رلى راشد *
يعنّ على البال، فيما التطرّف يلفّنا من كل حدب وصوب، والكلام العدائي والمستفزّ والمستبدّ يحوطنا من كل الجهات، ان نتّخذ شاعرين مِثالين يُبنى عليهما، علّنا نرى شيئا آخر.
الأول الإيرلندي شيموس هيني، يكاد يمرّ عام على رحيله، فتتراءى الذكرى ملائمة للبحث في التفتّح البشع للصراعات القبليّة والدينية. تصلح إيرلندا نموذجا كما يصلح لبنان الحرب الأهلية حالة مرجعيّة، ناهيك بعالم عربي راهن يتجرّع دمه كأنه ماء ورد. صوت ثان يستدعينا، البولوني تشيسلاف ميلوش، الذي طوى عاما عاشرا من الغياب. ما يجمع الإثنين ليست مجرد ملاءمة بسبب نيل الجائزة الأدبية الأسمى أي نوبل الآداب، وإنما تواتر فكريّ جعل هيني يلوذ بكلمات ميلوش حين استفهم مرة عن جدوى الشعر فسأل: “أيّ نوع من الشعر هو ذاك العاجز عن إنقاذ الأمم أو الناس؟”.
شعر شيموس هيني انه جزء من ثقافة بلاده وجزء من مشكلتها على السواء، لأنه يتحدر من إيرلندا المتروكة الى النزاعات كجزء من الهوية. ظنّ الجميعَ في إيرلندا أنه مصاب بالعدوى، ذلك ان المرء ملزم الإنضواء تحت لواء قبيلة أو سواها، ليجزم في الآن عينه ان دعوة الإنسانوي، الإنسان الفطن، لا تعدو كونها محاولة شبه يائسة لتخطّي الظروف القاهرة.
ليس ما نبحث عنه لدى هيني هو القول المباشر والفجّ في تعبيره وإنما البعد الرؤيوي للحدث الآني. بل الرغبة التجاوزية والإرادة لتخطي اللحظة، ترياقاً لمواجهة الضجيج الذي يصمّ الآذان. في قصيدة “ردّ الفعل” يكتب شيموس هيني: “يتعذّب الجنس البشري/ يعذّب أحدهم الثاني/ يتوجعون ويصيرون متصلّبين/ ليس ثمة قصيدة أو مسرحية أو أغنية/ يسعها أن تصحّح هنة /أنزلت ودامت الى الآبدين”.
يضيف، في لحظة ثانية، ان التاريخ يعلّمنا أن لا نأمل ونحن قابعون في هذه الجهة من المثوى الأخير، ليردف لاحقا ان موجة العدالة العاتية المطلوبة سترتفع مرة في هذه الحياة ربما، فتتوافق قافية الأمل مع قافية التاريخ.
لا قدرة لقصيدة هيني سوى أن تتخطى وظيفتها مصنعاً للجمال وتغدو نجمة تضيء مسار المسؤولية. جميل أن نقرأ شاعرا لم تسطُ عليه زوبعة القنوط على رغم كل المحن. صوت سحب من غمامة اليأس شعاعاً من الترقّب المتفائل والمحموم. قبل نحو عام، غادرنا شيموس هيني من دون أن يعني ذلك أن تتراجع الصورة الشعرية. ظلّ تجربة على فرادة وجمال نقي، وصوتاً رفض أن يفسّر قصيدته متذرعا بحجة لا يمكن جدالها: ينبغي للشعر الكلام عن نفسه وإلاّ فليصمت الى الأبد!
تصلنا شذرة إضافية من بناء هيني الشعري من خلال مجموعة من قصائده المختارة تصدر في إنكلترا قريبا. أما سمتها الأساسية فتضمّنها قصيدة تنشر للمرة الأولى في بريطانيا وكان أهداها الشاعر هيني الى حفيدته سيوفرا.
تأتينا الصحف البريطانية بالخبر السعيد، وفي تفاصيله أنه سيجري استبقاء قطع عدة من تلك الحكاية الشعرية المديدة، من خلال التمهل عند نصوص تشكّل فيسفساء التمرين التأليفي المتميّز. خمسة وعشرون عاما إذاً تختزلها نصوص المجموعة التي تحكي التطور والتنوع والإحتراف، وتقول ان احترام النفس منطلق لاحترام القارئ.
لا يجيء الإصدار هذه المرة ليطوي ذراع الشاعر عنوة، ولاستغلال الموت الذي تذكّره؛ ذلك انه خلاصة اتفاق مسبق قبل بموجبه الشاعر الإيرلندي أن يصدر ما سُمّي “مجلدا مرافقا” لثلة من قصائده “المختارة الجديدة” المعتقلة بين عامي 1966 و1987، أي تلك التي تغطّي عمليّا النصف الثاني من مسيرته.
تتضمّن المجموعة آخر نصوص هيني غير الصادرة في بريطانيا، وهي كناية عن قصيدة عنوانه “وفق الإيقاع” التي سبق أن نشرتها مجلة “نيو يوركر” في الولايات المتحدة الأميركية وتمحورت على حفيدة الشاعر، حيث نقرأ: “طاقة وتوازن وثوران:/ تستمعين إلى باخ/ رأيتُك بعد أعوام/ (بعد أعوام أكثر من تلك المُتاحة)/ لقد تجاوزتِ تمايُل الرُضّع/ وصرتِ امرأة واثقة وناضجة/ قدمُك العارية على الأرض/ تضبط تحركاتي. القوة/ التي أحسستُها للمرة الأولى تنبثق/ عبر الأرض الإسمنتية منذ زمن مديد/ ها هي تلمس روحَكِ وكعبَكِ/ وتثّبتُكِ أرضا بكل جوارحَكِ/ الأنشودة الدينية/ هي المناسبة لكِ تماما:/ “طاقة وتوازن وثوران/ تنغمس في اللعب لمصلحتها/ لكننا الى الآن/ نمشي برويّة/ وفق الإيقاع، وبصمت”.
لم تعنِ تلك الإستراحة الشخصيّة في مسار هيني ابتعاده من اهتماماته الأولى. والحال انها حامت في الفلك عينه: الحفر في النفس الجوّانية.
أما تشيسلاف ميلوش الذي استلهمه هيني، فانخرط في صراع دائم مع التاريخ، لأنه أتى من بلاد صعبة هي الأخرى، من بولونيا التي اختفت من الخريطة لأكثر من قرن وقُسّمت في حقبة معينة، بين روسيا وبروسيا والنمسا. إنها لمفارقة في كل حال، أن يكون تشيسلاف ميلوش الشاعر الذي أتمّ أجمل الأعمال الفنية المتمحورة على الحرب. والحال انه أصدر في الرابعة والثلاثين كتابا شعريا سماه “إنقاذ”، استحضارا لصراع انتهى للتو.
فهم ميلوش ما عناه أن يختبر المرء الجوع والمرض وقصف المدن وعنف الحكومات المستبدة وتجارب الحرب العالمية الثانية أيضا. إنبعثت رؤياه للعالم من الصراع بين التناسق والتدمير العنيف. انغمست كلماته بحبر الإقتناع ان كلّ جهود الناس بائدة، غير انه أصرّ على أن كل تفصيل في هذه الحياة، على تفاهته الظاهرية، شيء لا غنى عنه. خيّل إليه أنه أقام في كنف التناقض المتناغم، في حين لم يكتب ميلوش وهيني، في المحصلة، سوى بدفع من روابط الدم والأرض.
– النهار