*حسن سلمان
في الحديث عن الأديبة الجزائرية ربيعة جلطي، لا يسع المرء إلا أن يتوقف طويلا أمام تجربتها الشعرية الثرية التي تمتد لأكثر من أربعة عقود، قبل أن يعرّج على عالمها السردي المتميز في الرواية التي لم تشغلها عن عشقها المستمر لـ»الوحش الأليف» الرابض في الشعر، دون أن ينسى ترجماتها الهامة لكبار الشعراء الفرنسيين والإسبان.
وخلال حوارها مع «القدس العربي»، ترى جلطي أن الشعر «نمط حياة» أكثر من كونه مجرد تمرين على الكتابة، لكنها تؤكد بالمقابل أن كتابة الشعر «تشبه صناعة سهم رقيق مدبب، بينما كتابة الرواية فهي مثل صناعة سفينة كبيرة ركابها كثيرون ذوو مصائر متباينة».
وتعتقد الأديبة الجزائرية أن الترجمة هي الحلقة المفقودة في عالمنا الفكري والثقافي العربي الذي يراوح في مكانه، كما تنتقد «عنترة» الدارسين المشارقة وميلهم إلى اعتبار العربية حكرا على أهل المشرق، وعدم التفاتهم إلى كتابات المغاربة «إلا إذا كانوا أشباه مشرقيين».
* أبدأ بروايتك الأخيرة «عرش معشق»، قد يبدو عنوانا ملتبسا بين الحب والعشق وعدمه كما يعبر بعض النقاد، ما رأيك بذلك؟
** لا مجال لتفكيك سرّ العنوان إلا بعد قراءة الرواية، سيظل ملتبسا مغريا يراوغ القارئ حتى نهايتها المفتوحة، هذا ما جاء على ألسنة بعض القراء، في العنوان شتلة مفاتيح أضعها بين يدي القارئ وذلك لعب سردي ولغوي تعجبني فنونه ومخاطراته.
العديد من قراء «عرش معشّق» ومن الأكاديميين والمتابعين منحوا بطولة الرواية لشخصيات مختلفة ومنهم من ارتأى أن يكون البطل هو هيكل الزجاج المعشق ذو التاريخ المتشعب والمختلف حسب رواية كل شخصية في الرواية وعلاقتها به ومرماها من وراء ذلك.
الهيكل مشكّل من مجموعة من الزجاج المعشق المقتنى بعناية من المساجد العريقة والكاتدرائيات العتيقة ويرمز إلى التسامح الديني بين المسلمين والمسيحيين الذي يحتاجه عصرنا هذا المرتبك المشقق بالكراهيات والإقصاءات.
أما عن قصة العشق في رواية «عرش معشّق» فهي عميقة وغريبة وسلسة مرهفة حسب مقاربات صحفية، وقال عنها بعض من النقاد إنها حكاية عشق جديدة من نوعها في الرواية العربية التي اعتادت أن تكون البطلة المعشوقة أو العاشقة فاتنة خارقة الحسن وبأوصاف جسدية أنثوية فائضة ملتهبة، بينما في «عرش معشّق» فإن البطلة (نجود/ زليخا) ذات شكل خارجي بشع منفر في مطلقه إلا أنه يخبئ عالما من الجمال الداخلي المخفي الذي جعلها توقع في غرامها أوسم الشباب وأذكاهم، هي قصة حب ليس فيها من كلاسيكيات القصص شيء سوى سمفونية من دقات القلب المتصاعدة.
* من هي «نجود»: شخصية فتاة يتيمة تعاني اضطهادا اجتماعيا؟ أم مرآة تكشف عيوب من حولها في مجتمع متخم بالنواقص؟
** القراءات النقدية والمقاربات الصحفية والتناول الأكاديمي والتعليقات التي تصل إليّ من القراء تؤكد الشطر الثاني من استفسارك، نجود التي تنصلت من اسم أختها المتوفاة وأعطت لنفسها بكل حرية اسم زليخا، وجودها ليس بريئا إنه تلبس تاريخي واجتماعي ونفسي، ويحتمل مستويات قرائية متعددة وسأترك للقارئ حرية الفصل.
* بعد تجربة حافلة في ميدان الشعر، دخلت في 2010 عالم الرواية من بوابة «الذروة» التي تبعها عدة نتاجات أخرى لقيت نجاحا كبيرا (تتويج «نادي الصنوبر» كأفضل رواية في 2012). حدثينا عن سر هذه النقلة النوعية، وهل نستطيع القول إنكم «طلقتم» الشعر بشكل كلي، أم هو نوع من المراوحة بين الجانبين؟
** الشعر بالنسبة لي ليس مجرد تمرين كتابة بل إنه نمط حياة، لا فكاك لي منه حتى لو أنا حاولت ذلك، إنه منسكب في كينونتي لعله يشكل أكثر من نسبة الماء في الجسد، الشعر طبيعتي الأولى التي جبلت عليها منذ طفولتي وهو يسري في تفاصيل حياتي اليومية وطريقة تعاملي مع العالم إنه قدري.
لم أختر أن تكون حواسي هكذا يقظة حيال كل شيء حولي، قد يكون مصدر ألم أو قلق وجودي أو فرح عارم. شيء قد لا يشعر به الآخرون وأغبطهم لذلك.
صحيح أن الشعر وعي تاريخي واجتماعي وهندسة لغوية بامتياز ولكنه أيضاً وحش يبدو أليفا يربض داخلك بألف مخلب وألف وردة وألف منظار وملايين المسامات الملتقطة لهسيس ما يدورحولك.
أن تفكر في أن تنفصل عن الشعر في هذه الحالة فأنت كمن يضع خيطا وسط النهر ليفصل المياه عن المياه، ما أنشره قليل إن قورن بما يتلاطم داخل بحاري الجوانية، الجميل أن القراء يتفاعلون كثيرا بالقليل الذي أنشره على الفيسبوك أو في مجموعاتي العشر المنشورة. هذا يسعدني ويؤكد لي أن الإدهاش مازال ممكنا وأن الأرض لم تصبح رمادية كلها.
أما السرد فمنذ طفولتي أحببت الحكاية عشقت متعة سماعها ولعل كل قصيدة كتبتها هي تخطيط مركز لفكرة قد تصبح رواية متكاملة، ولأنني لست أنانية فحين اشتد ساعد السرد لدي وددت إشراك الآخرين في هذه المتعة الغريبة.
السرد لم يفكّ عني غوايته وتبعني بهدوء وإصرار ولعل أول نص سردي طويل كتبته وأنا تلميذة في ثانوية «لطفي» بمدينة وهران قبل الجامعة بسنوات، ناقشه زملائي التلاميذ بعد أن أسسنا جمعية صغيرة أسميناها آنذاك «الجبرانية» (نسبة لجبران خليل جبران)، زملائي هؤلاء أبدوا إعجابهم الكبير وقدموها لأستاذنا للغة العربية الذي بدوره تنبأ لي بكتابة متفردة.
لم أتسرع في النشر بل ذهبت نحو القراءة باللغات الثلاث العربية والفرنسية والإسبانية. وربما لأنني قريبة من الطبيعة أنصت إلى جوارحها بكل جوارحي وأراقب نمو مخلوقاتها من طيور ونبات وظواهر، أضحيت أومن أن الأشياء إن لم تأخذ وقتها في التكون الطبيعي والاكتمال فستخرج إلى العالم بعرج أو عوج أو نقص أو عاهة ما. تعلمت الصبر على قوانين الطبيعة، لا أستعجل النشر وأترك للنص الوقت كي ينمو ويتطور مثل الشجرة أو دورة اشتداد أجنحة فراخ الحمام.
* ثمة فرق كبير بين الشعر والرواية (رغم أن البعض يرى أن الرواية عالم كبير يتسع لجميع الأجناس الأدبية الأخرى)، إلى أي مدى نستطيع توظيف الشعر في الرواية؟ ومتى يجب علينا «التخلص» منه كليا؟
** خلال تجربتي في ممارسة الجنسين الأدبيين معا، لدي قناعة بأن هناك أمرا أساسيا لا بد منه وهو التعامل مع اللغة وهي المادة الأولية، ولا بد من امتلاك ناصيتها إلى درجة الرقص الخطير على ظهر فرسها الجموح أو حبلها المتأرجح فوق الهاوية.
اللغة شرط أساسي ومحوري للكتابة، اللغة مثل غريمتي نتعارك كل يوم، فبينما تحاول هي التمسك بذاكرتها أفتكّ منها حريتي في القول والتشكيل الجديد لبوح واقع جديد وحالات مستجدّة تلائم ما أعيشه في عصري وأقنعها أنه لا يمكن الإبهار دون ذلك.
وأنت تسأل عن الفرق بين كتابة الشعر وكتابة الرواية، أتصور أن كتابة الشعرتشبه صناعة سهم رقيق مدبب أو ناي صغير مزخرف ذي ألحان تشجي بينما كتابة الرواية فهي مثل صناعة سفينة كبيرة ركابها كثيرون ذوو مصائر متباينة.
إلا أنه في الحالتين لا تعجبني الزوائد فالجملة التي تكرر الفكرة أو لا تدفع بدفة المعنى نحو الأمام مضيعة لوقت القارئ في عصرمتسارع النبض وعدم احترام له، ولعقله لذلك أحاول أن أكتب القصيدة المركزة التي تدعو قارئها للتفاعل الذهني والوجداني، وأما الرواية فإنني أكتب في مئتي صفحة ما يمكن أن يتسع لخمسمائة، وأحرص أن يكون نسيج الرواية متقنا دون ثقل الزوائد ودون تكرار ولا حشو.
* لو نتحدت عن تجربتك في الترجمة، ما الغاية من اقتحام هذا المجال، هل هو نوع من الاطلاع على ثقافة الآخر؟ وما الفرق بين الأديب والمترجم؟ وهل من الضرورة أن يكون مترجم الأدب أديبا؟
** سؤالك في غاية الأهمية، فالترجمة هي الحلقة المفقودة في عالمنا الفكري والثقافي العربي الذي يراوح في مكانه، ولعل التاريخ يؤكد ذلك فالأمم التي استطاعت أن تصنع المجد عبر التاريخ هي تلك التي ارتكز اهتمامها على فهم دور ترجمة ما أبدعه الآخرون في جميع المجالات العلمية والفلسفية والأدبية، الاكتفاء الذاتي كذبة سوداء.
بالنسبة لتجربتي المتواضعة فقد نقلت إلى العربية إبداعات شعرية وروائية رأيتها جميلة من اللغة الإسبانية والفرنسية واستحسنت أن يطلع عليها القارئ باللغة العربية.
أجل، مترجم الأدب في اعتقادي من الضروري أن يكون مسكونا بظلال اللغة ومكنوناتها الجوانية وسحرها وسرها كي يوصل المتعة إلى المجال اللغوي المترجم إليه، لمست ذلك من الذين ترجموا بعض كتبي إلى اللغة الفرنسية مثل الشاعر عبداللطيف اللعبي والروائي رشيد بوجدرة والشاعر علي الجنابي وعبدالقادر ربيع وغيرهم، وإلى الإسبانية مثل الدكتورة والشاعرة خانين آلكاراث وغيرها مثل الترجمات إلى الهولندية والصينية. اللغات تقربنا من الآخر وتثري ذواتنا في هذا العالم المغلق الذي يبدو مفتوحا على آخره.
* ما هي المشكلات السياسية والاجتماعية التي واجهتها خلال مسيرتك الطويلة (كامرأة وأديبة)؟ وهل أثرت على نتاجك الأدبي عموما؟
** ليس بالأمر السهل أن تكون الكاتبة امرأة في عالم ذكوري يضع نظارة كاشفة للعورات، ليس سهلا أن تتمسك بإنسانيتها وأنوثتها وأمومتها وجنونها الإبداعي. أحدث نفسي أحيانا حينما أرى بعض الظواهر تجاه النساء في الوسط الثقافي فأقول أن تكوني امرأة فهي تهمة مسبقة تولد معك وتظل معك وتكبر معك وتعيش معك ولا تموت معك، حتى وإن كنت أقرب إلى الملائكة.
و»التهمة» هو عنوان مجموعتي الثانية الصادرة سنة 1984، لكن لحسن الحظ فإن للهشاشة قوتها العجيبة التي تحطم كل الأسوار الوهمية وأحجار العثرات التي توضع عنوة في الطريق يحدث حينما تنصت باهتمام إلى الصوت الصافي الهامس الذي في داخلك، ذلك ما فعلته بإخلاص وهدوء كلما خطوت في تجارب الحياة اجتماعية كانت أو سياسية أو أدبية أو فنية.
* كيف ترين واقع الأدب الجزائري في الوقت الحالي؟ وإلى أي مدى نجح في التعبير عن هموم المجتمع؟ وأيهما أقدر على ذلك: الشعر أم الرواية؟
** يستند الأدب الجزائري على تجربة فريدة في الوطن العربي بكتّابه الشهيرين الذين ألفوا باللغة الفرنسية لظروف تاريخية يعرفها الجميع مثل محمد ديب وكاتب ياسين ومولود فرعون ومولود معمري وآسيا جبار وغيرهم، ثم بالعربية الطاهر وطار وعبد الحميد بن هدوقة.
إننا لم نأت من فراغ لأن ريبرتوار (ذخيرة) التأليف الجزائري لم يخل من مفكرين في كل المجالات ولهم إضافاتهم في الفكر العربي والإنساني.
إن الجيل الذي يكتب الآن صحيح أنه يطلع على ما ينجزه المشرق والمغرب ولكنه يستمد ناره من مرجل المجتمع الذي يعيش فيه ويأخذ تميزه من تراث له مازال بكرا.
وبعض الدارسين المشارقة – سامحهم الله- بهم عنترة شديدة ويظنون أن اللغة العربية تنصب خيامها عندهم فقط فلا يلتفتون لما نكتبه نحن المغاربيين إلا إذا كنا أشباه مشارقيين وكأن التميز واختلاف محلياتنا بدعة.
بالنسبة للشطر الثاني من سؤالك في أيهما أقدر على التعبير عن واقع الناس أهو الشعر أم السرد الروائي، أقول إنهما معا قادران على ذلك ولكن بشرط تحقق الصدق الفني والجمال، لا يشفع الموضوع المطروح رغم قيمته الاجتماعية والسياسية والتاريخية إذا خلا العمل الإبداعي من الجمال، وفي القدرة على التحكم في اللغة ومستوياتها ونسج الحبكة ومصائر الشخوص وتنامي الفكرة وكسر النمطية في طرق السرد الكلاسيكي.
* ما هو دور المثقفين العرب في ظل إفلاس الساسة في دول «الربيع العربي»؟ وما هو نوع الثقافة التي أنتجها هذا الأخير في ظل الفوضى العربية المستمرة؟
** لا يخفى على المثقف المتتبع للشأن العربي القبضة الحديدية التي كانت تشد بقوة على رقبة الشعوب العربية وسيادة الصوت الواحد الآمر الناهي وغياب الديموقراطية التي تنظم موازين القوى والمعارضة والنقابات وتحدث التوازن، ولعلنا جميعنا ندرك أن المثقف العربي المتنور المخلص لأفكاره والذي حاول أن يرفع الصوت المختلف ظلّ طويلا في الظل، الظل الناتج عن الإقصاء أو خلف أسوارالأسر.
إذن فإن غياب التأطير لم ينتج ثورة بل غضبا عارما انتحاريا ما زالت عواقبه تبدو وخيمة، في غياب تقاليد الحوار مع معارضة مفترضة لها تصو رأفق مستقبلي جديد جعل الشارع العربي يجري في كل اتجاه حتى كاد أن ينزلق إلى الهاوية الظلامية.
وفي روايتي «الذروة» الصادرة عن «دار الآداب» سنة 2010 والتي كتبتها ما بين 2008 و2009، تحدثت عن الأفق الغائم الذي يسبق العاصفة. وكذلك في قصائد من مجموعتي الشعرية «حجر حائر» الصادرة عن دار النهضة العربية سنة 2008 كنت أشعر بهدير عميق يعتمل غضبه في أعماق المجتمع العربي الصامت على مضض.
ولأن المثقف ومنه الأديب في بلداننا العربية لا يملك جيوشا جرارة ولا سلطة القرار فله قلمه فقط يضعه كأصبع على الجرح النتن الخطير ليخطر من ليس به صمم، لكن طبيعة السلطة المطلقة هي هكذا خلقت بدون آذان.
لي أمل كبيرالآن وأنا أرى المثقف العربي يندمج من جديد وعلى الملأ محاورا ومجادلا محاولا ربط جياد حديثة للعربة التي ضاع اتجاهها وتصويب مسار مجتمعه الذي كاد أن يسقط في هاوية التعصب والعودة الانتحارية إلى القرون المظلمة.
________
*القدس العربي