في بلل العجين وبطيخ وسردين


*بروين حبيب

للطفولة ذاكرة مفتوحة على امكنتها الاولى، الحاشدة بالوجوه والأحلام، مفاجآتها السخية، أم بشخوصها العابرة أشواقنا، تبقى متقدة، مستقرة فينا، فنحتمي بتعتقات أشكالها، روائحها، طعمها الذي لا يغادر الذائقة بعيدا عن وحشة ما، تتمدد تلك الطفولات بحميمية خاصة، بذكرياتها البعيدة من قصص، لوحات او نصوص.. نقرأها، نلتقيها، نسمعها أحيانا اخرى من اصحابها، ولي تجربة اسوقها على سبيل المقال.. ابطالها شاعر، مفكر ورسام.

الاول يقرأ مكان الطفل عبر رائحته، بعد عشرين سنة هي سنوات غربته بسويسرا يستحضر الشاعر شاكر لعيبي بيته الاول بالعراق: «إن المرء لا يستطيع ان ينسى رائحة المكان الاول، لان المكان بالنسبة لي مرتبط بالرائحة اكثر من المشهد البصري، اتذكر روائح التراب المرشوش بالماء في المساءات، اتذكر روائح البطيخ ورائحة القرطاسية في حقائبنا المدرسية، روائح نشارة الاقلام المبرية..» ربما، رائحة الحنين نشدان آخر عند شاعرنا، اما المفكر فبدايات تمرده، عندما اصطحب أخته لمشاهدة احد الافلام في السينما، في القاهرة وقبل سبعين عاما، لقد كان هذا السلوك جزءا من حالة تمرد كما يسرد سنوات تكوينه الاول المفكر العربي الكبير محمود أمين العالم، في مواجهة اسرة متدينة، يديرها أب أزهري محافظ بل رجل دين، يتذكر طفولته بتمردها: «أذكر انني بعد خروجي من الفيلم قررت ان اقوم بعملية تمرد اخرى اشد خطورة.. فذهبت واشتريت (سردينا) وأكلته انا واختي في الطريق واخذنا نبذل مجهودا لإزالة رائحته عنا قبل عودتنا الى المنزل. ذلك ان ابانا كان يعتبر اكل الفسيخ والسردين من المحرمات لانها من الميتة، وما زلت اذكر كلامه «ألف سيخ في عين من أكل الفسيخ»، ولقد كان تذوقي لطعم السردين المملح لاول مرة تذوقا يمتزج فيه الاحساس الواعي بالتمرد».
اما الثالث.. فهو الفنان التشكيلي المصري عدلي رزق الله، فطفولته لها لون فواح، وأمه هي التي فتحت له باب ذكرياته البصرية منذ طفولته الباكرة، يقول: «جلابية أمي ستانية اسود مثل كل جلابيب نساء الصعيد اللاتي قد فارقن سن الشباب، الاسود الستانية «يكسب» ألوانا مثل رقبة البطة السوداء. تجلس امام الفرن فتضيئها نار الفرن وتكسب بشرتها احمرارا راقصا ملتهبا. يلتصق جلبابها بجسدها من بلل العجين والعمل فيلتمع صدرها دائما بأحمر متوهج يشعل صدرها في عيني الطفل الملتصق بجسدها من خلال الرضاعة، جنزة النحاس تعطي ألوانه الداكنة الوانا خضراء وبنفسجية وخلافه، الغسيل والصابون والزهرة الزرقاء تعطي جلباب أمي الاسود الوانه، الوانا، الوانا..».
رائحة البطيخ، طعم السردين، بلل العجين الجلابية السوداء، بعض ما تركته الايام بقع ضوء في ذاكرتهم، مساحات تأمل لشقاوة اطفال، كانوا، صورا عالقة في باب الروائح واخرى تكتنزها الذائقة، ومنها ما احتلت احداقهم، لها وقع فريد في مشاريعهم ونصوصهم، قد تظهر في ندوب حفرتها السنون بحبرها، او تجاعيد تدحرجت في اجساد تعبر شيخوختها، تناسب منها شهادات العودة الي سر البدايات وتكهناتها.
الطفولة، ذلك الحنين المؤبد، ايقاع القديم لما ينداح على سلالم العمر، كم هي جميلة!؟!
______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *