*إبراهيم غرايبة
يقدم هذا الكتاب (ملفات المستقبل.. موجز في تاريخ السنوات الخمسين المقبلة) لمؤلفه ريتشارد واطسون الاتجاهات الرئيسية للسنوات المقبلة، ويرى المؤلف أن المحركات الخمسة الأكثر أهمية في التغيير القادم هي:
1- الشيخوخة، حيث ستؤدي الزيادة الكبيرة في نسبة كبار السن في المجتمعات إلى مضاعفة الإنفاق على الصحة والدواء والرعاية الاجتماعية، وتطور الطب في اتجاهات خاصة بكبار السن مثل إصلاح الأعضاء التالفة، واستعادة الذاكرة.
2- انتقال القوة نحو الشرق، حيث تمثل دول وأقاليم مثل الصين والبرازيل والخليج أسواقًا كبرى للعمل والإنتاج والاستهلاك.
3- الترابط العالمي الذي تنشئة شبكات الإنترنت والموبايلات والهجرة، وينشئ ذلك متوالية جديدة من الأمن والمخاطر الجديدة، وتدفق الأموال وغياب الخصوصية، وزيادة الشفافية؛ ما يجعل السلوك أكثر نزاهة، ويطور إيجابيًّا في اتخاذ القرارات نحو الحكمة والذكاء الجماعي.
4- التكنولوجيا الذكية والأكثر ذكاءً (الحوسبة، الإنترنت، الربوت، النانو تكنولوجي،..).
5- البيئة وتغير المناخ، وما يمكن أن يؤدي إليه من اختفاء مدن وتصحر مناطق واتجاهات سياسية واقتصادية جديدة.
غياب الخصوصية وزيادة الشفافية
ستكون أهم الاتجاهات التي تساهم في تشكيل المجتمعات وتحولاتها هي العولمة، وما تؤدي إليه من غياب الخصوصية وزيادة الشفافية، ويقابل ذلك نزعة إلى المحلية والاتجاهات المضادة للعولمة، وسيتنازع المجتمعات نزعتان بين تقبل التكنولوجيا ورفضها، واختفاء الطبقة الوسطى، ليتحول المجتمع إلى أغنياء وطبقة عاملة، وتجتاح المجتمعات موجة من القلق والبحث عن معنى.
ويتجه العالم إلى مزيد من الفردية، ويتبع ذلك بطبيعة الحال تحولات في التقنية والاستهلاك والأسواق لتلائم أسلوب الحياة الفردي، التقنية التي تساعد الإنسان الفرد أن يعمل بنفسه ولنفسه، وستؤدي التحولات والصدمات الكبرى إلى استجابات وردود أفعال متباينة، وتسود حالة من القلق وعدم اليقين، وسيؤثر ذلك على تصميم وتخطيط المدن والبيوت، ففي ظل حالة الفردية والانطواء تكون البيوت منتجعات صغيرة آمنة، وقد يزيد ذلك من طغيان الأنظمة السياسية بسبب العزلة واللامبالاة، ذلك أن نقيض الخير ليس الشر وإنما اللامبالاة.
ويتزايد اللجوء إلى العالم الافتراضي، ويمكن الإشارة على سبيل المثال أن الأفلام الخيالية مثل “هاري بوتر، وكنغ كونغ، وحرب النجوم” كانت الأعلى مشاهدة وإقبالاً، وسوف يكون ممكنًا الإقامة في العوالم الأخرى بالمعنى الحرفي (وفقًا للحواس البشرية الخمس) كما في فيلم ماتريكس The matrix ولكن في الواقع.
وستفقد المؤسسات التقليدية القائمة اليوم ثقة الناس، مثل الأسرة والمؤسسة الدينية والشركة والمدرسة والعيادة، وسوف يستعين الناس بأنفسهم في العلاج والتشخيص والتعلم والعمل،… وسوف تؤدي سهولة الإعلام وانخفاض تكلفته إلى نشوء سوق هائلة من الفضائيات والمواقع والصحافة والصور، وبالطبع فإن ذلك سينشئ سوقًا جديدة من الكتابة الجيدة والإعلام المبدع.
العلم والتكنولوجيا
ستكون الحواسيب أكثر ذكاءً من البشر بحلول 2030 تقريبًا، وستكون الأجهزة والمكائن ذات وعي عاطفي، الذكاء الصناعي والذكاء العاطفي سيميزان التكنولوجيا القادمة، وهذا يدفع إلى سؤال: كيف نحول دون سيطرة الحواسيب علينا؟ وقد بدأ بالفعل إنتاج الأجهزة والحواسيب التي تعلم نفسها ولا تكرر أخطاءها.
والناحية الأخرى المشوقة والمثيرة للقلق هي التقاء الحوسبة والروبوتات والتكنولوجيا النانوية، والتي يمكن أن تنشئ ماكينات قادرة على استنساخ نفسها، وإذا أمكن تحميل محتويات الدماغ الإنساني في الحاسوب فسيكون ذلك شكلاً من أشكال الخلود، وبداية لانشقاق الجنس البشري إلى قسمين: طبيعي ومعزّز.
وسوف ينتج الإنسان أدوات ذكية، ملابس وأحذية وحقائب وسيارات تقوم بكثير من أعمال الإنسان الذكية، وتتعامل معه بحميمية وذكاء، وسوف تدخل الروبوتات إلى مكاتبنا وغرف معيشتنا، وترافق المسنِّين، وتؤدي مهمات العلاج والحماية، ويمكن إرسالها إلى المناطق الخطيرة والصعبة مثل الأنابيب والأفران والمناجم لتؤدي أعمالاً ومهمات كانت تبدو مستحيلة.
السيادة الوطنية تتعرض للانتقاص والتهديد
يبدو أن التقنية وتحولاتها وتداعياتها تمضي بالدول نحو المدينية، وبالشعوب نحو القبلية، وتؤدي اتجاهات القلق والبحث عن معنى إلى نزعات جديدة في التقشف، وتحولات في الأسواق والسلع والنظام الاقتصادي، كما أن التغيرات البيئية سوف تغير في خريطة العالم والدول، وبدخول الأنظمة الإلكترونية إلى التصويت فإن ذلك يغير كثيرًا في المشاركة العامة ونتائجها.
وأخذت الأمة تفقد أهميتها، والسيادة الوطنية تتعرض للانتقاص والتهديد من قبل العولمة والشركات والمنظمات الدولية والحركات الاجتماعية، ويصاحب ذلك تراجع في أداء الحكومات في مجال الخدمات الأساسية والبنى التحتية، الصحة والتعليم والنقل،… ولم تعد الصراعات تجري بين الدول ولكنها داخلية.
ومع زيادة عمر السكان وتراجع الخصوبة وانخفاض عدد السكان فإن الدول سوف تواجه تحديات في التجنيد وبناء الجيوش.
أما الاتجاهات الخمسة التي ستحول الخدمات المالية هي: المحمول والدفع المسبق، والدفع دون لمس، والوسطاء، والديون، والتنظيم والرقابة، والمنافسة الأجنبية وغير المصرفية.
وفقًا لشركة “أكنيلسن للأبحاث” (ACNielsen) فلن يجري بحلول سنة 2020 سوى 10 في المائة من المعاملات المالية نقدًا، وسيكون المتبقى رقميًّا، ولكن بحلول 2050 فإن كل الاحتمالات تشير إلى أننا سوف نحصل على عملة رقمية عالمية واحدة، سواء أحببنا ذلك أم كرهناه، وبدأ بالإمكان شحن الموبايل بالنقود غير المتصلة بالفواتير الهاتفية أو بطاقة الائتمان، وذلك لأغراض التحويل والدفع، وقد بدأت بالفعل أعداد النقود المعدنية بالهبوط في اليابان والولايات المتحدة.
وتنمو اليوم السوق الافتراضية، إنفاق النقود الحقيقية على ممتلكات افتراضية، جزر، أراضي، سفر وسياحة، وتبلغ اليوم قيمة الاقتصاد الافتراضي حوالي 800 مليار دولار، وسوف نجد قريبًا وكلاء تأمين افتراضيين، ومصرفيين افتراضيين، ومخططين ماليين افتراضيين، وبنوك وأسواق مالية وسلعية افتراضية، النقطة الخطيرة هنا هي أن الحياة تخلط بين الحقيقي والافتراضي.
وتشكل الديون اليوم نسبة هائلة بالنسبة إلى الاقتصادات الوطنية والشخصية، فقد ارتفع مستوى دَين الأسر الأمريكية المتدنية الدخل بنسبة تزيد على 180 في المائة عما كان عليه الحال قبل عشر سنوات، وبارتفاع معدلات الأعمار فسوف يؤخر سن التقاعد، وقد يعاد النظر في أنظمة التقاعد.
وبزيادة الشفافية في جميع الخدمات المالية فإن التكاليف التشغيلية للمؤسسات المالية سوف تزيد، وسوف تخرج كثير من المؤسسات الصغيرة من العمل، وربما تلجأ الطبقة الوسطى إلى الثورة بسبب شعورها بالظلم.
بدأت شركات التأمين تربط أقساط التأمين بمصادر القلق والخطر، ولذلك فإنها تشجع الصحة الجيدة وأسبابها، وتخفض الأقساط أو ترفعها تبعًا لذلك، مثل ممارسة الرياضة والسواقة بأمان والإقلاع عن التدخين.
إعادة ابتكار المواصلات العامة
ستكون الاتجاهات الرئيسية الخمسة المؤثرة في النقل والمواصلات هي: الذكاء المبيت، والمراقبة من بعد، وسيارات من دون سائقين، والبيئة، وإعادة ابتكار المواصلات العامة، فسوف يكون ممكنا فتح السيارات وتشغيلها بالتعرف إلى القزحية، ويمكن أن يتبع ذلك سلسلة من الخدمات الأمنية والصحية والمعلوماتية الضرورية التي تؤديها السيارة، مثل التعرف على الشخصية والحالة الصحية والمزاجية للسائق، ويمكن أن تدير السيارة مراقبة آلية للسرعة والمكابح وتوقع الحوادث والمخاطر، وقد يكون ذلك مفيدًا في تحديد المسؤولية إذا وقع حادث، وسوف يمكن تتبع جميع السيارات تلقائيًّا، وبالتالي تفقد جميع الرحلات خصوصياتها، ولكن ذلك يمنع السرقة ويدعم صناعات التأمين، وستكون السيارات بحلول 2040 قادرة على قيادة نفسها بأقل قدر من تدخل السائق، ويمكن أن تتبادل السيارات المعلومات حول الطرق والحوادث، ويمكن أن تكون السيارة جزءًا من البيت والمكتب، وتوفر خدمات مثل الطعام والبريد والموسيقى والفيديو، وسوف تؤدي التحولات البيئية وارتفاع أسعار النفط إلى صناعة أجيال جديدة من السيارات أقل حجمًا وأقل استهلاكًا للطاقة، أو تعتمد على أنواع بديلة ومهجنة من الطاقة، ويبدو من المنطقي أن تنمو المواصلات العامة عندما تمتلئ الطرق الحضرية ومواقف السيارات، ولكن السيارة تظل مرتبطة بالفردية والحيز الشخصي، ومن غير المرجح أن نتخلى عن ملكية السيارة الخاصة.
ولكن هل سوف نبقى نحتاج إلى السيارة والتنقل بعامة إذا كان السفر الافتراضي يغني عن السفر الواقعي؟ يقول المؤلف: إن المركبات الآلية ديناصور يجوب الكرة الأرضية بحثًا عما تبقّى من غذائه (النفط) مثلها مثل الكائنات الكبيرة بطيئة الحركة، فلم تتكيف السيارات مع التقدم الحاسوبي، وربما يكون ثمة حاجة -كما يقول المؤلف- أن تستحوذ ميكروسوفت على شركة مثل جنرال موتورز، أو تشتري تويوتا شركة مثل “آبل” من أجل تقديم التقنيات إلى السائقين عبر لوحات القيادة.
الرعاية الصحية والطب
ستكون الاتجاهات الرئيسية الخمسة المؤثرة في تغير الرعاية الصحية هي: الهرم، والطب من بعد، وعلم النوم، والسياحة الطبية، واستعادة الذاكرة وإزالتها.
سوف تؤدي ارتفاع تكاليف العلاج إلى جانب التطورات في المراقبة عن بعد والاتصالات إلى ازدهار الرعاية الصحية والتشخيص من بعد، وسوف يؤدي شعور الناس بالإرهاق والقلق والاكتئاب إلى ازدهار أبحاث هندسة النوم، وسوف يحل النوم في الأولوية والحاجات محل المال والجنس، وسوف يزدهر السفر لأجل العلاج للقادرين على الدفع أو بحثًا عن تكاليف أقل، وتزدهر تبعًا لذلك وكالات السياحة الطبية والمستشفيات الفاخرة التي تشبه الفنادق، وبما أننا نميل بشكل متزايد إلى المسامحة والنسيان سواء كان الأمر يتعلق بموعد غرامي سيئ أو سياسي فاسد أو جريمة قتل، فسوف تزدهر تقنيات المحو من الذاكرة! ولأننا نميل إلى تكرار الأخطاء التي لا نستطيع تذكرها فسوف تزدهر تقنيات استعادة الذاكرة.
الاهتمام بالمستقبل والحنين إلى الماضي، والرغبة في نيل الاحترام والتقدير، أشياء لن تتغير بفعل الزمن.
ومن التطورات الطبية المتوقعة إنماء الأسنان والأعضاء البشرية والدماء الصناعية وقلوب صناعية وأدوية للذاكرة ومزارع للأطراف البشرية وأدوية مضادة للاكتئاب والانتحار، ولقاحات لمقاومة الطعام والكحول والسجائر والمخدرات، إضافة إلى الربو والتهاب المفاصل وضغط الدم،… لسنا بعيدين عن مجتمع يوجد فيه دواء لكل داء، وقد بدأ بالفعل استخدام أدوية للتركيز وتحسين الذاكرة ومعالجة الزهايمر.
طبيعة العمل.. الروبوتات محل الإنسان
ستكون الاتجاهات الرئيسية الخمسة التي ستغير طبيعة العمل هي: العولمة والقدرة على الاتصال، وتسريع التغير التكنولوجي، والمسؤولية الاجتماعية للشركات والحوكمة، والتحولات الديمغرافية، والتوازن بين الحياة والعمل، فلم تعد الجغرافيا عائقًا في العمل بما في ذلك من حسنات وسيئات، إذ يمكن تشغيل عدد كبير من العاملين عن بعد، ولكن المستقبل سوف يشهد نقصًا في العمال بسبب تراجع الخصوبة في جميع البلدان تقريبًا، وسيكون تنافس حاد على المواهب والمهارات إلى أن تحل الروبوتات محل الإنسان، وسوف تكون مسائل السلوك الأخلاقي والمسؤولية الاجتماعية للشركات قضية مهمة لدى المستخدمين والعملاء، وستكون الثقة والشفافية أكثر أهمية، ويكون العملاء مدفوعين بالقيم أكثر من الأسعار.
سوف يؤدي نقص العمال إلى توظيف أعداد كبيرة من كبار السن، وسوف تزيد مساهمة النساء في سوق العمل، وسوف يكون التعليم المستمر والتدريب أكثر أهمية من قبل وذلك لمواكبة التغير السريع في العلوم والتكنولوجيا والعولمة، وبفقدان العلاقة بين العمل والمكان تتغير أنظمة العمل وأوقاتها، ولن تعود مرتبطة بالذهاب إلى المكاتب، ولا بساعات العمل، لكن بالأهداف والإنجاز.
هل ستبقى الشركات والمدارس ومؤسسات العمل؟ هل سوف تسوء الحياة أم تكون أفضل؟ هناك تغير كثير جدًا يبدو واضحًا، يقول “برتراند رسل”: التغير شيء، والتقدم شيء آخر، التقدم أخلاقي، والتغير علمي، التقدم مثير للخلاف ولكن التغير لا ريب فيه. ولا نملك مناصًا -كما يقول “تشارلز كترنغ”- من الاهتمام بالمستقبل؛ لأننا سنمضي ما تبقى من أعمارنا فيه. هناك ما يدعو إلى القلق، وهناك تحسن في الحياة والصحة والدخل، ويبدو مسار الحياة نحو التقدم برغم كل الخسائر والمشكلات وما يدعو إلى القلق، فقد أمكن أيضًا تقديم حلول كثيرة لمشكلات حدثت، وسوف يواصل العلم التأثير في المستقبل برغم عدم وضوح التداعيات والمتواليات الناشئة عن التقدم العلمي، وسوف تقدم التكنولوجيا فرصًا عظيمة قد تساعد في مواجهة المشكلات والعواقب، وسوف تنشأ مخاوف ومصادر جديدة للقلق.
المؤلف متفائل، فرغم أن المستقبل غير معروف كما يقول فإن في وسعنا رؤية خطوطه العريضة وتتبعها، وإذا لم يكن المستقبل جيدًا فيجب ألا نلوم إلا أنفسنا لأننا يمكننا تغيير المستقبل إذا فكرنا فيه جيدًا.
هناك خمسة أشياء لن تتغير كما يقول المؤلف، وإن كانت الأشياء لا تتغير، كما يقول “هنري ديفيد ثورو”، نحن الذين نتغير، وهذه الأشياء هي: الاهتمام بالمستقبل، والحنين إلى الماضي، والرغبة في نيل الاحترام والتقدير، والحاجة إلى الأشياء المادية واللقاءات الفعلية والتجارب الحية، والقلق والخوف.
سوف نظل نسعى لتلبية احتياجاتنا الأساسية البيولوجية وتحسينها، ثم نرقى إلى تلبية احتياجاتنا الأعلى، المعنى والحب والانتماء والمكانة وتقدير الذات.
_________
* كاتب وباحث أردني/ مجلة المجلة