قارئة الكتب في كابول


*ربيع محمود ربيع

عندما وطأت قدما نهى ملاخيل أرض أفغانستان لأول مرة، عام 2013، كانت تحمل انطباعاً سيئاً عن مواطنها الروائي خالد حسيني. هو، كما كانت تعتقد، ورغم إعجابها بمستواه الفني، كاتب يبالغ في تناوله الحياة الأفغانية، والمرأة خصوصاً، ويتجنى على “طالبان” لينال رضى الغرب وتعاطفه. ولكنها عندما أصبحت تعيش في أفغانستان ورأت كل شيء على أرض الواقع، عرفت الوجه الآخر للحقيقة. تقول نهى: “أما الآن وقد طفت في بعض ولايات أفغانستان، شمالاً وجنوباً، وعشت أياماً في بيت بشتونيّ، في منطقة ريفية بعيدة؛ فقد رأيت كيف تعيش النساء عن حق. عرفت أنهنّ، منذ ولدن، لم يخرجن من البيت لا إلى المدرسة ولا إلى الجامعة. لم يرتدن يوما مقهى أو مطعماً أو مركزاً تجارياً. النساء يخطن ملابسهن بأيديهن، ويصنعن الطعام، ويخبزن الخبز، ولم يسمعن يوما بالغسالة. المرأة الأفغانية مظلومة كثيراً. قد يظن البعض أن خالد حسيني بالغ في وصف حياة المرأة في روايته، ولكن أنا الآن أعرف أن كل ذلك كان حقيقياً”. وتضيف: “ليست المرأة وحدها في أفغانستان، فالرجل والمرأة مظلومان على حد سواء، بسبب الحروب والفقر والبطالة وعدم توفر الكهرباء وأنابيب المياه وشبكات الصرف الصحي. ذلك إذا استثنينا الخدمات المتوفرة في العاصمة كابول التي تظهر فيها الطبقية بشكل فج؛ فأنت تشاهد السيارات الفارهة والقصور والمولات التي قد لا تشاهدها في مكان آخر، وقد اغتنى أصحابها بعد الحرب من تجارة الأسلحة والمخدرات والعمل مع الأميركان. وفي الوقت نفسه، تصطدم بأغلبية فقيرة لا تستطيع أن تؤمن قوت يومها”. 

حكاية نهى بدأت هكذا: في سبعينيات القرن الماضي، قرر شاب أفغاني متدين، يحمل لقب “ملّا”، أن يستقر في الأردن بعد رحلة طويلة تنقّل فيها بين عدة دول عربية وإسلامية. سيتزوج هذا الشاب من فتاة أردنية لينجب ستة أبناء، ستكون نهى أكبرهم، فيما ستحمل العائلة لقب “الأفغاني”. تتحدث نهى عن والدها، الذي قادها إلى عالم القراءة، هو المتخرج في المدارس الدينية المنتشرة في أفغانستان، والتي تشبه إلى حد كبير الكتاتيب، إذ يقوم نظام التعليم فيها على حفظ المتون القديمة التي تقتصر على الدراسات الدينية واللغة العربية: “كان عاشقاً لقراءة الكتب الدينية وكتب اللغة العربية والتاريخ، وكان لا يقرأ إلا بالعربية. ومنذ فتحت عينيّ على الدنيا، أبصرت أمامي مكتبة عامرة بالعناوين، وكان معظمها دينياً وتاريخياً. كنتُ أجلس إلى جانبه ونقرأ سوية كتاب “الأذكياء” لابن الجوزي، ولعله من أوائل الكتب التي قرأتها وكانت سبباً لحبي القراءة”. “فيما بعد، عندما كنت أخطو نحو التاسعة من العمر”، تقول، “بدأت بقراءة كتب أخرى مثل “سمير المؤمنين” لمحمد الحجار و”المستطرف” للأبشيهي، ثم قرأت “فقه السنة” و”رياض الصالحين” وسيرة ابن كثير، وكنت أجد نفسي دائماً أفضّل الكتب التي تشبه القصص كالسيرة والتاريخ وكتب قصص الصالحين، وكانت قراءتي لكتاب “رجال حول الرسول” وكتاب “بلال مؤذن الرسول” علامة فارقة، حيث توقفت كثيراً عند التوظيف الجمالي للغة فيهما”. لكن وقوعها صدفة على روايات بوليسية، سيغير مسار قراءاتها. قرأتْ أعمال أغاثا كريستي ونبيل فاروق، فأحبّتها كثيراً، وقادها هذان الاثنان إلى روايات أخرى وكتّاب آخرين، لا سيما العربية. هكذا، ستقرر، منذ صغرها، أنها ستنال يوماً ما شهادة دكتوراه لتصبح أستاذة أدب عربي… وهذا ما سيحصل. في عام 2013، تزوجت نهى شاباً أفغانياً، وعادت إلى أرض الوطن لتكون واحدة من بين أقل من عشر نساء يحملن درجة الدكتوراه في أفغانستان. تدرّس اللغة العربية، حالياً، في جامعة الشهيد رباني التي تعد ثاني أكبر جامعة في البلاد. وتقول إن حلمها بدراسة العربية لم يكن سهل التحقق؛ فقد رفضتها أكثر من جامعة أردنية بسبب عدم حصولها على الجنسية، ولم يكن الوضع المادي يسمح بالدراسة ضمن البرنامج الدولي ذي التكاليف الباهظة. ولكن إصرارها ومراجعتها المستمرة لوزارة التعليم العالي في عمّان وفرت لها فرصة تحقيق الحلم. تقوم الآن بتحسين لغتها الفارسية (المسماة، في أفغانستان، بـ”داري”، والتي تشكل مع البشتونية اللغتين الرسميتين في البلاد)، وتطمح إلى إنجاز رسالة دكتوراة في الأدب الفارسي. وتحلم أن تكون سفيرة جيدة للغة العربية في أفغانستان عبر تشجيع الطلبة على قراءة الأدب والتراث العربيين، وأيضاً من خلال القيام بترجمة الأدبين العربي والأفغاني، ما سيشكل حلقة وصل بين الثقافتين. وفيما يخص حضور العربية في أفغانستان، تقول: “لم أقابل شخصاً أفغانياً إلا وعبّر لي عن حبّه للعربية ورغبته في تعلمها. وهذا واضح من العدد الكبير لمراكز تعليم العربية في أفغانستان، كما أن معظم الجامعات هنا تضم أقساما للغة العربية، ومعظم أساتذة الجامعات يتقنونها، إضافة إلى آلاف الأفغان الذين درسوا في المدارس الدينية التي تدرّس بالعربية”. وتضيف: “الأفغان يتعاملون مع العربية بنوع من القداسة. ذات مرة، عندما كنت أدرّس في مركز لتعليم العربية، شربت من زجاجة ماء، لأفاجأ بطالبة تقف وتشرب من الزجاجة نفسها، معللة ذلك بأنها تريد أن تصبح عالمة في اللغة العربية. وقامت طالبة أخرى بمحاولة تقبيل يدي لأنها ترى أنني أدرسها لغة مقدسة هي لغة القرآن. وبالرغم مما قام به بعض العرب من دور سلبي في أفغانستان، بعد خروج السوفييت، فإن الأفغان لا يزالون ينظرون بمحبّة إلى البلاد العربية”. 
كانت العربية، وآدابها، حاضرة في حياة نهى أكثر من لغتها الأم. وعندما دخلت الجامعة لدراسة البكالوريس، لم تكن على اطلاع كاف بالأدب الأفغاني، الذي كانت منشغلة عنه بقراءة الكتب النقدية والروايات الأدبية العالمية والعربية. وبدأت مسيرتها نحو أدب بلادها مع رواية “معسكر الأرامل” لمرال معروف، وهي رواية “ضعيفة” بحسبها، لكنها توثق للكثير من المآسي الأفغانية. غير أن أهم ما ستقرأه عن بلدها لن يكون نصاً وقّعه أحد مواطنيها، بل النرويجية آسني سييرستاد، صاحبة “بائع الكتب في كابول”. وقعت نهى بالصدفة على هذا العنوان، ووجدت أنه أهم كتاب يتناول أفغانستان بعد مرحلة “طالبان”. قرأتْ، بعد ذلك، روايات خالد حسيني التي تعتقد أنها شكلت نقلة نوعية في الأدب الأفغاني. تميل نهى إلى كتابات حسيني أكثر من رفيقه عتيق رحيمي الذي يكتب بالفرنسية؛ فروايات الثاني، حسب رأيها، أقل قرباً من تمثيل الحياة الأفغانية بتفاصيلها وأقل قدرة على ولوج النفسية الأفغانية وحمل همومها. وروايات رحيمي قليلة الخصوصية و”يمكن أن تحدث في أي بلد”، أمّا روايات حسيني “فلا يمكن أن تحدث إلا في أفغانستان”. وعن الحالة الثقافية في بلدها، تقول نهى: “في أفغانستان، وبسبب الحروب المتتابعة، تكاد تكون الحركة الثقافية الرسمية متوقفة. صحيح أنه يوجد لدينا وزارة ثقافة، لكنها لا تزال ضعيفة. في زمن “طالبان” كانت كل مظاهر الثقافة قد تعطلت؛ المدارس والجامعات والإذاعة والتلفزيون والمتاحف. ودولة أفغانستان الآن بالمعنى الرسمي دولة جديدة تبني ذاتها من الصفر”. تتحدث نهى عن الشعب الأفغاني الذي يحب الشعر كثيراً، بحسبها: “كثير من الناس البسطاء غير المتعلمين ينظمون الشعر”. كذلك، “يحب الأفغانيون الموسيقى، ويفضلون أن يقوم المغنون باختيار قصائد لشعراء كبار لتغنّى. وسمعت أن هناك ملتقيات شعرية تعقد في الولايات المختلفة، ولكن لم أستطع حضور أحدها. وفي أفغانستان شعراء لهم بصمة واضحة في الأدب الأفغاني مثل قهار عاصي، وبهاء الدين مجروح، وعبدالقادر بيدل، وغيرهم”. تحلم نهى ملاخيل بالمشاركة في تشكيل وعي جيل جديد يؤمن بالعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص وينبذ الفساد والرشاوى المستشرية في البلاد كالسرطان. جيل بعيد عن التعصب الأعمى، يؤمن بالقراءة والعلم. “وأحلم، كما أخبرتكم، أن أكون سفيرة جيدة للعربية في بلادي”.
____
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *