المعالج النفسي و الكاتب فيليب كيني:عندما تكون الكتابة بديلاً عن (البروزاك)


*ترجمة: لطفية الدليمي

*كيف ترى العلامات الفارقة التي تميّز الإنتقاد الذاتي الخلّاق عن ذلك الشكل التدميري من الإنتقاد ؟ ما هي الحدود الصحّية المقبولة للمارسات الإنتقادية الذاتية و متى يكون لزاماً على الكاتب اللجوء إلى الإستشارة السايكولوجية المهنية ؟

-يمكن لنا أن نقول أن هذين الشكلين من الإنتقاد الذاتي هما كمثل لسعة بعوضة و عضّة ذبابة الخيل ، و بإمكان أيّ منّا حتماً أن يفرّق بين هذين التأثيرين المؤلمين و قد شهدت أن الكتّاب و الفنّانين الذين تعاملت معهم خلال حياتي المهنية قد تعاطوا بسلاسة مع ما ينطوي عليه هذا الطيف الواسع من التبعات التي يولّدها الإنتقاد الذاتي الشخصي المتواتر ، و لا ينبغي لنا أن نتغافل عن حقيقة أنّنا كلّنا نشهد حالات قد ترقى لمرتبة ملامسة حدود هذين القطبين : أعني قطبي الإنتقاد الشخصي المنتج و التدميري و نمارس أحياناً قدراً من السخرية الذاتية بطريقة مؤلمة للغاية . أتذكّر هنا المثال الأكثر تطرّفاً عندما شجبت فيرجينيا وولف قدراتها الكتابية و حطّت من إمكاناتها في السطور الأخيرة لملاحظاتها التي كتبتها قبل انتحارها . 
إنّ ممّا يبعث على أشدّ الأسف و الحزن كم أنّ تلك الاحداث التي ترنّ في أذهاننا أحياناً و تقلّل من شأن مواهبنا الإبداعية و قدراتنا الكتابية تكون لها أحياناً تلك السطوة التدميرية الطاغية . يمكن للإنتقاد الذاتي عندما يعمل في أرقى أشكاله الإيجابية أن يدفع المبدعين إلى تنقيح أعمالهم و تلميعها ، و لكنّه عندما يعمل في إتّجاه سلبي فيمكن أن يشلّ قدرات الفرد و أن يدمّر تقديره الذاتي و يشوّه الصورة التي يشكّلها الفرد لذاته Self-Portrait ، و عندما تتواصل هذه الهجمات من جهة النظرة السلبية إلى الذات و تستحيل نمطاً تدميرياً مستديماً تنشأ حينئذ مظاهر عدم الكفاءة و القلق و اليأس و يصير حينها لزاماً السعي نحو طلب المشورة الطبية المهنية . 
يحصل أحياناً أن يرفض كاتب بقامة ( رينيه ريلكه ) التحليل النفسي متعلّلاً أنّه ” يفضّل الإستمرار في التعامل مع الشياطين على أن يخاطر بفقدان الملائكة ” و بحسب خبرتي فإنّ العلاج النفسي الديناميكي بكافّة أشكاله لا يستأصل الشياطين تماماً و لكنّه يقلّل من تأثيرها و سطوتها كما يعمل على خلق فضاءات أوسع لتحلّق فيها ملائكة الإبداع ، و الأمر كلّه منوط بتخفيف مظاهر تحقير الذات التي تنشأ عن القلق المستديم. أنا أثق في الإمكانيّات المدهشة للعلاج النفسي مثلما أثق في الإمكانيات المدهشة لكلّ من الكتابة و التأمّل .
* هلّا ألقيت لنا ضوء على بعض الطرق المثمرة التي يمكن فيها للكتّاب المبدعين أن يتعاملوا بوساطتها مع حالات القلق و اليأس و نقد الذات التدميري و التحقير الذاتي عندما لا يكون بمقدورهم دفع فاتورة المعالج السايكولوجي ؟
-ثمّة العديد من الوسائل المنتجة التي يستطيع من خلالها الكتّاب تدعيم أنفسهم و مساعدتها في تجاوز الحالات النفسية المحبطة للفعل الإبداعي : يمكن لي أوّلاً أن أشير إلى النشرة الطبية المجانية الألكترونية التي تصدرها مدرسة هارفرد الطبية تحت عنوان ” تأمّل ، لا تتطبّب Meditate , don”t medicate ” ،،، فالتأمّل كما قلت من قبل وسيلة مجرّبة و مؤكّدة لتهدئة النفس و تطمين العقل عندما تشعر بعقلك يتقافز كقرد مهتاج و انت تجلس للتأمّل و هنا أقول لك لا تحاول تهدئة ذلك القرد بل واصل جلوسك و تامّلك بفضول . الرياضة البدنية هي مضاد الإكتئاب الطبيعي الأفضل و بخاصة عند ممارستها بعيداً عن السياقات الأمريكية التي تجنح إلى المبالغة في الأداء و الإستعراض إلى حدود غير مرغوب فيها ، و يمكن للمشي أن يكون الصديق الأفضل للكاتب و أنا أتمشّى عدة مرات في اليوم و غالباً ما أقتنص لحظات من الإلهام و الصور أثناء المشي و أضمّنها في أعمالي . جرّبوا اليوغا – أيضاً عليّ أن أحذّر من أداءها على الطريقة الأمريكية المضخّمة و الإستعراضية – و يمكن لممارسات اليِن و أشباهه أن تساعد الكاتب في الإسترخاء و التخفيف من توتّره المفرط ( في الفلسفة الصينية تستخدم مفاهيم الثنائيات مثل الين – يانغ Yin – Yang للإشارة إلى الطبيعة التكاملية للقوى التي تبدو وكأنها متضادة مثل ثنائي التوتّر – الإسترخاء ، المترجمة ) . كما قلت سابقاً فإنً القلق و الخوف يخلقان توتّرات خطيرة عندما يتراكمان و يقودان إلى وهن النفس و حالات من المشاعر الشديدة الإيذاء و يمكن لنا ان نتعامل مع هذه المشاكل عبر التعامل معها بدل الهرب منها : حاول أن تكتب عن كلّ ما يدور في عقلك ، و المسألة الأكثر أهميّة هي تجنّب العزلة : حاول دوماً أن تجد فرصاً – و هي عديدة حتماً – للتواصل مع الآخرين لما يتيحه هذا التواصل من عيش فترات من الحميمية المنعشة التي تنتج عن تشارك الفهم للأهوال و الفورات التي تنتاب حياة الكاتب . بقي أن أقول إذا فشلت كل الوسائل فامتلك كلباً مثلما فعلت أنا عندما إخترت كلباً من نوع ( Pooch ) الذي حقّق لي خلاصاً من أوقات عصيبة مررت بها من قبل .
*بعد أن ينشر الكتّاب أعمالهم غالباً ما يواجهون طائفة مستجدّة من التحدّيات : الخوف من أنّ عملهم لم يكن جيّداً بما يكفي ، الخوف من وجهات النظر السلبية و التقييمات القاسية بحقّ ما كتبوا ، الخوف من تركيز الأضواء عليهم بل حتى الخوف من النجاح و التداعيات التي تترافق معه . ما الوسائل التي تراها ملائمة للتعامل مع حالات الخوف و القلق الناجمين عن هذه الحالة التي يمكن وصفها ” الخوف و القلق المصاحبان لحالة ما بعد النشر Post-Publication Fear & Anxiety” ؟
-كأنّك تتحدّث عنّي : فقد نشرت توّاً كتابي الاوّل و أستطيع أن أؤكّد لك أنّ الشعور بالوهن الذي ينتاب المرء بعد نشر عمله الأوّل شديد للغاية . إنّ الإنتظار القاسي لسماع أولى ردود الأفعال و المراجعات بحقّ العمل يمثّل الجزء الأكثر قساوة من المشهد لأنّني أعلم من تجربتي الشخصية أنّني قد ابتاع كتاباً جديداً ثمّ أركنه على طاولة القراءة لسنة أو أكثر من غير أن أقرأه و تلك هي فترات الصمت القاسية التي تسمح لشياطين الشك بان تتراقص في رؤوسنا و هي تصدح بأعلى اصواتها ” لم يكن العمل جيّداً بما يكفي ” !! و التي يترجمها عقل الكاتب إلى عبارة ” انا لست كاتباً جيّداً بما يكفي ، و لست ذكيّاً بما يكفي ” ، و تنسحب لازمة عدم الكفاية هذه على مجمل العناصر التي تتشكّل منها حياة الكاتب . أنا في غاية السعادة حقّاً لانً السؤال تطرّق إلى الخوف المرافق للنجاح و أظنّ انّ ( نيلسون مانديلّا ) كان دقيقاً للغاية عندما قال ” إنً أعظم مخاوفنا تنشأ من مواجهة النور الكامن في أعماقنا ” ، و من المؤسف و المحزن بذات الوقت أنً معظمنا قد إعتاد مساكنة تلك النطاقات الضيّقة في العيش و التي تعشعش فيها الغربان داخل عقولنا و لم يجرّب أن ينطلق صوب الفضاءات المشبعة بالدفء و الحميمية و هي فضاءات متاحة لنا كلّ وقت ، و أقول لهؤلاء : تنفّس عميقاً و دع نورك الداخليّ يشعّ و جرّب دوماً الإستمتاع بحالات الكينونة الفسيحة المتاحة لك – و هي كثيرة بالفعل – ، و اعلم تماماً أنّ معظم الكتّاب يصارعون في سبيل الولوج إلى هذه الفضاءات . إنّ هذه الأشكال من المعاناة التي نتحدّث عنها قاسية إلى أبعد الحدود و لنعلم جميعاً أنّ أقسى أشكال المعاناة تنشأ من محاولة الهروب من الآخرين – و قبل هذا من أنفسنا – لذا تعامل مع مخاوفك في ضوء النهار و في العلن ، و تكلّم مع الكتّاب الآخرين فهم خليقون بجعلك تدرك أنّ مخاوفك دليل إنسانيّتك و ليست مظهراً لعدم كفايتك ، و اسخر قليلاً من مخاوفك و حاول ان تذهب أبعد من قاع مخاوفك فغالباً ما تكمن هناك رغبة أو شوق تمّ دفنهما و نسيانهما أو تجاهلهما بغباوة .
* ما الذي تودّ قوله للكتّاب أخيراً ممّا لم تقله حتى الآن في حوارنا ؟
-أقول لهم : أنتم كائنات ثمينة للغاية أكثر بكثير ممّا تتصوّرون ، و أرى فيكم مكمن الحساسية في المجتمع المنشغل بإدامة عوامل البقاء و الإرتقاء المادّي فحسب . أنتم – أيّها الكتّاب – تمثّلون المستقبِل Receptor لكلّ ما هو غير مرغوب فيه و تنتفي حاجة المجتمع المهووس بالتنافس له مثلما أنتم الذين تتحسّسون كلّ ماهو سام و جميل و لذا كانت حياتكم بعيدة عن الصرامة و الصلابة و مهيّأة لتخزين طبقات من المشاعر و الإحساسات التي يصعب على أيّ فرد أن ينهض بأعبائها و ربما وجد بعض الكتّاب في الكحول وسيلة لتخفيف قلقه بينما يلجأ الاخرون إلى أنماط حياة فوضوية غير منتجة و تدميرية إلى أبعد الحدود . إنّ حياة الكاتب هي حياة مستوحدة بحكم طبيعتها و يلجأ بعض الكتّاب إلى الكتابة في الكافيهات ليتجنّبوا الشعور بالوحدة الطاغية التي تلفّ حياتهم و تلك فكرة جيّدة متى كان بإمكان الكاتب التركيز في عمله ، و ستظلّ تجربة البقاء وحيداً مع مجموعة الأفكار و المشاعر التي تختلج في أعماقنا اللاواعية مسألة تحدِّ إشكاليِ تستعصي على أي حلّ مناسب و بسيط و تعلّمني تجربتي أنّ الكتّاب في حاجة لبعضهم لتجنّب الشعور القسري بالإنعزال الذي يغذّي مخاوف الكاتب و قلقه الدفينين و أرى أنّ بضعة دقائق من رفقة طيّبة مع من نتبادل معه الحب و الثقة قد تفعل الأعاجيب و تبعد الكاتب عن التيهان في الأزقّة المظلمة لعقله المكتظّ بالخبرات السارة و المؤذية على السواء . الموضوعة الثانية التي أريد التأكيد عليها هي : التقدير الذاتي Self-recognition و أنا أتساءل دوماً : لماذا يصعب على الكاتب أن ينظر إلى نفسه بما تستحقّ من ثراء و كياسة ؟ أعرف الكثير من المبدعين الذين يستخدمون عقولهم في تدمير حيواتهم بدل إثراءها و من المحزن و الصادم بحقّ أن تجالس أحد هؤلاء من الذين تأكّدت موهبتهم و فرادتهم الإبداعية فتتفاجأ به و هو ينفي حقيقة الفعل التدميري الذي يمارسه في حق ذاته ،و يبدو مؤكّداً أنً ثمّة شرخ في المرآة التي ننظر من خلالها إلى ذواتنا : فليس سهلاً أن نعاين مواضع ضعفنا و هفواتنا و عدم إكتمالنا من غير ان يترافق هذا الفعل مع نوع من الإحساس بالدونيّة Inferiority Feeling و أظنّ أنّنا يجب أن نترفّق بأنفسنا كمثل رفقنا المفترض بالآخرين ، فممارسة الرفق و الكياسة في معاملة أنفسنا ستثبت في النهاية أنّها المعالج الأفضل لهذه النظرة الدونية في التقدير الذاتي . ليس ثمّة حياة بشرية من غير شروخ و أتذكّر جيّداً ليونارد كوهين ( مغنّي و كاتب أغاني و موسيقيّ و شاعر و روائي كندي مولود عام 1934، يتناول في كافّة صنوف أعماله الإبداعيّة موضوعات: الدين و السياسة و العزلة الفردية و الجنسانية و العلاقات الشخصية ، المترجمة ) ،،، فبعد أن أدّى كوهين مؤخّراً عرضاً ساحراً و هو على أعتاب الثمانين من عمره ختم عرضه بهذه الكلمات المضيئة ” أنسوا فكرة الهبة الكاملة ، فثمّة شرخ ما دوماً ،،، شرخ في كل شيء ،،، فتلك هي الوسيلة لكي يلج الضوء المناطق المعتمة . شكراّ لكم”.
________
*المدى

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *