*إميل أمين
“لم أعبر عن اختلافي مع هيكل وهو محاصر في نظام يكرهه…ولا يجد منفذاً للتعبير في صحيفة…أو نافذة تليفزيونية…ولكن…مؤخراً تغير الوضع تماماً…أصبح مؤثراً على صحيفة يومية بشراكة أحد أبنائه فيها…وأصبح مؤثراً على دار نشر كبرى تتحكم في غالبية مثقفي مصر… لو اختلف هيكل مع واحد منهم لن تنشر له ما يكتب”.
بهذه السطور يقدم الكاتب الصحفي المصري عادل حمودة، رئيس تحرير صحيفة الفجر لكتابه الأحدث في المكتبة المصرية، والذي حمل عنوان “خريف هيكل… أسطورة شاخت في موقعها”، والذي أحدث دوياً واسعاً في أوساط الأدباء والمثقفين والمفكرين المصريين، لاسيما وأن عادل حمودة إن لم يكن واحداً من دراويش هيكل ومريديه، فهو على الأقل أحد الذين انتظموا طويلاً في صف المتلقين فكرياً من وعن الأستاذ الأشهر في عالم الصحافة المصرية “حسنين هيكل”.
يتساءل قارئ الكتاب ما الذي جرى لعادل حمودة حتى يشهر قلمه في وجه الرجل الأول في دائرة الصحافة المصرية لأكثر من نصف قرن بعد تركه لمنصبه الرسمي في الأهرام، وقبله بثلاثة عقود، عاصر خلالها ملك، وستة رؤساء جمهورية، وعشرات من رؤساء الوزراء، وظل كالطود الشامخ في مواجهة الرياح؟
يذهب عادل حمودة إلى أنه بتعدد الصحف المستقلة نجح هيكل في مد جسور الود والمجاملة مع ملاكها ومحرريها فأصبحت في خدمته، تحتفل بما يقوله على شاشات التليفزيون، وتتبارى في نشر حوارات معه، وتمنع ما يكتب ضده من النشر وهو أمر غريب أن يكون كاتباً في ثقله وشهرته سبباً في تقليص حرية الصحافة وتقييدها.
ويؤكد حمودة على أن الآية انقلبت…ففي وقت سابق كان من الصعب أن يجد هيكل صحيفة تدافع عنه…أما الآن فمن الصعب أن نجد صحيفة تختلف معه، أصبح هيكل قوياً مسنوداً، محمياً، يدور في حلقة ذكره دراويش ومريدون يسبحون بمآثره، ويتلمسون البركة بالقرب منه، ويلقون بتهمة الكفر على كل من يعارضه.
شيء ما خفي وراء إصدار هذا الكتاب يستحق التوقف والتساؤل كيف لحمودة الذي أصدر قبل عدة سنوات كتابا عنوانه “هيكل: الحياة والحب والحرب” وجمع فيه بعض من حواراته معه في كتاب آخر صدر بعنوان “لعبة السلطة في مصر” أن يصدر هذا الكتاب؟
يأخذ حمودة على هيكل أنه رجل التحولات والانتقالات من دعم نظام إلى نظام آخر، ويرى أن تحولات هيكل من نظام إلى نظام لم تكن مكشوفة من قبل كما حدث مؤخراً، وهناك أسباب متعددة تبرر ذلك الانكشاف.
وبالمعيار ذاته، يضحى التساؤل لماذا تحول عادل حمودة من علاقة الصداقة القوية التي ربطته بهيكل على مدى أكثر من عشرين سنة إلى هذا النقد الشديد اللاذع… ما الذي يدفعه الآن للاختلاف معه أو رؤية وجه آخر له؟
ما الذي جعله يراه بعيون أخرى غير التي رآه بها من قبل ؟ ما الذي حرضه على التوقف طويلا عند تحولاته وانعطافاته وتغيراته؟
يكتب عادل حمودة يقول: يبدأ هيكل كتابه الجذاب والممتع “زيارة جديدة للتاريخ” بإهداء شجعني على ما فعلت…لقد كتب هيكل لحمودة يقول: “إلى هؤلاء الذين يملكون الجرأة على مراجعة المألوف والمعروف…وأنفسهم”.
إذن هل أراد الأستاذ حمودة لعب دور الناصح والمشير الحكيم لهيكل، كما فعل هيكل نفسه مع بطرس غالي عندما نصحه بألا يترشح ثانية لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة، رغم أن غالي لم يطلب النصيحة، ومع ذلك قدمها إليه هيكل بالفعل بل وأبعد من ذلك …نشرها علنا … ولم يتوجه بها سراً.
يبدو أن هنا مفتاح فهم الكتاب إذ يعترف المؤلف بالقول: “سيراً على خطى هيكل قررت أن تكون نصيحتي إليه بنفس الوسيلة” النشر علنا … لكنه مع ذلك يقر بأنه: “في كل كلمة كتبتها لم أمسه بسوء، بل على العكس اعترفت بقدرته وحفظت مكانته، ومنحته أعذاراً عن أخطاء ارتكبها لا يجوز لمثله الوقوع فيها، لكن قبل أن أثبت ذلك، أتوقف كثيراً عند رد فعل ما نشرت.
ولأن الأستاذ أسطورة في عالم الصحافة المصرية فلهذا يكاد الأستاذ حمودة يجزم بأن كل من قرأ ما كتبه عن هيكل ونشره في حلقات مسلسلة في جريدته، أصيب بدهشة غير مصدق أن هنالك من تجرأ وهاجم هيكل، واشترك في ذلك من أعجبوا وتحمسوا ومن استنكروا … فكل شخصية مهما ارتفع شأنها تعرضت للنقد دون تعجب – على حد قوله – بما في ذلك الأنبياء والزعماء إلا هيكل كأنه الوحيد المحصن والمصون، خاصة في سنوات ما بعد مبارك إلا قليلاً.
صفحات الكتاب التي تبلغ نحو مائتين وخمسين صفحة مليئة بقضايا لا يعلم القارئ عنها الشيء الكثير مثل علاقة الأستاذ بإبراهيم المعلم صاحب دار الشروق للنشر والوسيط بينه أي بين الأستاذ هيكل وبين قناة الجزيرة في سلسلة الحلقات التي كان يقدمها تحت عنوان “مع هيكل.. تجربة حياة”، وتستتبعها بالضرورة قراءات نقدية كثيرة عن أسرار علاقة هيكل الخاصة مع أمير قطر حمد والشيخة موزه، عطفاً على تفاصيل رجل الأعمال “أحمد هيكل” نجل الأستاذ مع القطريين.
بل إلى أبعد من ذلك يذهب حمودة إلى إلقاء الضوء على علاقة الأستاذ هيكل بالإخوان المسلمين وكيف أنه فتح بيوته لهم قبل ثورة يناير وبعدها يتوقف عادل حمودة مع المشهد الأخير المتصل برئيس مصر الجديد عبد الفتاح السيسي وموقف هيكل منه، لاسيما وأن الأستاذ في مقابلة له مع جريدة السفير اللبنانية قال: إن السيسي لن يترشح للانتخابات الرئاسية” ولما وجد ردة فعل غاضبة من بعض المقربين منه، خرج بتصريح يلقي فيه باللوم على الصحيفة التي فهمت كلامه خطأ … قائلا: إن السيسي لن يرشح نفسه وإنما يرشحه الناس”
يؤكد حمودة على أن هيكل لم يسكت بعد كل ما أثاره تصريحه البيروتي فقد عاد ليقول كلاما يشابه الرقص على الحبال “إن السيسي حائر” أو “يعز عليه خلع سترته العسكرية” أو هو “مرشح الضرورة” وفي تحليل العالم النفسي الشهير الدكتور أحمد عكاشة فإن “السيسي ليس متردداً” وإنما هيكل بحكم السن “هو المتردد”.
ضمن صفحات الكتاب اتهام خطير حال صدقه فإنه يختصم بالفعل كثيراً من رصيد الأستاذ، والبينة على من أدعى كما يقال، ويتعلق بنصائح هيكل للإخوان، إذ يشير إلى أنه في 3 فبراير 2011، كان عمر سليمان قد التقى قيادات من الإخوان قبل رحيل مبارك عن الحكم بثمانية أيام، واتفق الطرفان فيما بينهما على انسحاب حشود الجماعة من الميادين مقابل القبول تشكيل حزب سياسي للجماعة. لكن هيكل انزعج واستدعى رموزاً إخوانية قائلا: لو انسحبتم من الميادين فإن مبارك سيشم نفسه، ويعلق ألفا منكم في نفس الميادين
هل كان هيكل بدعمه للإخوان يصفي حساباته مع مبارك ؟
الكتاب مليء بقصص الصدام العلني والخفي بين مبارك وهيكل، لكن حمودة يقطع بأن هيكل … على ما يبدو، لم يكن يهمه سوى هيكل … أن يصفي حساباته مع مبارك … ويزيحه، وينتصر عليه … ولو تحالف مع الإخوان وساندهم وأرشدهم.
لا يستطيع المرء أن يتجاهل الاتهامات القاسية التي تحملها صفحات الكتاب للأستاذ، فهو في تقدير المؤلف لم يؤمن بتجربة عبد الناصر لكنه اكتفى بالاستفادة منها، عاش في بيته الريفي (مزرعة) في برقاش على أطراف الجيزة حياة مترفة، وسط فقر مدقع، وخرج على الناس بصور له في ملعب الجولف وهي رياضة مكلفة لا يقدر على تحمل نفقاتها سوى نصف في المائة من سكان العالم.
يحاول المؤلف أن يظهر حالة من الازدواجية عند هيكل، فقد كان يقدم نفسه على أنه معارض لنظام مبارك بينما أولاده شركاء لأبناء مبارك في البيزنس والمكسب والمصلحة.
هيكل بحسب الراوي في هذا العمل يتهم مدير الاستخبارات المصرية الراحل اللواء عمر سليمان بأنه خطط لاغتيال رئيس وزراء أثيوبيا الراحل ميليس زيناوي ثلاث مرات دون أن يقدم دليلاً على ذلك، بل يصل الأمر إلى وصف هيكل بأنه يعاني من عقدة المخابرات دون أن نعرف ما الذي تسبب فيها لديه، ولهذا ينكر على رجال المخابرات أن تكون لديهم أي عملية ناجحة في تاريخهم.
يأخذ عادل حمودة على هيكل رؤيته لمستقبل مصر فبعد ثلاثة أعوام وثورتين ومئات الشهداء، لا يرى أن هناك مستقبلا لمصر، وهذا أمر يصيب الأجيال الصاعدة بفقدان الأمل، ففي برنامجه “صالون التحرير” سأل الأستاذ عبد الله السناوي، الناصري التوجه، وأحد عشاق هيكل، سأل الأستاذ هيكل كيف تفكر في المستقبل؟ فأجاب هيكل قائلا: قبل الحديث عن المستقبل لابد أن تكون متأكداً أنك على طريق المستقبل وحسم الموقف مضيفاً: اعتقد أننا بعيدون جداً جداً عن طريق المستقبل، في هذه اللحظة نحن في حالة تيه في الصحراء.
بل وأكثر من ذلك فقد وصف مصر بأنها سيارة كبيرة خربت … أتلف السادات أحدى إطاراتها، وتصور مبارك أنها طائرة لا سيارة، وتعامل مرسي معها على أنها “توكتك”
لماذا الآن يصدر عادل حمودة هذا الكتاب ؟
باعترافه بسبب مخاوفه من أن يفسد هيكل برغبته المزمنة – على حد تعبيره – في الارتباط بأي سلطة المعجزة التي وقعت في 30 يونيو … ولولاها لكانت رقابنا معلقه في المشانق، ولو كانت المؤامرة لا تزال تحيط بنا فإننا في حاجة لمن يساعد على تجاوزها مترفعا عن ما في النفس من أهواء …بجانب أن هيكل هو هيكل …لا يهمه سوى نفسه. يأخذ حمودة على هيكل كذلك أنه لم يصمت، بل بدأ سلسلة أحاديث تليفزيونية جديدة لوضع تصوره للمستقبل، المستقبل يرسمه رجل يقول دون توقف أن تاريخه وراءه، رجل ولد في زمن سعد زغلول، وفي زمن الترام والشعر والاحتلال، وتسبب في كثير مما جرى لنا الآن … هو الذي يتكلم عن المستقبل، بكل ما فيه من تكنولوجيا مذهلة … وتقارب بين مناطقه البعيدة إلى حد الاندماج، ونسى قوانين الخيمة واعتمد قوانين الفضاء … هل لنا أن نبشر أنفسنا بمستقبل متفجر نماء وثراء.
ينهي المؤلف بالقول: إن مشكلة هيكل هي رغبته في الخلود، لا يريد أن يعترف بأن كل من مروا بالدنيا من ملوك وكهنة وحكام وجنرالات وصعاليك ومجانين اختفوا بنفخة واحدة من الزمن وكأنهم مجرد ذرات تراب.
الكتاب على ما به من تشويق وإثارة، يحتاج بالتأكيد لنقد، يقوم على أساس موضوعي، لاسيما وأن أسطورة هيكل لم تشخ، ذلك لأنها لو كانت شاخت بالفعل لما كان هيكل حتى الساعة وفي عقده المئوي مالئ الدنيا وشاغل الناس، وتصدر في حقه الكتب، حتى الناقد منها كما كتاب الأستاذ حموده.
________
*جريدة “عُمان”