*د. حسن مدن
لا يمكن قراءة المشهد الثقافي والسياسي العربي الراهن الذي يتسم بصعود الاتجاهات المتزمتة والمنغلقة، التي من عباءتها خرج التكفيريون ومن يعرفون بالجهاديين، بمعزل عن تحليل التحولات العميقة في البنية الاجتماعية العربية التي تتسم ومنذ عقود بتراجع الثقافة التنويرية بأبعادها التقدمية، النهضوية، وعلاقة ذلك بجديد الاصطفافات الطبقية، التي من أبرز مظاهرها تآكل الفئات الوسطى في المجتمعات العربية، فمن يعود لأعمال نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس ويوسف إدريس في مصر أو غائب طعمة فرحان في العراق أو محمد عتياني وسهيل إدريس في لبنان أو الطيب الصالح في السودان أو الطاهر وطار في الجزائر سيلاحظ إن مدار الأحداث الرئيسي في هذه الروايات إنما يدور في مناخ الفئات الوسطى، فقد عكست الرواية والقصة عند هؤلاء وسواهم بانوراما التحولات الاجتماعية الجذرية في المجتمعات العربية التي وجدت في هذه الفئات بيئتها الخصبة وحاضنها الرئيسي.
لكن أين هي الفئات الوسطي اليوم في البلدان العربية؟!
المعطيات المتاحة تقدم حقائق مفجعة عن حجم الخراب الذي لحق بهذه الفئات، حين نعلم أن بلداً عربياً كاليمن يحتل المقعد رقم 133 في عالم فقراء العالم، وفي العراق أصبح ثلاثة أرباع السكان فقراء بعد أن كانوا قبل الكوارث التي عرفها هذا البلد لا يزيدون عن ربع السكان، ولا حاجة للتذكير بالوضع في لبنان الذي امتاز بوجود طبقة وسطى مدينية متعلمة وديناميكية دفعت بها ظروف الحرب الأهلية إلى الهامش، بالمعنى الحرفي لا المجازي للكلمة. بل أن خارطة الفقر تتمدد لتشمل بلداناً عربية نفطية غنية، أما في الضفة الغربية وقطاع غزة فإن الوضع بعد عقود طويلة من الاحتلال الإسرائيلي أصبح بمثابة كارثة. وبشكل عام فإن الأوضاع في البلدان العربية تسير نحو استقطاب اجتماعي حاد بين أغلبية معدمة مسحوقة وأقلية بالغة الثراء، فيما ذلك الحيز البشري والسكاني الواسع الذي شكلته الطبقة الوسطى في انحسار مهول، رغم أن التعليم العام الجامعي وتقلص نسبة الأمية يدفع بأجيال جديدة من المتعلمين تقدر بملايين الأشخاص كل عام إلى سوق عمل عاجزة عن استيعابهم.
ومن عوامل تراجع مكانة ودور الفئات الوسطى، وانكفاء خطابها السياسي العلماني المتنور هو خيبة أملها المُرة في الأنظمة التي حكمت باسمها وعلى مدار عدة عقود في دول عربية مفصلية سواء في المشرق أم في المغرب العربي. لقد انتهت تجربة هذه الأنظمة، كما هو جلي اليوم، إلى تصدعات كبرى في مجتمعاتها قادت مأزق لا مخرج منه في الأفق المنظور، حين أخفقت في انجاز خطط التنمية وفي دمقرطة المجتمع وفي تحرير الأراضي العربية المحتلة وفي تحقيق الوحدة العربية، وهي مجموع الشعارات التي رفعتها وحكمت باسمها، ويأتي ذلك بالترابط مع استشراء نفوذ ما بات يدعى “الليبرالية الجديدة” التي تستعير من الرأسمالية أدواتها القديمة القائمة على تسييد مبدأ الربحية كحاكم أوحد، وتعيد النظر في الضمانات الاجتماعية والمكتسبات التي نالتها الفئات الوسطى والعاملة في صراعها المديد مع أصحاب رؤوس الأموال، وتطال إعادة النظر هذه حقولا مهمة كالتعليم والصحة والإعانات المعيشية والاجتماعية والخدمات الثقافية والترفيهية وإلغاء الدعم على الأسعار وتجميد الأجور وتحرير التجارة الخارجية وبيع القطاع العام، سيما وأن التدويل الاقتصادي الجاري يفرض على الدول العربية شروطاً مجحفة تمليها المنظمات المانحة للقروض وترعاها آليات التجارة العالمية التي لا تقيم كبير وزن للحدود أو ما كان يعرف بالسيادة الوطنية.
وهذه خلفية مهمة للتعرف على جانب آخر من أسباب تآكل الفئات الوسطى في بلداننا مع الاستقطاب الاجتماعي العنيف الذي أدى لتآكل مدخراتها مع بروز نخبة صغيرة تتجمع في أيديها مصادر السلطة والثروة مقابل قطاعات اجتماعية هائلة العدد واسعة الامتداد تكابد من اجل الظفر بلقمة العيش، وتجد في التمسك ببواعث الهوية الثقافية الماضوية ملاذا وباعث طمأنينة لها خاصة عند الذرى التي تصل إليها الأزمات في هذا البلد العربي أو ذاك. إن خراب الفئات الوسطى ينجم عنه أول ما ينجم هذا العنف الهائل الذي تفرخه البيئات الحاضنة للفئات المعدمة والمهمشة والمحبطة الباحثة عن الخلاص بأقصر الطرق، التي غالباً ما تكون طرقاً مدمرة، وليس من حق المجتمع أن يعلن براءته مما اقترفت يداه.
سياسي عربي محنك هو الأخضر الإبراهيمي وزير الخارجية الجزائري الأسبق قال حين سئل عن مصير الجيل الجديد من الشباب الذين ينخرطون في أعمال العنف: “أنا خائف جداً. لا يمكن أن ننسى للحظة واحدة أن هؤلاء هم أبناء مجتمعا ولم يفدوا إلينا من المريخ. لقد كبروا وتربوا في مدارسنا وجامعاتنا وعائلاتنا ونحن مسؤولون كآباء وكأنظمة”.
ولو قارنا الحال العربي بحال بلدان مصنفة في عداد العالم النامي، ولكنها شهدت معدلات نمو عالية في العقود القليلة الماضية، كالهند مثلاً، فسنجد، حسب معطيات متقادمة بعض الشيء، أنه من بين المليار نسمة الذين كانوا يشكلون سكان الهند، حتى سنوات قليلة، يبلغ عدد من يمكن أن نعدهم في قوام الطبقة الوسطى نحو مائتين وخمسين مليون نسمة، أي بالضبط ربع السكان، وبالتالي علينا ألا نبدي اندهاشاً كبيراً حين نرى الهند غدت في مصاف الدول الأكثر نمواً في العالم في السنوات الأخيرة. والطبقة الوسطى وحدها ليست سبباً كافياً لتحقيق النهضة، ولكن وجودها المتين والراسخ في أي مجتمع يضمن له التطور المستقر، ويحميه من الهزات الاجتماعية الكبيرة، هذا فضلا عن انه يوفر القاعدة البشرية المؤهلة لأن تكون مرتكزاً مكيناً للعطاء في مجالات التنمية والإبداع والثقافة والتقدم الاجتماعي، لأن هذه الشريحة هي الأقدر، من بين شرائح المجتمع، على أن تدفع بفكرة الحداثة إلى الأمام.
هناك من يعيب على هذه الشريحة تذبذبها وعدم ثباتها وسيولتها الطبقية التي تجعلها عرضة للتنقل من موقع اجتماعي إلى آخر صعوداً أو هبوطاً، ولكن هذه الأحكام لا تشكل أحكاما قيمة تحمل معايير أو دلالات أخلاقية، بقدر ما تعبر عن تحولات موضوعية في بنية المجتمعات تدفع بأجزاء من الفئات الوسطى إلى التدهور حين تتآكل مداخيلها بفعل التضخم أو الأزمات الاقتصادية أو سوء الأداء الإداري والمالي وفساده، لأنها تتأثر بإيقاع النمو في المجتمع، وتكون كما سواها من الشرائح الاجتماعية عرضة للمتغيرات الاقتصادية، لكنها الأكثر قدرة على أن تكون مرآة لهذه المتغيرات في أوجه شتى، بسبب ما تتمتع به من حيوية ومن مستوى تعليمي وثقافي وتكوين مهني عالٍ، لا يتوافر بالمقادير نفسها للفئات والشرائح الأخرى.
ومؤخراً وقعت عيني على حوار أجرته مجلة “الثقافة الجديدة” الصادرة في بغداد مع الأكاديمي العراقي عامر حسن فياض كُرس للحديث عن “تواري الطبقة الوسطى وتعثر التحول الديمقراطي في العراق الجديد”، وليس توارد خواطر أن الأمر هنا يدور تحديداً حول تواري هذه الفئات، فرغم أن الحوار يدور عن الحالة العراقية حصراً، إلا أنه يمكن الاستفادة من معطياته واستنتاجاته من أجل فهم أفضل لواقع الفئات الوسطى في البلدان العربية الأخرى، على الأقل منها تلك القريبة في خصائص تطورها السياسي والاجتماعي من العراق، حيث يرد ضعف الفئات الوسطى فيه وهشاشتها في العقود الماضية، رغم كبر حجمها، أمام جبروت الدولة إلى كون مصدر ميسورية هذه الفئات وكذلك استنارتها هو الدولة نفسها، فاذا كان لهذه الفئات من قوة ومن دور وطاقة فان مرد ذلك هو ما حظيت به من فرص للتعليم ومن رواتب حكومية، لأنها محرومة اصلا من الملكية الكبيرة، مما أفقدها دورها المستقل، وحين تصدعت أو انهارت الدولة الأمنية إما بفعل الاحتلال الأجنبي أو المتغيرات الداخلية، تصدعت معها هذه الفئات، التي لم تعد تملك سوى كفاءاتها المهنية، وهي ما عادت مطلوبة في ظل سياسات الإحلال الوظيفي للنخب الحزبية الجديدة، غير المؤهلة غالباً.
“أهلاً ووداعاً للطبقة الوسطى” يقول فياض، فما كادت فئاتها تتسع، حجماً ووعياً، حتى وجدت نفسها محمولة على مغادرة المشهد الاجتماعي والسياسي، وهذه المغادرة تُسعفنا في تلمس أسباب التعثر في التحول الديمقراطي في البلدان العربية التي قامت فيها هبات وثورات مطالبة بالديمقراطية، وهو تعثر عائد لغياب الحاضنة الضرورية لهذا التحول، إن على صعيد الوزن الاجتماعي المؤثر أو على صعيد العقول المفكرة المنتجة للثقافة الديمقراطية.
بوسع الجيل المخضرم، الذي إليه ننتسب نحن، أن يدرك بصورة ملموسة فداحة هذا التحول في طبيعة الإنتاج الثقافي والابداعي، وطبيعة “الهيمنة” الثقافية الراهنة، حسب تعبير غرامشي، التي من سماتها هذا النكوص نحو الماضي، لا من حيث كونه ماضياً، فلكل امة ماضيها الذي ليس بوسعها التحرر منه، وإنما لشحذ ما هو رجعي وسطحي في هذا الماضي، وتغييب المنجز الفلسفي والفكري فيه، لتسييد فهم مدمر، كان من نتائجه الخراب الذي يعم اليوم.
________
*جريدة عُمان