جمعة الفيروز… اتّسع البحر وضاقت الأشرعة


*إبراهيم الملا

هو جمعة الفيروز (الذاهل عبر الفكرة) والمتماهي مع قصيدته العذبة والمعذبة التي اخترق بها الفضاءات الحارسة للظلام وطقوسه ومكابداته، لتظل متاهة السؤال حاضرة منذ رحيله في العام 2000: ماذا أراد جمعة الفيروز من كل هذا الهيام الخرب والمنتهك؟ لماذا اعتنق الألم واشتبك به، كي يكون هذا الألم الوجودي بالذات، مطية جامحة لحياته وكلماته وسفره الضاري نحو مجهوله الفاتن، ولماذا توقف واعتزل الكتابة فجأة وكأن ثمة احتجاج عنيف يمور ويضطرب بداخله، ويدفعه لمعانقة الليل حتى آخر شمعة ذاوية قرب دفتره المهترئ، وقرب آخر هزيع مرتجف على بؤس هذا العالم.

ولد الفيروز في منطقة (سدروه) برأس الخيمة في العام 1955 وانتقل بعدها إلى منطقة (الظيت) وبعد تخرجه من معهد الموسيقا العربية بالقاهرة في العام 1975 تعددت اهتماماته الفنية والأدبية وتوزعت بين التلحين وكتابة القصة القصيرة وقصيدة النثر وصولا إلى كتابة روايته «الدائرة» التي لم تكتمل دائرتها بعد، تاركاً صفحاتها المبهمة على ضفاف الموت، تتهادى مثل أجنحة النوارس في هواء العصف والعاصفة.
كان الفيروز مهجوساً بفكرة الكتابة، حيث كان يدون التفاصيل الصغيرة والمسودات الأولى في أي وقت وفي أي مكان، وكان الراحل يتوقف أحياناً في سيارته كي يدون فكرة لمعت في ذهنه، وكان أحياناً يكتب على علب السجائر أو المحارم الورقية حتى لا تتبخر المعاني ولا تتطاير العبارات الافتتاحية لمشاريعه القصصية والشعرية والروائية.
وعند شروعه في الكتابة أو عند اشتغاله على العود لاستجلاب ألحان جديدة لأصدقائه المطربين، فإن هذه اللحظات الإشراقية التي تداهمه أثناء عمله الإبداعي كانت ذات مقدمات طقسية واضحة، تتشكل ملامحها في غرفته التي كان يسميها (الصومعة) كي يتواصل مع هيامه الشخصي والحميمي في الكتابة والتلحين، وعند انتهائه من الكتابة أو وضع اللحن النهائي كان يختبر انطباعاته الأخيرة حولها، ثم يخرج فرحاً كي يعرض أعماله على أصدقائه المقربين أمثال أحمد العسم وعبدالعزيز جاسم ونجيب الشامسي وعبدالله السبب ومطر رمضان وهيثم الخواجة وناصر بوعفرا وطارش خميس، وغيرهم.
تشرّب جمعة الفيروز لغة البحر مبكرا، واستراح طويلا تحت سدرة البيت العتيق، وزّع نوتات الموسيقا ومدارات العود وجرح المحبة على السهارى والحيارى في ذلك الساحل الطويل المحمي بظلّ وجبل، وكتب قصصاً متناثرة بين الماء والرمل، وبين الصرامة والعبث، وبين الواقع والهذيان، ووثق محاولاته الأولى والأخرى الأكثر نضوجاً في مجموعتين قصصيتين هما: «مسافة أنت العشق الأولى»، و«علياء وهموم سالم البحار»، ورغم كل ما خطّه وعزفه الفيروز شعراً وقصة ونثراً ولحناً، إلا أن مخطوطاته المهملة والمتروكة كوديعة للنسيان، ما زالت بحاجة لمن يجمعها ويصنفها ويعيدها للوهج المختطف منها لحظة الكتابة.
تحالف الفيروز في آخر أيامه مع قلقه وسوداويته واختار الصمت والانزواء لأن رصيد هواجسه كان أكبر ربما من البوح المباشر ومن التعبير الانفعالي الصادق والصادم للآخرين، انحاز الفيروز للنقص والبتر والممانعة والكتمان، لأنه انقاد لغربة الكائن فيه، ولغرابة الواقع من حوله، هذا الواقع الإشكالي والملتبس الذي لم يعد قابلا للتصالح والتعايش معه وفيه، ولذلك فإن مغامرته القصوى أو الأكثر قسوة اتجهت نحو الداخل ونحو العميق المستتر بعيداً عن إدانة الخارج وعن التفسيرات المغلوطة، لشخصيته المرهفة حدّ النأي والانزواء، ولنتاجه الإبداعي الذي اتسع فيه البحر وضاقت به الأشرعة.
إن حضور جمعة الفيروز في الذاكرة الثقافية المحلية يستدعي قيام الجهات الثقافية بتبني فكرة إنشاء متحف شخصي داخل منزل الراحل، يضم مخطوطاته الشعرية والقصصية والروائية، ومدونات ألحانه، وكتبه وآلاته الموسيقية ومقتنياته الخاصة الأخرى، وذلك كي يتحول هذا المتحف إلى مزار لمحبي جمعة الفيروز خصوصاً، وللمهتمين بالثقافة الفنية والشعبية في الإمارات عموماً.
_______
*الاتحاد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *