*صادق الطائي
لندن- لطالما مثل القصص الديني وعلى مر تاريخ السينما مصدرا ثريا للفنون حيث كانت حياة الأنبياء وشخصيات الكتب المقدسة مادة تتم معالجتها وتقديمها كقصص درامية على شاشة السينما، وقد أصبحت اليوم بعض هذه الأعمال من كلاسيكيات السينما العالمية، وأشهر هذه الأفلام على الإطلاق هو فيلم “الوصايا العشر” من إخراج سيسيل دي ميل الذي قدمه مرتين الأولى عام 1923 ثم أعاد تقديمه عام 1956 من بطولة شارلتون هيستون، وقد اختار معهد الفيلم الأميركي “الوصايا العشر” بين أفضل 10 أفلام دينية ملحمية في تاريخ السينما العالمية.
قصة الفيلم
تعتبر قصة النبي نوح والطوفان العظيم الذي مازال الجدل حوله دائرا حتى في المجامع الدينية بين رأي يقول بأنه حدث غطى الأرض كلها ورأي آخر يقول إنه حدث محدود بقوم النبي نوح والمنطقة التي يسكنونها وهي على الأغلب في وادي الرافدين، هذه القصة بما فيها من صور عنيفة لغضب الرب ومشاهد ملحمية لجبال المياه الغاضبة التي محت كل أثر للحياة على الأرض، طالما أثارت خيال الفنانين على مر التاريخ ، حتى وصلنا إلى أحدث إنتاجات هوليوود وهو ( نوح- 2014 Noah)، وهو فيلم مبني على قصة سفينة نوح في سفر التكوين، كتبه دارين أرنوفسكي وآري هاندل، وأخرجه أرنوفسكي، شارك في بطولته: النجم راسل كرو في دور “نوح”، أنطوني هوبكنز في دور متشولح جد نوح، إيما واتسون، جينيفر كونلي، لوجان ليرمان، دوغلاس بوث وراي وينستون. وقد تم تصوير الفيلم في أيسلندا ونيويورك.
نحو الطوفان
لقد قدم أرنوفسكي قصة الطوفان بلمسات افترقت عن القصة الدينية وحاول المخرج الذي شارك في كتابة السيناريو أن يقدم صورة نستطيع أن نصفها بأنها معقلنة حيث أفادت بعض التسريبات الصحفية أن دارين أرنوفسكي رفض ضغوطات شركة باراماونت المنتجة للعمل بتكلفة تزيد عن 150 مليون دولار، والتي أصرت على استقاء الأحداث من التوراة فقط ، لكن أرنوفسكي فرض رؤيته الخاصة، حيث بيّن أنه عمل على تقليل البُعد الديني في العمل، وحوّله إلى فيلم “حدث” كبير حول كارثة فناء البشرية، مُركزاً على البعد النفسي للنبي نوح، والذي يتوجب عليه وحده إنقاذها.
وقال عن فيلمه إنها قصة لا تحمل معاني دينية فقط إنها تتحدث عن نهاية العالم البيئي، وهي فكرة تشغلني وتشغل الكثيرين الآن خاصة في ظل الكوارث البيئية التي يشهدها هذا الكوكب في عصرنا الحالي، فالعالم يموت ونحن نموت داخله.
خيال علمي
لقد استخدم أرنوفسكي شكلا جديدا يمكن لمسه منذ اللقطات الأولى للفيلم ، فالأزياء وأشكال الممثلين لا تحيل المتلقي إلى نمط الأفلام التاريخية التي تعوّدها المُشاهد وإنما هي أقرب إلى نمط أفلام الخيال العلمي التاريخية مثل فيلم سيد الخواتم (The Lord Of the Rings) بأجوائه الغرائبية وأشكال أبطاله الأسطوريين، وكأن المخرج ومنذ البداية يحاول أن يوصل للمتلقي أنه بصدد قصة دينية ولكنه سيتناولها من جانب مغاير لا الذي يعرفه المشاهد مسبقا.
كما أن المخرج حاول أن يجد حلولا معقلنة لبعض الزوايا الإشكالية في القصة الدينية، فمثلا كيفية الحصول على الكمية الهائلة من الأخشاب التي يحتاجها نوح لصناعة سفينته العملاقة التي سوف يحمل عليها كل الكائنات الحية التي يجب عليه إنقاذها، فنجد صانع الفيلم يلجأ إلى أن جده (متشولح) يهبه بذرة من بذور جنة عدن -ذات قوة سحرية- تنبت في ليلة واحدة لتحوّل الصحراء من حوله إلى غابات واسعة تمتد على مد البصر سيستخدم أخشاب أشجارها لصنع سفينته العملاقة، كما أن هذا العمل الخارق في بناء السفينة المعجزة قد تم بمعونة كائنات ملائكية تم مسخها بأمر الله لأنها ساعدت الإنسان في زمن ساحق في القدم، الإنسان الذي أفسد الأرض التي استخلفه الله فيها ليعمرها، هذه الكائنات الحجرية العملاقة هي التي ساعدت نوح في تنفيذ مهمته الإلهية لتكفّر عن خطيئتها التي ارتكبتها.
الصراع النفسي
ولطالما تساءل قارئ القصة الدينية للنبي نوح عن كيفية تعايش الحيوانات مع بعضها في هذه السفينة، فنجد أن أرنوفسكي يقدم رؤيته المعقلنة عبر تبخير القاعات الكبيرة التي دخلت لها الحيوانات في السفينة بنوع من النباتات المخدرة مما جعل كل الحيوانات تدخل في طور من السبات، وسوف يخرجها نوح منه عندما ترسو السفينة على قمة جبل بعد انتهاء غضب الرب وتوقف الفيضان والأمطار، أما المحور الأهم الذي ركز عليه أرنوفسكي فهو الصراع النفسي الحاد الذي يعيشه نوح فهو يسعى لتنفيذ الأمر الإلهي المحدد بتخليص الأرض من شرور الإنسان، وهو يعتقد أنه وزوجته لن ينجبا بعد ذلك وأن ابنه الأكبر (سام) وزوجته (إيلا) لن ينجبا لأن (إيلا ) عقيم، أما ولداه الأصغران (حام) و(يافث) فلم يجد لهما الأب فتيات مناسبات ليزوجهما قبل الطوفان وبالتالي فهو يعتقد أنهم سيكونون آخر البشر على الأرض، لكن المفاجأة تأتي من تدخل الجد (متشولح) الذي بارك (إيلا) نزولا عند رغبة زوجة نوح قبل الطفوان شافيا (ايلا) من عقمها، وعندما تصبح حاملا وتلد طفلتيها التوأم على السفينة يقرر نوح أن عليه قتل الطفلتين لأن هذا هو أمر الله، لكنه يضعف أمام براءة الطفلتين، ولا يستطيع قتلهما لتنتصر إرادة الحياة ويكلف هو وأبناؤه وحيواناته التي أنقذها بإعادة الحياة إلى الأرض وفقا لتعاليم الرب التي تلقاها النبي نوح.
تقييم النقاد
لا بد من الإشارة إلى أن أرنوفسكي قد استخدام أحدث برامج المونتاج والجرافيك في إخراج الفيلم، وذلك بسبب رغبته في إظهار الحدث الأهم في الفيلم (الطوفان) كما تخيلته عقول البشرية عبر آلاف السنين، وبالرغم من نجاح الفيلم تجاريا إلى أنه لم يحصل على تقييم مرتفع من النقاد إذ أنه لم يحصل إلا على 77 بالمئة مع متوسط تقييم 6.6/10 استنادا إلى 204 موضوعات نقدية في الصحف الغربية المختصة في تقييم الأفلام، لكنه يبقى فيلما جديرا بالمشاهدة لمن يهوى نمط الأفلام الملحمية الخيالية.
_______
*العرب