*عبده وازن
سؤال غريب يلحّ عليك إذا جلست امام التلفزيون وقمت بجولة على المحطات العربية التي تغزو الفضاء: هل تقع غزة الفلسطينية في بقعة بعيدة من الارض؟ هذا سؤال مربك حقاً لا سيما إذا كان من يطرحه مواطناً عربياً يتألم كالعادة بصمت، إزاء العنف الاسرائيلي الهمجي الذي تواجهه غزة. الشاشات الفضائية العربية تبدو بمعظمها كأنها غير معنية كثيراً بما يحدث هناك، في الارض الفلسطينية المحاصرة، من قتل وقصف وهدم، ومن جرائم ذات طابع «إبادي». غير أنّ هذه الشاشات لم تنسَ تماماً الحرب على غزة. إنها تتذكرها في أحيان. نسيان مثل هذه المأساة ليس من شيمها: كفى غزة أنها ارض في فلسطين، كفى الضحايا انهم من الاهل هناك، وعلى ما درج القتل الاسرائيلي، هم اطفال ونسوة وعجائز… والبيوت التي تهدم هي بيوت فقراء وكذلك الاحياء والحارات والمدارس والحقول… وعلى رغم هذا «الوفاء» الفضائي العربي لغزة والغزاويين، يشعر من يقلّب الشاشات بأن ما يحدث كأنما يحدث في جهة بعيدة من العالم. في آسيا البعيدة، في استراليا أو جنوب أفريقيا… شعور غير مألوف حقاً. لا استنفار إعلامياً، لا كاميرات تغامر وتدخل ارض المأساة وتصور أهل غزة كما اعتادت ان تفعل سابقاً، لا حملات دعم ولو صورية، لا مبادرات جماعية أو فردية تنطلق عبر الشاشات، لا حركات اعتصام واحتجاج تنقل مباشرة، لا اصوات استغاثة ولا صراخ ولا بكاء ولا رثاء… ولولا بضع محطات إخبارية وأخرى «ملتزمة» أولت الحدث اعتناء يستحقه، لما تمكن الجمهور العربي من متابعة ما يحدث. وهذه المحطات تملك جمهوراً «سياسياً» وليست جماهيرية. هذه المحطات لا تقدم مسلسلات درامية ولا برامج تسلية ومسابقات وكليبات…
بدت مأساة غزة كأنها مؤجلة في معظم الإعلام الفضائي. أنظار الجماهير العربية موجهة الى المونديال، وقد سالت دموع الكثيرين من العرب المتحمسين بقوة للفريق البرازيلي كما نقلت الكاميرات، مثلهم مثل الجماهير البرازيلية التي صورت الفضائيات هزيمتها الرياضية برفق وأسى. وعلى خلاف هؤلاء المهزومين احتفلت الجماهيرالعربية، الالمانية الهوى، امام الكاميرات بالنصر التاريخي الذي حققه فريقها. لعله «حظ» غزة العاثر: ان تحل مأساتها في عزّ المواجهات «الفوتبولية» التي تنتظرها الشعوب كل اربع سنوات. مأساة غزة تتكرر سنة تلو أخرى وربما أقل. وباتت الجماهير العربية تحفظ مشاهدها عن ظهر قلب. ويكفي ان تُعرض وقائعها في نشرات الاخبار، لا خارجها. مأساة غزة لا تجلب اعلانات، أما المونديال والمسلسلات فهيهات هيهات.
حظ غزة العاثر تبدّى ايضاً في موسم رواج الدراما الجماهيرية. ليس للمأساة الفلسطينية أن تحتل حيزاً كبيراً على الشاشات التي تنتظر هذا الموسم لتقطف الاعلانات. تكبدت هذه الشاشات مبالغ لتحصل على اعمال يتولى بطولتها نجوم مثل هيفا وهبي وعادل إمام وبضع ملكات جمال من اللواتي يصدّرهن لبنان الى «العالم» محملاً إياهن رسالته الحضارية، كما يتمّ الزعم دوماً. بين هيفا وهبي التي تؤدي شخصية امرأة تبيع الهوى في مسلسل، ومشاهد الدم الفلسطيني، تفضل الشركات الفضائية جمال هيفا. والذريعة ان الجماهير العربية سئمت مآسيها التي تتكرر وإن في صيغ عدة. ويحق لها ان تخرج من أحوال الاحباط والكآبة، وأن تتنفس وتفرح. واللافت أن مسلسلات كثيرة عمدت هذه السنة الى إغراء المشاهدين إغراء «عاطفياً» و «رغبوياً»، والى الضرب على اوتار مشاعرهم الشهوانية. هذا مسلسل قائم على الخيانة الزوجية والحب السري الذي ينتهي في القتل. وذاك مسلسل يقدم صورة فاضحة عن التجارة النسائية. وذلك يفتح صفحات الإجرام الشخصي في جو من أجواء التشويق (الهزيل طبعاً) الذي لا تغيب عنه النسوة. وآخر يستدرج «مطربات» شعبيات الى عرض مواهبهن في التمثيل.
وحدها القنوات الإخبارية تتابع شؤون غزة، لكنها لا تقدر وحدها ان تجعل من هذه المأساة حدثاً إعلامياً يضاهي حجمها الفجائعي. على المشاهد أن يقلّب الشاشات ليعثر على هذه القنوات الإخبارية، وخلال هذا التقليب عبر الريموت يكتشف «غربة» الشاشات أو «اغترابها» عن الواقع الفلسطيني الاليم. و «الاغتراب» هنا يعني حالاً من الاستلاب والانفصام السياسيين والانسانيين. وقد يكون من المبالغة هنا أن نستخدم المصطلحات النقدية التي تهجو الاعلام المرئي – المسموع وتتهمه بـ «تضليل» الجماهير وتشويه وعيها وذاكرتها. المسألة هنا مسألة إعلامية صرف، ويمكن استعارة عبارة «النشاط التجاري» التي استخدمها عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو في كتابه «عن التلفزيون» واصفاً المهمة التلفزيونية الخاضعة بنظره لـ «قانون السوق». إنها سلطة «السوق» الاعلامي تجعل من حدث سياسي ووطني يماثل مأساة غزة مجرد خبر تتردد اصداؤه بخفوت… والسبب حصوله في توقيت اعلامي غير ملائم وغير متاح، في توقيت خطأ. هذا وقت المونديال، هذا وقت هيفا وهبي، هذا وقت التشويق الدرامي في كل ضروبه. هذا ليس وقت غزّة مهما عظمت مأساتها.
________
*الحياة