى حياته والذي عزف عليه لوركا نفسه والعديد من كبار العازفين، والموسيقييّن الإسبان وغير الإسبان.
كما تقام إحتفالات كبرى فى تواريخ متفاوته، ومناسبات شتّى فى العديد من مدن إسبانيا وأمريكا اللاتينية ،والولايات المتحدة الأمريكية منها مدينة نيويورك حيث كانت الأوساط الثقافية التي تُعنى باللغة الإسبانية وآدابها قد إحتفت بمخطوط ديوان لوركا المعروف “شاعر فى نيويورك “(أنظر مقالي فى “القدس العربي” بتاريخ 18-2-2013 حول هذا الموضوع تحت عنوان” غارسيّا لوركا يعود لمدينة ناطحات السّحاب من جديد ). يقول لوركا فى قصيدة ( وداع) المبثوثة أو المدرجة ضمن هذا الديوان :” إذا متّ فاتركوا بابَ الشّرفة مفتوحاً…” وخلال إحياء هذه الإحتفالات وسواها كان باب الشرفة دائماً مفتوحاً كما أراد ذلك الشاعر الرّاحل .
شاعر في نيويورك
كان فيدريكو غرسيا لوركا قد كتب هذا الديوان الشهير خلال وجوده بجامعة ‘كولومبيا الأمريكية’ بنيويورك (1929-1930) ثم خلال سفره إلى كوبا بعد ذلك، وقد نُشر هذا الديوان لأوّل مرّة عام 1940 أيّ 4 سنوات بعد مصرع الشاعر. وكان لوركا قد غادر إسبانيا 1929 ليلقي بعضَ المحاضرات في كوبا ونيويورك، وإن كان سبب هذه الرّحلة في العمق هو هروبه وإبتعاده عن جوّ المهاترات، والمشاحنات والبغضاء الذي كان قد أصبح سائداً في الوسط الدراسي بمدريد، حيث أصيب لوركا من جرّاء ذلك بكآبة شديدة، وحزن عميق، وقد كان للمجتمع الأمريكي تأثير بليغ على الشاعرالغرناطي، إلاّ أنه أحسّ بنفور كبير من الرأسمالية والتصنيع المبالغ فيه، كما أنه شعر باشمئزاز بليغ من المعاملة التي كان يُوسم بها الأمريكان البيض الأقليّةَ من السّود، لقد كان هذا الديوان صرخةً مدويّة ضد الرّعب، للتنديد بالظلم والتمييز العنصري في هذا المجتمع الغارق فى التصنيع، والإغتراب القاتل للجنس البشري، والمناشدة بضرورة إحترام البعد الإنساني للبشر، وصون حقوق الإنسان، وسيادة الحرية والعدالة والحبّ والجمال، وربّما هذا ما حدا بالنقّاد إلى إعتبار هذا الديوان من أهمّ الأعمال الشعرية التي ظهرت وواكبت عصر التحوّل الاقتصادي، والتطوّر الاجتماعي ،والنموّ الديموغرافي بطريقة لم تعرفها البشرية من قبل.
يتألّف المخطوط الأوّل والأصلي الوحيد لهذا الديوان من 96 صفحة مكتوبة على الآلة الراقنة ،بالإضافة إلى 26 صفحة مكتوبة بخطّ اليد، لقد هاجر هذا المخطوط مع الأديب والناشر الإسباني”خوسّيه بيرغامين” (الذي كان لوركا قد سلّمة المخطوط لنشره) إلى فرنسا في المقام الأوّل، ثمّ في مرحلة أخرى إلى المكسيك، (حيث نشرت الطبعة الأولى منه عام 1940 في كل من المكسيك والولايات المتحدة الأمريكية، وقد ترجمه آنذاك إلى اللغة الإنجليزية “رولف هومفريس”، وظلّ المخطوط في النّصف الثاني من القرن العشرين متخفيّا ينتقل من يد إلى يد حتى وقع عام 1999 في يد الممثلة الإسبانية “مانويلا ساهافيدرا” وفي عام 2003 أمكن لـ ” مؤسّسة غارسيا لوركا” إستعادةَ هذا المخطوط بعد إقتنائه في أحد المزادات العلنية، ثم إشترته أخيراً وزارة الثقافة الإسبانية عام 2007. من القصائد التي يتضمّنها الديوان:”السّماء الحيّة”،و”البانوراما العمياء لنيويورك'”، و”الموت”، و”غنائية الحَمَام”، (التي أصبحت فيما بعد تحمل إسم ‘قصيدة الحمائم الحالكة)، و”قصيدة الثور والياسمين”، (التي أصبحت فيما بعد تحمل عنوان “قصيدة الحلم في الهواء الطلق”، و”أرض وقمر”، وسواها، وبعض هذه القصائد مدرجة كذلك في كتاب لوركا الذي يحمل عنوان: “ديوان تماريت”، (كذا)، أيّ باستعمال كلمة (ديوان ) كما تنطق وتستعمل في اللغة العربية إلى اليوم.
أَصْوَاتُ الحِمَام دَقَّت
من ذا الذي يمكنه أن يعوّضنا ما ضاع مع الشاعر، بدأ غارسيا لوركا قرض الشّعر في العشرين من عمره وإستمرّ في الكتابة حتى يوم إغتياله عام 1936 و قد خلف لنا عشرات من القصائد مبثوثة في العديد من دواوينه مثل “كتاب الأشعار” ، و”قصائد غنائية” ،و “القصائد الأولى” ،و “أغاني الغجر الشعبية” ،و “شاعر فى نيويورك” ،و”بكائية عن إغناسيو سانشيس ميخيّاس” ثم كم من الدواوين كان يمكن أن تضاف إلى هذه القائمة لو إستمرت حياته على وتيرتها الطبيعية كيف ستكون أعماله الآن..؟
قال لوركا عندما كان على بضع خطوات من نهر ” الوادي الكبير” الذي ما زال يحمل إسمه العربيّ والإسلاميّ القديم إلى اليوم :
أصواتُ الحِمَام دَقّتْ ، بالقُرْب مِنَ الوَادِي الكبَير
أصواتٌ قديمةٌ طوّقت، صوتَ القرنفل الرجوليّ
ثلاثُ دقّات دَمَوِيّة أصَابتْه ، وَمَاتَ على جنب . (**)
على الرغم من شَغَفِه بالمسرح، فإنه في حياته الأخيرة لم يتوقف عن نظم أشعار رقيقة مؤثّرة وحزينة، كانت الأندلس من أبرز علامات هذه الأشعار، كان لوركا مجدّدا و فريدا ، و طائرا غرّيدا في الشعر، كان من الطليعيين إلى جانب بابلو بيكاسو في عالم الصور، والتشكيل، و الرّسم حتى أصبح من أعظم شعراء القرن العشرين .
أَعْدَاءُ الشِّعر والحياة
هذا المبدع الذي أحسّ بقرب نهايته كانت له مقدرة هائلة على التغنّي بالجمال،والتحلّي بالأمل، و تجسيم الألم والمعاناة :
ما هو مآل الشّعراء ، والأشياء الناعسة؟
التي لا يذكرها أحد ،آه يا شمس الأموال؟
أيّها الماء الزلال، والقمر الجديد
يا قلوب الأطفال وأرواح الأحجار السذابية
إنني أشعر اليومَ في قلبي إرتجاج النجوم
وكلّ الورود ناصعة البياض كحسرتي
على أوراق أحزانه، فوق لجج هموم بحره منذ الصّغر، وإلى تلك المرثيّة التي كتبها عن أحد أصدقائه من مصارعي الثيران كان لوركا دائم الحديث عن الموت في شعره :
فليمتْ قلبي وهو يغنّي في هدوء، عن السّماء الجريحة الزّرقاء.
ويقول مجيباً عن سؤال الصّغار :
إمتلأ قلبي الحريري بالأضواء، والنواقيس الضائعة
و الزّنابق والنّحل، سأذهب بعيداً بعيداً
ما وراء تلك الجبال، ما وراء تلك البحار
قريباً من النجوم.
ثم نجده يطلب ما لم يمنحه إيّاه الزّمن حيث يقول في قصيدة أخرى :
خليلي أريد أن أموت ، بريئاً على سريري
الفولاذي إذا أمكن، ذي الملاءات الهولندية .
ولم تتحقق له هذه الأمنية ،فقد مات لوركا مقتولاً مُجندلاً، مات مغتالاً برصاص الغدر، والخيانة، والكراهية من أعداء الشّعر، وأعداء الحياة . 
________________________________________
* كاتب وقاص ومُترجم من المغرب،عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم ( بوغوتا..كولومبيا) .
** الأشعار والنصوص المُدْرَجة ضمن هذا المقال هي من ترجمة كاتب هذه السّطور عن اللغة الإسبانية .

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *