قديما وحديثا.. الحزن يطل بوجهه في العيد


* بدر الخريف

في ظل غياب مناسبات الفرح عند العرب، يأتي الحزن سمة خالصة منذ قرون، تأثر العيد بالسياسية، كما تأثر بالحياة القاسية وهو ما انعكس سلبا على نفسيات الناس ومشاعرهم، وقد كان الشعر وهو ديوان العرب المعبر عن الواقع والوسيلة الوحيدة الناطقة باسم العصر بسلبياته وإيجابياته، لتأتي أغلب قصائد الشعراء في العصور الأولى مغلفة بحزن أبدي؛ بحيث أصبحت تبدأ بمطالع مأتمية، ووقفات على الأطلال، والمنازل الدارسة.

وفي العصور المتلاحقة ظل العيد عند العرب مناسبة وحيدة للتنفيس عن مكنونات النفس والتعبير عن الأفراح، لكن.. خلال السنوات الثلاث الماضية عادت الأعياد في بعض الدول العربية مغلفة بالحزن بعد الأحداث التي شهدتها بعض الدول العربية.
الصراع السياسي لم يكن جديدا في الذاكرة الشعرية العربية، فقد كان الشعر وقود المعارك، وزاد الفخر، كقصيدة الشاعر عمرو بن كلثوم التي نظمها بعد أن قتل ملك الحيرة عمرو بن هند، في رواقه وأمام حراسه وحجابه، لتردد قبيلة الشاعر على مدى 500 عام قصيدته التي مطلعها: «ألا هبي بصحنك فأصبحينا».
لكن السياسة صبغت كل شيء حولها ولم تبق شيئا، حتى أصبح العيد ملونا بما تخلفه الأحداث أو تصنعه. وهنا رصد لثلاثة شعراء عاشوا في عصور مختلفة جعلوا العيد مناسبة لإطلاق صرخات الفرح أو الحزن.
* عيد الصعاليك
البدء، مع واحد من أشهر شعراء الصعاليك في العصر الجاهلي وهو الشاعر ثابت بن جابر الفهمي الذي اشتهر بلقب «تأبط شرا»، وكان من أشجع فرسان الصعاليك وقيل عنه: إنه أعدى ذي رجلين، وذي ساقين وذي عينين، والتحمت شخصيته بالأسطورة، فقد ذكر العيد في شعره الذي يتفتح فيه التمرد الملحمي، ضمن صور موجزة، مكثفة الخيال والحس الحار، وكان شعره مرجعا وثائقيا للجاهلية كتجربة نفسية اجتماعية فريدة، متميزة، لتمر حياته عاصفة من الشعر والمجد والنشوة، متحدة بالخطر والتحدي، إلى أن قضى مقتولا ذبيحا في فخ نصبته القبيلة التي طالما روعتها غزواته وهجماته المتوالية على أحيائها وأنعامها.
في قصيدة العيد قال تأبط شرا كلاما يقيم شخصيته وفيها يصف الطيف، وتجشمه الأخطار، ويشيد بكرمه الشخصي منددا بمن يلومه في إنفاق أمواله، فقد مثل العيد عند تأبط شرا ما اعتاد عليه من حزن وشوق، فهو يخاطب العيد بأفراحه وأحزانه التي لا تنفك تنتابه، فيستعيد بها ذكرياته الماضية وما بها من أحداث تبعث على الفرح والحزن، والتي تجعل الشاعر يلمح من جديد طيفه وهو يجتاز الأهوال ويطرق مكامن الأخطار، متذكرا نفسه وهو يسير متعبا منهوك القوى حافي القدمين؛ حيث الأفاعي في الطرق المقفرة، مقيدا نفسه للإنسان السائر في البيداء وحيدا، وقد تخلى عنه الأصدقاء وبخلوا عليه بما عندهم ولم يصدقوا مودته وإيخائه، لكنه سرعان ما يتخلص من هؤلاء الصحب ويبتعد عنهم ويجافيهم، كما استطاع أن يتخلص من قبيلة «بجيلة» التي أسرته حين تمكن من الفرار واجتاز الأرض الموحلة، باذلا مجهودا خرافيا وشاقا في ذلك، يدل على قوة عزيمته وصلابته، وقد حدث هذا حين انطلق أفراد القبيلة وفرسانها خلفه بعد فرار عمرو بن براق، وكان و«الشنفرى» صديقا تأبط شرا، وأرسلوا عدائيهم ليلقوا القبض عليه، لكنه تمكن من الفرار ونجا سالما، واصفا انطلاقته وعدوه بالقوة والسرعة مثل ذكر النعام الذي تناثر ريشه فسهل عليه الجري، أو مثل الغزال السريع، وهما مضربا المثل في سرعة العدو، بل لم يكن شيء أسرع منه في الركض غير الفرس الأصيلة التي غطى الشعر المنسدل أعلى جبهتها، وغير الطير الكاسر الذي يسكن أعلى الجبال.
ولذلك يأتي حديثه عن العيد مقترنا ببطولة الفرار، يقول:
يا عيد مالك من شوق وإيراق
ومر طيف على الأهوال طراق
يسري على الأين والحيات مختفيا
نفسي فداؤك من سار على ساق!
إني إذا خلة ضنت بنائلها وأمسكت 
بضعيف الوصل أحذاق
نجوت منها نجائي من بجيلة، إذ 
ألقيت، ليلة خبت الرهط، أرواقي
ليلة صاحوا وأغروا بي سراعهم
بالعيكتين لدى معدى ابن براق
كأنما حثحثوا حصا قوادمه أو
أم خشف، بذي شث وطباق
لا شيء أسرع مني، ليس ذا عذر
وذا جناح، بجنب الريد خفاق
* عيد المتنبي
ويظل شاعر العربية المتنبي الذي تربع على عرش وإمارة الشعر، أفضل من تحدث عن العيد وبث فيه الفرح والترح، بفضل قصيدته المطولة التي يهجو فيها كافورا الإخشيدي، بعد أن تبخرت آماله وأحلامه بالحصول على ما يطمح إليه من إمارة أو ولاية يتربع على عرشها، وإليه ينسب بيت الشعر المشهور، ضمن قصيدة يقول فيها:
عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ 
بمَا مَضَى أمْ لأمْرٍ فيكَ تجْديدُ
أمّا الأحِبّةُ فالبَيْداءُ دونَهُمُ 
فَلَيتَ دونَكَ بِيدا دونَهَا بِيدُ
لَوْلا العُلى لم تجُبْ بي ما أجوبُ بهَا 
وَجْنَاءُ حَرْفٌ وَلا جَرداءُ قَيْدودُ
وَكَان أطيَبَ مِنْ سَيفي مُعانَقَةً 
أشْبَاه رَوْنَقِه الغِيدُ الأمَاليدُ
لم يترُكِ الدّهْرُ مِنْ قَلبي وَلا كبدي 
شَيْئا تُتَيّمُه عَين وَلا جِيدُ
يا سَاقِيَي أخَمْرٌ في كُؤوسكُما
أمْ في كُؤوسِكُمَا هم وَتَسهيدُ؟
أصَخْرَةٌ أنَا، ما لي لا تُحَرّكُني
هَذِي المُدامُ وَلا هَذي الأغَارِيدُ
إذا أرَدْتُ كُمَيْتَ اللّون صَافِيَةً
وَجَدْتُهَا وَحَبيبُ النّفسِ مَفقُودُ
ماذا لَقيتُ منَ الدّنْيَا وَأعْجَبُهُ 
أني بمَا أنَا شاكٍ مِنْه مَحْسُودُ
أمْسَيْتُ أرْوَحَ مُثْرٍ خَازنا ويدا 
أنَا الغَني وَأموالي المَوَاعِيدُ
كما سجل المتنبي السبق ذاته بتسجيله بيتا شهيرا يهنئ بالعيد وهي تهنئة لا تضاهى، وجعلها المتنبي صالحة لمخاطبة أي شخص في تلك القصيدة التي حملت بيتا له يهنئ فيها سيف الدولة بالعيد (وكان العيد عيد الأضحى) ويقول:
هنيئا لك العيد الذي أنت عيده / وعيد لمن صلى وضحى وكبرا
* عيد الأشجان
ومن العصر الحديث يطل شاعر أصيل من السعودية، هو: حمد بن سعد الحجي، تميز بالصدق والعذوبة وتجلت براعته في الغزل وفي حبه وشوقه إلى وطنه وتعلقه به، رغم شاعريته الرقيقة أصيب الشاعر بمرض نفسي لم يحجب روائعه الشعرية، فقد ركض في حلبة الشعر وأثرى الساحة بشعر رائع تناقله الأصدقاء والمعارف والأدباء والمحبون، ونشرت قصائده صحف ومجلات سعودية وعربية، وبعد رحيله نجح رئيس تحرير مجلة اليمامة الأسبق، محمد بن أحمد الشدي، في جمع ونشر نتاج الشاعر، حمل عنوان «عذاب السنين»، ضمنه أكثر من 60 قصيدة مختلفة قالها قبل مرضه وأثناء رحلاته العلاجية في بلاده وفي الخارج لعل أبرزها قصيدته المعنونة بـ«زمرة السعداء» وصور فيها معاناته مع المرض في سن مبكرة وهو ما أجبره على طلب العلاج في المصحات النفسية في بلاده ولبنان والكويت ومصر وبريطانيا وإيران؛ حيث أصيب بانفصام قبل 43 عاماً، قبل تخرجه من كليتي الشريعة واللغة العربية في آن واحد، إلى أن توفي قبل ثلاثة عقود تاركا سفرا خالدا من نتاج الشعر اللافت.
من أحد عنابر المصحات النفسية خارج بلاده؛ حيث يتلقى العلاج من مرض الانفصام حل العيد على الشاعر حمد بن سعد الحجي بعيدا عن الأهل والأحباب، فأطلق زفرات من قلبه المتعب بشوق اللقاء؛ مما حول أيامه إلى وقر ثقيل وهو المتيم بحب الناس، وقد أبكاه حلول العيد وهيجه أن لم يمر بعد الأحبة والأهل، وقد كان عيده وهو الغريب سقام وانبعاث وأسى، ودمعة تغريد، يقول:
يا عيد وافيت والأشجان مرخية / سدولها ونعيم الروح مفقود
لا الأهل عندي ولا الأحباب جيرتهم / حولي فقلبي رهين الشوق مفؤود
تجري دموعي في محاجرها على / وسادي لها صبع وتسهيد
أمسي وأصبح والأحزان تحدق بي / لا الروض يجدي ولا القيثار والعود
يا ساكني نجد أنا بعد بينكم / كأنما قد شوى الأضلاع سفود
أنا المتيم والأحداث شاهدة / من الهموم علت وجهي تجاعيد
إني غلام ولكن حالتي عجب / أرى كأني في السبعين مولود
لم أشرب الكأس والأشواق تشربني / ولم أغرد ومن حول الأغاريد
نعم شربت كؤوس الهم مترعة / حتى كأني من الأوصاب عربيد
لما أتى العيد أبكاني وهيجني / فليتني بعدكم ما مر بي عيد
عيد الغريب سقام وانبعاث وأسى / ودمعه إن شدا الشادون تغريد
_______
*الشرق الأوسط

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *