فيلم “كويلز” لفيليب كوفمان: جنون وشذوذ وإبداع


* مهند النابلسي

( ثقافات )

يقدم هذا الفيلم تصورا افتراضيا للنهاية الغامضة للماركيز دو ساد، كاتب الروايات الإباحية الفرنسي الشهير وصاحب السلوكيات الجنسية الشاذة، والذي سجن في مصخ شارنتون للأمراض العقلية خلال السنين العشرة الأخيرة من حياته.
بفيلم “الأقلام” للمخرج فيليب كوفمان، تنشأ صداقة عجيبة بين الماركيز الشاذ والمنبوذ ( الممثل جيفري راش)، ومدير المصح الأب كولومبيه(جواكين فينكس)، الذي يشاركه الإعجاب بمسؤولة “الغسيل” الجميلة مادلين(كايت وينسلت)، لكن حين يرسل الأمبرطور نابليون طبيبا متخصصا (مايكل كاين) لمعالجة الماركيز من جنونه المفترض، يزداد دو ساد تمردا وغرابة، فيكتب رواياته على ثيابه بعد انتزاع أوراقه بأمر من الطبيب المتسلط العنيف، ثم يواصل الكتابة بدمه على جدران غرفته عندما يتم انتزاع ثيابه وأقلامه، ثم يستخدم أخيرا “برازه” بالكتابة حين يتراجع مستوى منسوب الدم بجسمه المتهالك. يتقمص راش الشخصية بشكل “استحواذي مجنون”، فيما يتميز أداء وينسلت كعادتها بالقوة والحماس والجرأة، كما يلعب كاين دور الشرير بامتياز(عكس ادواره اللطيفة المعهودة) وكأنه يستمتع به، أما فينيكس فيتقن تماما الأدوار الباطنية-النفسية(كما بفيلم المصارع لريدلي سكوت)، ويمكن القول أن هذه التوليفة الابداعية بالاضافة لكوفمان وكاتب السيناريو دوغ رايت قد قدموا تحفة سينمائية ابداعية متكاملة وفريدة، ولكن لسؤ الحظ لم تحظى بالشهرة والترويج نظرا “لغرابة موضوعها وشذوذ بطلها”!
يتحدث الفيلم عن أحداث تمت بالعام 1801 وبعمر الحادية والستين عاما وبعد سبعة وعشرين عاما قضاها الماركيز الشاذ بالسجون المختلفة، وقد وجد اخيرا التعاطف من آبي كولمبر(فينيكس) كقسيس يؤمن بحرية التعبير كوسيلة للتخلص من الأفكار الفانتازية الشاذة والألم النفسي والاضطراب، كما يبدو الأب”الكاهن” وكأنه اكثر الماما بدهاليز الشذوذ والنفس البشرية من الطبيب المختص…والغريب أن الاجراءآت المتشددة التي يلجأ لها الطبيب الصارم تعزز من عناد وقدرات “دوساد” لابتكار وسائل ابداعية بالتعبير كما تقوده للسخرية من سلوكيات الطبيب ومحاكاة اسلوبه بمشاهد تحفل بالكوميديا السوداء، وهناك لقطة معبرة بالسياق الفيلمي تبين لنا كيفية “املاء مسودة الرواية” باستخدام “سلسلة المساجين”، وبالرغم من نفورنا من نصوصه الشاذة الا أننا نعجب بالعناد والمثابرة والرغبة بالتعبير!
لا شك بأن الماركيز”دوساد يعتبر مثالا واقعيا للشخصية”الخسيسة-الملعونة-الشريرة”، الا أن رغبته الجامحة بالتعبير عن شذوذه وأفكاره بلا تمويه وبعناد غريب تحوله لشخصية درامية-جدلية فريدة، وقد استغل “بعناد ومثابرة” كل الفرص والمنح التي اتيحت له للذهاب بعيدا لأقصى الحدود كاسرا كل القيود والقيم الاجتماعية والأخلاقية، جاعلا رغبته بالتعبيرعن شذوذه وأفكاره همه الأكبر ووسيلته لقهر الألم والمعاناة، متماثلا مع رسالته الشريرة بالحياة التي تمثلت بابتكاره “للشذوذ” كحالة فكرية قبل ان يكون حالة سلوكية!
…. ولم يكن الماركيز “دوساد” يعلم او يتوقع أنه بعد قرنين من الزمان ستأتي مجموعات من البشر “المتوحشين والحشاشين” لترتكب كل الممارسات السلوكية المغلفة “بالقدسية والمرجعيات “الدينية” المغلوطة ولاسترجاع التاريخ الدموي، ولاعادة شبح الطائفية والأحقاد القديمة وسكب الدماء والتفجير وتقويض الدول وممارسات قطع الرؤوس وأكل القلوب والأكباد والجلد والرجم والاغتصاب والنكاح، كما تزامن ذلك مع هجوم “عصابة القتلة” الاسرائيلية على أطفال ونساء غزة الجريحة، فمارسوا الاجرام الممنهج بالتفجير والتدمير والابادة، دونما اعتراض من أحد من دول ومؤسسات عالمية لحقوق الانسان، بل حتى بمباركات بعض العرب “الصهاينة” …ويبدو الشيطان هنا وكأنه نجح أخيرا بتقمص شخصية “المرجع –التلمودي- المقدس” بل وتفوق على ممارسات الماركيز الشاذ الملعون!

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *