*أبو بكر العيادي
لم يمض وقت طويل على اعتزال هياؤو ميازاكي صاحب الشريط الرائع “هبّت الريح” حتى خرج علينا استديو غبلي، معبد رسوم المانغا في اليابان، بشريط من الصور المتحركة عنوانه “حكاية الأميرة كاغويا” لرفيق ميازاكي الفنان إيساوو تاكهاتا، وهو مستوحى من حكاية شعبية؛ يعرض حاليا في القاعات الفرنسية، ويجد أصداء طيبة لدى النقاد.
رغم طول تجربته وتقدمه في السن (78عاما) يظل إيساوو تاكهاتا مخرجا قليل الإنتاج، فآخر عمل له “جيراني آل يامادا” يعود إلى سنة 1999، ولكنه إنتاج جادّ يحتوي على عدة أعمال قيّمة.
لعل أهمها شريط “مقبرة القطارب” الذي يروي قصة طفلين يلوذان زمن الحرب العالمية بمقبرة، لا ينير ليلها غير تلك الحشرات التي ترسل أجسادها الضوء. ذلك أن تاكهاتا نخبوي يصطفي أعماله بأناة، وهو مترجم نقل إلى اليابانية أشعار جاك بريفير، كما أنه، خلافا لميازاكي، لا يرسم لوحاته بل يكتفي بالإخراج.
هذه المرة وقع اختياره على “الأميرة كاغويا” وهي حكاية شعبية يابانية، يرجع عهدها إلى القرن العاشر، يقال إنها من وضع امرأة من نساء البلاط، في ذلك الوقت يقال لها موراسا كيشيكيبو.
هي حكاية أوكينا قاطع القصب المتواضع، إذ يعثر صدفة على رضيعة وسط النباتات فيعود بها إلى كوخه وتتولى زوجته أونا تربيتها، ثم يعثر في المكان نفسه على كمية من الذهب وثياب نفيسة تثير استغرابه.
ولما كان للطفلة جمال أخّاذ وقدرة عجيبة على النمو بسرعة، اختار أوكينا أن يسكنها بيتا فاخرا من بيوت المدينة، ويعهد بتعليمها لمربية، وينظم حفلات كي يكتشف الأعيان جمالها فيخطبوها لأبنائهم.
ولكن البنت التي اختار لها أحد أساتذتها لقب الأميرة، كانت تفضل العيش في الريف على حياة القصور وترفض الزواج حتى من الأمبراطور، وتدعو في سرها بوذا أن يعيدها إلى القمر، كي تنجو من ذلك الرجل ثم تدعوه ثانية، بعد فوات الأوان، كي تبقى بين البشر ولا تعود من حيث جاءت. إذا كان الشريط يحمل في طياته دعوة إلى التحرر من القيود الاجتماعية وبالتالي من القيم التقليدية اليابانية، فإنه يتميز بأسلوبه ونبرته.
فعلى عكس ميازاكي الذي ظل مصرا على صرامة الخطوط الواضحة حتى آخر أفلامه، فضّل تاكهاتا تخطيطَ رسم أولي غير منتظم بقلم الرصاص، وألوانا مائية تضفي على اللوحة خفة ومرونة تناسبان علاقة الأميرة بالطبيعة، وبأترابها الذين كانت تلهو معهم قبل أن تكبر.
فالمخرج يضع فردوس المتع الطفولية في مواجهة صرامة الطبقات العليا وحياة القصور والطقوس المضبوطة بدقة، التي خضعت لها كاغويا كي تتخلى عن طبعها وتصبح أيقونة، فهي في وجه من الوجوه أداة أوكينا للترقيّ الاجتماعي.
ما يُحسب لتاكهاتا أنه ليس مانويا، إذ عرف كيف يبدع في تصوير المجتمع المتحضر، ولكن جاء تقديمه لذلك الوسط مشوبا بنوع من الحتمية القدرية المتعالية، عبّر عنها في نفس شعري تمازجه مرارة.
ذلك أن حكاية الأميرة كاغويا ليست مجرد خرافة للأطفال، بل هي عمل فلسفي ذو مستويات. فكما هو الشأن في “مقبرة القطارب” يعالج هذا الشريط أيضا مسألة الحيـــاة والمــوت، ولو بطريقة سريالية تقريبا.
فكرة تحويل تلك الحكاية إلى شريط سينمائي لزمت تاكهاتا أربعين عاما من تقليب الرأي والتردد والبحث عن التقنية المثلى لإخراج خرافة تبدو في ظاهرها بسيطة، ولكنها تبدت بعد الإنجاز عملا فنيا مبتكرا يلامس جوهر الإنسان من حيث مضمونه، ويقلب الأنظمة الخطوطية والأنساق السردية من حيث شكله.
وإذا كان ميازاكي قد تناول في آخر أفلامه التاريخ وثيمات خالية من كل فنتازيا، فإن تاكهاتا يروي هنا قصة يعرفها اليابانيون صغارا وكبارا، قصة أميرة نزلت إلى الأرض لتكفّر عن خطيئة غريبة، بأسلوب أقرب إلى ذاك الذي استعمله ميازاكي في “الأميرة مونونوكي” منه إلى أسلوبه هو في “جيراني آل يامادا”. قد يبدو من السهل اعتبار عالم الأحلام نوعا من الخرافة الساذجة لا يجد فيه المتفرج معالمه فيسوي حاله بحال بنت القصب، غير أن تاكهاتا يرى غير ذلك.
يقول في حديث لـ”مجلة لوفيغارو”: «لا أحب كثيرا العنوان الفرنسي (أي العنوان الذي اختاره الموزع الفرنسي). لأن نيتي لم تكن إخراج خرافة ساحرات. كان من الأفضل وضع “قصة الأميرة كاغويا”، لأن فكرتي تقوم على سرد القصة الحقيقية التي تتخفى خلف تلك الخرافة، وهو ما لا يفهمه الناس حقا”.
يواصل: “أن أتجنب الغريب والعجيب وأفضل الواقع. عادة ما نستعمل لفظ “فنتازيا” لنعت تلك القصة. وهو لفظ ذو طابع عام ينطبق على الحكايات التي تدور في عوالم مختلفة عن عالمنا”.
مؤكدا: “أنا مقاربتي هي عكس هذا: كل قصصي تتنزل كليا في عالمنا هذا، أي في الواقع ولا تستند إلى أيّ بعد فنتازي أو خيالي قد يُتّخذ تعلة للحديث عن أشياء أخرى. أنا في الحقيقة أبحث دائما عن واقعية معينة”. فليس مستبعدا إذن أن يجد المتفرج نقاط تماثل بين هذا العمل وأعمال تاكهاتا السابقة.
_______
*العرب