بالٌ بلا أغانٍ


*حلا السويدات

( ثقافات )

صائبٌ من قال إنّ المجازَ لغوٌ، وإنّه لغوْصةٌ في المعنى، في النّاس بوقات لها وطبول /المتنبي، وأصوبُ منه آخذٌ بخمرِه في المضارب. 
وقلتُ فيما مضى، ليس لشمسي أنْ تُظلم في المحاريب، وأنْ تُنيرَ ثقوبَ المزايا الخائِبة، وإنّ فعلَ الإنارةِ قد يحّتمُ البلاءَ لا الشفاء، هذا إنْ اعتبرنا أنّ العتم ليس ضوءًا بوصفِه وذاتِه، وأنّ القصيدة ليست ألمًا بكينونته، وهل يتألّم الألمُ، بل هل تُقْتَل القصيدةُ، هل للقصيدةِ دمٌ يسيلُ؟! 
للقصيدةِ خلقٌ يُنكرونها ويجحدون نشوتَها، ومنهم متصوّفون أبلوا رقصًا في محاجرها، ومنهم سكارى يغريهم نقض النعش، مئةً، بل ألفًا، بل حروفًا معقوفةَ الخاطرِ لا تدري أين تسيلُ ولا من فاهِ مَن. لي بالٌ بلا أغانٍ، بلدٌ يُشعلُ الحزنَ في المعازف، وشظايا تبصُقُ نفسَها بالدمِ كفَيْنيق يتألّهُ على رمادِه، لي ذاكرةٌ للسرقة، وتشاؤمٌ لا يدفعني للبحثِ عنها واستعادةِ الخطيئة، رُبّ خطيئةٍ بلا مهد، أيْ نفسي، أي مهد بلا خطيئة، بلا معنى ومجاز. 
ماذا لو صلبتَ ظنّك، لو سرتَ بعيدًا دونَ أنْ تلتفتَ إليه، ودونَ أن تنمو أرجوانةٌ ما بين السيرِ والتلّفت، لو كانت هذه الأرضُ شاحبةً، لو بقيت شاحبةً كالقمر، دون انزياح عن الحقيقة للوهم، لو لم تترك فيها قصيدة تشدّك للقفار، لكنّك تتلّفت في كلّ ليلة، لديك من الضجر ما قد ينتصر للحنين إلى الوجود والظنون والله، وإلى ناصب الأفخاخ الأكثر حنكة. 
قلتُ فيما مضى، إنّ السّلسلة خيبةٌ والتتابع رسمٌ لقطيع صُمّوا إذ سرقَ الذئبُ نايَهم ونأى به، أيُّ شغْلٍ سيكون غير حطْبِ ما هو أوهنُ وأقلّ قيمة. وإن كانت قيمة الشّيء بالتمكّن منه من بعد وعورة وصعوبة، وإن كان شقُّ الصخرِ قد لا يُجدي في نهايةِ الخيبةِ، كيف لنا أن نقتُلَ الشيطان، وأن نقتل وجودنا وقيمتنا. كأن تهتك الحجابِ عمّا نسيتَ قوله فيما مضى، وكأن يكونَ مجازك سلطانًا عادلًا يُسمنُ ويغني ويسامرُ ويجالس ويطرب ويشاركنا القهوة، سيضرّ وجودَه أن ينفضَ عنه احتقانَ النّظريات والجحافل.
شيءٌ يمعِنُ في تخفّيه، وفي غفلة منّا في أرضِ الصلْبِ حيثُ نسيرُ وحيثُ يرهِقُنا التلّفتُ. نفقدُ المهمّ ونقف على شفا الفخّ نلوّح إلى الشّمس، لا ظلّ لنا، آن أن نعي أنّ مجازُنا أولى بصفقه في القوافي، وأنّ التقويض محضُ تسلية لا عبور كما كنا نؤمن، لا ضفة أخرى ولا وجه للكرسي كما ظنّ أفلاطون، فماذا لو كان الانعكاس هو الصّورة، والظلّ هو الأشياء التي بغموضها وبمعرفتها تتصيّر أكثر تجسّدًا.
نفقدُ المهمّ، ربّما، ولا نعزّي نفسنا بالأهمّ، فعنصر التّمايز بينهما يفتقد إلى المعنى، وكثير الضجر، بل ومزاجيٌ أيضًا، في بعض الأحيان، حين تبرد القهوة، أو يحركّها أحد بملعقة يعلق عليها السكّر، قد تغيب الأشكال الهندسيّة في بعضها البعض، وقد يغدو مربّع الشوكلا الفاخرة أهمّ من وجه فنجان القهوة الدائريّ، قد نفقد الأهمّ، مؤّكدًّا.
بال بلا أغانٍ، لكنه ينصت للسنونو كلّما حل الضجر. 
_______
*الأردن

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *