المثقف العربي وكرة القدم .. سوء الفهم الكبير


*عماد استيتو

يحتفظ المثقف والسياسي العربي على العموم – خاصة من ينتمي قلبهم إلى اليسار – (وهنا لا أتحدث عن مثقفي السلطة) بعلاقة متوترة مع الرياضة وتحديدا كرة القدم، فالغالبية العظمى منهم من الذين لا يولون اكتراثا بهذه اللعبة الرياضية الشعبية إن لم نقل إنهم يصلون إلى درجة كراهيتها والاستخفاف الذي يصل أحيانا إلى درجة الاحتقار بمن يتابعها.

فمن المسلم بالنسبة إليهم أنها اللعبة التي يتابعها العامة دون وعي، والمثقف بطبعه يجب أن يكون مترفعا عن كل أشكال الإلهاء ليستطيع أن يغدو مبدعا ينتصر للجمال، فكرة القدم بالنسبة إلى المثقف العربي تخلو من أي صورة جمالية وخالية من أشكال الإلهام التي يمكن أن توحي لكاتب أو فيلسوف أو فنان تشكيلي بفكرة.
وعلى المنوال ذاته يؤمن المناضل الراديكالي من أجل التغيير أن هاته اللعبة مجرد أداة في يد الأنظمة السياسية تستعملها لإطالة أمد حكمها وشغل الجماهير عن الوضع المتسم بغياب العدالة الاجتماعية والديمقراطية، وهاته الفكرة وإن كان الجزء الأكبر منها صحيحا إلا أن المثقفين والسياسيين اليساريين فشلوا في تطوير هاته الفكرة الجامدة والتعمق في تحليلها وتفكيكها، وإيجاد السبل لتغيير واقعها عوض الاستمرار في اجترار المقولة القديمة التي تقول إن كرة القدم هي أفيون الشعوب.
فيا ليتهم وصلوا مثلا إلى المستوى الذي بلغه مثقفون ومفكرون شيوعيون في أوروبا حينما كتبوا كتبا عن الطريقة التي تمت بها سرقة كرة القدم وتحويلها من لعبة شعبية جماهيرية إلى لعبة رأسمالية في خدمة الشركات الكبرى.
يحتاج المثقف العربي في بادئ الأمر إلى النزول الاضطراري من برجه العاجي، ومراجعة معلوماته المتواضعة بخصوص العلاقة بين الثقافة والكرة والسياسة. فقليلون ربما من مثقفينا العرب يعلمون أن عددا كبيرا من المبدعين والمثقفين الذين تركوا كتاباتهم وأعمالهم محفورة في تاريخ الإنسانية كانوا من المولعين بكرة القدم، بل منهم من مارسها كهاو، مثل الشاعر والمفكر الإيطالي بيير باولو بازوليني الذي برز أيضا في السينما والفلسفة والصحافة لكن ذلك لم يمنعه من أن يكون مولعا بكرة القدم ومشجعا لفريق بولونيا الإيطالي، إذ يصف بازوليني كرة القدم بأنها لا تحتاج لأن تترجم للكلمات، وبأنها رمز المواجهة الحقيقية التي تحدد قواعدها وتعرف رموزها، والتي يمكن وصف الحركة فيها، ويقول عن اللحظات التي تنتعش فيها مباراة في كرة القدم أو يسجل فيها الهدف بأنها ” لحظة شعرية”.
“أفضل هداف في البطولة في السنة هو الشاعر الأفضل، وكرة القدم التي تمنحك فرصة مشاهدة أكبر عدد ممكن من الأهداف هي الأكثر شاعرية”، يضيف بازوليني الذي كان معجبا بكرة القدم الجميلة التي تحاول منح السعادة للجمهور، الأكثر من هذا انتقد بازوليني بشكل واضح هيلينو هيريرا المدرب الأرجنتيني لفريق انتر ميلان الذي عرف بالطريقة لدفاعية الشهيرة “الكاتناشيو” لأنها كانت تقتل تلك الفكرة الرومانسية التي تمثلها كرة القدم.
هكذا استطاع مثقف من طينة بازوليني بذلك تطوير قاموس خاص به يفهم كرة القدم من خلاله، فأصبح يميز بين “الشاعر الواقعي” (الفرق التي تلعب بواقعية دون أن تلعب بالضرورة كرة قدم جميلة كالمنتخب الإيطالي) والشاعر المجنون (ذلك الذي يعتمد اللعب الجميل مثل المنتخب البرازيلي خلال سنوات السبعينيات).
ولا شك أنهم لا يعرفون أن الفيلسوف ألبير كامو كان عاشقا كبيرا لكرة القدم التي لعبها صغيرا كحارس مرمى، قبل أن يصبح مشجعا كبيرا لفريق راسينغ كلوب باريس، ويقول كامو إن القليل من الأخلاقيات التي يعرفها قد تعلمها في ميادين كرة القدم. ولا يعرفون أن كرة القدم أرشدته في الحياة، لأنه تعلم منها أن الكرة لا تأتي أبدا من الجهة التي نتوقعها أن تأتينا منها كما قال بنفسه. وربما لم يسعفهم الوقت لقراءة ما خطه المؤرخ هورست بريدكامب وهو يجعل من اللعبة موضع دراسة علمية قائلا: “كرة القدم هي مسرح حياة”، يحتاج المثقف العربي فعلا أن يتأمل ويتفقه فيما كتبه مؤرخون وفلاسفة ومفكرون عن كرة القدم كرياضة ساحرة ومستفزة لملكة الإبداع لدى الكاتب أو الشاعر أو الفنان.
صحيح أن الديكتاتوريات العربية اعتمدت كرة القدم كنمط حكم، واستعملتها للإطالة في عمر الأنظمة التي تقودها وتأبيدها، وتفادي الانفجارات الاجتماعية والسياسية رغم ظروف انعدام الديمقراطية واستشراء الفقر. فكسبت الأنظمة بالتالي معركة كرة القدم لصالحها من خلال تعيين الجنرالات وخدام السلطة الأوفياء على رأس الاتحادات المحلية ومن خلال الاستغلال السياسي لبعض الإنجازات الكروية، إلا أن الملام الأكبر يبقى السياسي والمثقف العربي الساعي إلى التغيير لأنه لم ينتبه مبكرا إلى شعبية هاته اللعبة وجماهيريتها وتعالى على الفئات العريضة التي تتابعها، ولم يسع إلى الاقتراب منها.
لم يؤمن السياسي والمفكر العربي أن الكرة يمكن أن تكون أداة للدفع نحو التغيير أو الثورة ولم يحاول أن ينزل بخطابه من السماء إلى المدرجات أو مستودعات اللاعبين، فخسر الملعب لصالح النظام لذلك لا يحق له اليوم أن يتباكى على ما تفعله الكرة من مفعول تخديري على جماهير يعتبرها “لاواعية”، وهو إهمال ينم في حقيقة الأمر عن جهل كبير ونقص معرفي فظيع حول ما يجمع الكروي بالسياسي والتجارب التي نجحت فيها الكرة بشكل مباشر أو غير مباشر في صنع التغيير، وهو ما يكشف عدم استعداد المثقف العربي لتوسيع معارفه والانفتاح على أشياء جديدة .
ولعل النموذج الملهم، والذي على بعض من السياسيين والمثقفين العرب أن يقرأوا سيرته الذاتية، هو سقراطيس نجم كرة القدم البرازيلية، وواحد من أروع من أنجبت، سقراطيس قصة يسارية جميلة للاعب مناضل ضد الديكتاتورية العسكرية في بلاده.
نقل سقراطيس التزامه بقضايا الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية إلى ناديه كورينتيانس فقاد أشهر عملية دمقرطة لناد لكرة القدم في العالم، كان سقراطيس عراب هاته الثورة الجديدة التي جعلت كل القرارات تتخذ في النادي بتصويت الجميع من الرئيس إلى سائق الحافلة.
ولم يتوقف نضال كورينتيانس هنا فقد قام اللاعبون بتحفيز الجماهير على ممارسة حقوقهم في التصويت والاختيار عبر رفع شعارات قبل المباراة إلى أن ارتدوا أقمصة ترفع بشكل واضح كلمة “ديمقراطية”.
ولا يمكننا ونحن نقدم هاته الأمثلة من أميركا الجنوبية إلا أن نتذكر اللاعب كارلوس كازيلي اللاعب الشيلي اليساري الهوى الذي عارض بشراسة النظام العسكري الذي قاده بينوشيه، بعد انقلابه على الرئيس اليساري المنتخب أليندي سنة 1973 الذي كان كازيلي هداف الكرة الشيلية واحدا من أنصاره، وتوجه بخوض حملة ضد الاستفتاء الذي كان دعا إليه بينوشيه لإعادة انتخابه سنة 1988 رغم كل المضايقات التي تعرض لها في مساره الكروي، وكان أن خسر بينوشيه في نتيجة الاستفتاء لتعلن الشيلي بذلك طي صفحة الديكتاتورية العسكرية.
ولا يمكن أن نغفل أيضا عن الدور الذي لعبته كرة القدم في إقليمي كطالونيا والباسك في تعزيز الشعور القومي ودعم المطالب الشعبية والتحررية المطالبة بالاستقلال أو المزيد من الحقوق في هاته المناطق التابعة لاسبانيا.
صحيح أيضا أن اليسار في العالم عانى نفس المشكلة في التعامل مع كرة القدم لكنه استطاع مراجعة جزء كبير من أفكاره، فإذا قرأنا العدد الأخير من مجلة “موفمون” الفرنسية وهي مجلة تصنف على أنها ناطقة باسم أقصى اليسار نجد تقدما كبيرا في فهمهم لكرة القدم، حيث يمكننا أن نقرأ من المجلة “صحيح أن كرة القدم هي رمز للفردانية، والتمييز على أساس الجنس، والعنصرية، والامبريالية وصحيح أن المشجعين يخدمون الشركات الجديدة، وصحيح أن الفيفا تفرض قواعدها المستبدة والديكتاتورية حتى على الدول الديمقراطية، ورغم هذه الحقائق المؤسفة فإن هذا لا يمنع من القول إن كرة القدم هي فضاء للخلق الجماعي وللروابط الاجتماعية، ومن المستحيل أن نتركها إذن للقنوات الفضائية المدفوعة وللاتحادات الفاسدة، وحتى ولو كان اللاعبين يركضون في الملعب كرؤوس أموال وحتى لو كانت البرازيل تدمر أحياءها الهامشية وتبني المباني الضخمة، فإنه يمكننا أن نكون يساريين ونحب كرة القدم”، استنتجوا إذن أنه ليس مفيدا بالنسبة إليهم أن يستمروا في مقاطعة كرة القدم، على الرغم من بعض الحقائق السيئة التي أصبحت تحيط باللعبة بعد أن أصبحت في يد امبراطورية فاسدة كالفيفا حولتها إلى دجاجة تبيض ذهبا بالنسبة إلى الشركات الكبرى، لكنهم لا يمكن أن يتركوا هذه الرياضة التي يتابعها هذا الكم الكبير من الشعب لهم.
خلاصة القول، إن على المثقف العربي أن يصل إلى فكرة أنه حان الوقت ليتصالح مع كرة القدم ويتخلص من العقد الناتجة عن الأفكار المسبقة والمغلوطة التي تجعله يتفنن في ازدراء كرة القدم ومن يتابعونها، فكرة القدم كما وصفها المفكر الألماني الماركسي إريك هوبسباون هي “الديانة العلمانية للبروليتاريا”، أو “مملكة الوفاء البشري” مثلما امتدحها أنطونيو غرامشي.
_________
*ميدل إيست أونلاين

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *